قضيت في داغستان ما يقرب من ثلاثة أسابيع خلال عام 1993 في إطار رحلتي التي زرت فيها كلا من ألبانيا وبلغاريا وأوكرانيا وروسيا، أقمت خلالها في كل من الأولى والأخيرة لفترة من الوقت ومررت عابرا بالبلدين الآخرين، وخلال فترة إقامتي في روسيا التي طالت إلى ما يزيد عن أربعين يوما سافرت إلى ماختشكالا عاصمة داغستان وأمضيت فيها تلك الفترة منتظرا ميزانية وأوراق افتتاح مكتب لجنة الإغاثة الإنسانية هناك، لكن وقت الانتظار طال بلا بوادر لتحرك الوضع ومن ثم قررت العودة إلى مصر..حول مشاهداتي وانطباعاتي عن الحالة الإسلامية لداغستان وقت الزيارة سجلت تلك الذكريات.
ألف باء..داغستان
داغستان جمهورية تتمتع بالحكم الذاتي في إطار الاتحاد الروسي وتقع في إقليم شمال القوقاز على الشاطئ الغربي لبحر قزوين ويضم الإقليم كلا من الشيشان، والأنجوش، وكباردينو-بلكاريا، وكلميكيا، عاصمتها محج قلعة أو مخاتشكالا كما ينطقها أهلها، كان تعداد سكانها في ذلك الوقت يبلغ 3 مليون نسمة، نسبة المسلمين منهم أكثر من 90 % وباقي السكان من المسيحيين واليهود، مذهب المسلمين هناك هو المذهب الشافعي، وتنتشر فيما بينهم الطريقة النقشبندية، يوجد في داغستان حوالي 30 لغة ولهجة محلية أشهرها: الأواري، والقومق (وهي لهجة من لهجات التركية)، إضافة إلى اللغة الروسية..وهي اللغة الرسمية هناك.
المسجد.. والإسلام الرسمي
كان أول موضع ذهبنا إليه في ماختشكالا بعد أن وضعنا حقائبنا في السكن الطلابي (أو الأبشيجيتي كما يسمونه بالروسية) الذي استضافنا فيه عدد من الإخوة الطلاب العرب لفترة من الوقت قبل أن ننتقل إلى الفندق هو المسجد الجامع، ويبدو أنه الوحيد في العاصمة، وفي المسجد (وكنا قد وصلنا يوم جمعة) وجدنا منظرا مختلفا عما شاهدناه في مسجد أدهم بك في تيرانا..فالمسجد يتكون من طابقين، مكتظ بالمصلين، يقوم الإمام فيه بإلقاء دروس كثيرة قبل الصلاة باللغتين الآوراية والروسية، وفي كل مرة يصلون على من حضر وغاب من أموات المسلمين، وبعد ذلك يخطب الإمام باللغة العربية خطبة قصيرة ثم يصلون صلاة الجمعة، والمسلمون هناك على مذهب الإمام الشافعي.
في الجمعة الثانية لنا بالمسجد خطب المفتي، هو رجل زار سوريا ولبنان بدعوة من الأوقاف هناك، وتأثر بداعية "الأحباش" في لبنان عن طريق رجل لبناني صادق المفتي وأثر فيه، فصار يمدح فيه ويقول عنه أنه مجتهد العصر، وأنه يحفظ البخاري، وبناءا على حبه وانبهاره به صار يحذر الناس من الوهابيين ومن الإخوان المسلمين واصفا إياهم بالعملاء وأنهم يريدون بالدولار تغيير معتقدات الناس وقد أصدر الرجل بعد ذلك بيانا يهاجم "الإخوان المسلمين".
كابوس الشيوعية ومحو الفوارق
الناس في داغستان بدوا على جهل شديد بأبجديات الإسلام، وإن كانت لديهم عاطفة قوية تجاهه، وقد أدى الحكم الطويل للشيوعية إلى محو الفوارق الثقافية بين المسلمين وغيرهم على الأقل في الظاهر، فإنك إذا سرت في شوارع ماخاتشكالا لا تكاد تلحظ الفرق بين المسلمين وغيرهم، ولا تكاد تلحظ أي مظهر من المظاهر يقول لك أن هذا بلد أغلبيته من المسلمين، وكأن هذا الجمع الكبير في صلاة الجمعة يتبخر بعد الصلاة، وقد صادفت فترة إقامتي في داغستان شهر رمضان فلم ألحظ أي مظهر يقول لي أنه شهر مميز لدى المسلمين، ولا حتى أنه شهر صيام..فالناس يسيرون في الشارع يدخنون ويأكلون اللب والخمور تباع هنا وهناك في الأكشاك والمحلات، الشوارع خالية من الزينات والفوانيس التي نلحظها في شوارعنا عندما يهل رمضان. هذه الحالة البائسة من البعد الظاهري عن الإسلام في ماخاتشكالا تختلف عن الحالة في الأقاليم الريفية بشهادة كل من زاروها، حيث الناس أقرب إلى الإسلام وأكثر احتفاءا بالعرب والمسلمين ربما لأنهم لا يرون العرب والمسلمين من طلبة الجامعات الذين يقدمون بسلوكهم المنحرف وسقوطهم في الرذائل دعاية سيئة للإسلام والعرب، وربما كان الناس في الأرياف كذلك لبعدهم عن المؤثرات الفكرية والسلوكية الفاسدة في العاصمة.
ومع ذلك فأينما ذهبت في داغستان إلى أي مكتبة لبيع الكتب وجدت كتابا أو أكثر عن الإمام شامل "الإمام الثالث لحركة المريدين، أحد روّاد الجهاد الإسلامي في القفقاس، وشيخ الطريقة النقشبنديّة في بلاد داغستان"، والذي صار جزءا من تاريخ بلاد القفقاس ويمثل لديها مثارا للعزة والفخار لأنه استطاع أن يدوخ الروس عشرات السنين قبل أن تستطيع روسيا القيصرية بجيوشها أن تهزمه.
داغستان..وجوه وشخصيات
التقيت في داغستان بعدد من الشخصيات المسلمة رجالا ونساءا والتي تعطي انطباعا عن الرغبة الكامنة لشعب داغستان للعودة للإسلام بالرغم من البعد الظاهري عنه في شوارع العاصمة:
0 الدكتورة عائشة شعيب: وهي طبية أخصائية نساء وتوليد عمرها حوالي 48 عام، طلقت من زوجها لإدمانه الخمر، كانت لها طموح في مشروع إسلامي طبي هو الجمعية الطبية الإسلامية تنشء من خلالها دارا للتوليد ومدرسة تمريض إسلامية للفتيات ومشغل تفصيل للملابس الإسلامية للنساء، سعت حتى ووفق لها على تسجيل الجمعية وعرض عليها مستشفى قديم لشرائه أو إيجاره لعمل المشروع، كانت لها تجربة سيئة مع أحد ممثلي الهيئات الإسلامية الذي أعطاها مبلغا من المال ليساعدها في مشروعها، ثم عاد وتذكر أنه ليس من سلطته إعطائها ذلك المبلغ فاسترده، مما ترك انطباعا سيئا لديها وملأها بالثورة والشك في جدية تلك الهيئات، وبعد جهد أفلحنا في تهدئة ثورتها وقمنا بزيارة موقع المستشفى وتصويره، وبعد ذلك حضر مدير مكتب هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية (السعودية) في روسيا الشيخ عبد الحميد داغستاني لزيارة منطقة شمال القوقاز وإقرار بعض المشاريع وتمويلها، وقد اتفق معها على إيجار المستشفى لمدة عشر سنوات وتحمل تكاليف المشروع.
0 الدكتور أحمد قاضي: زعيم حزب النهضة الإسلامي في الاتحاد السوفيتي السابق آنئذ، وهو طبيب أسنان أواري داغستاني عضو في البرلمان الداغستاني، يجيد العربية ولديه ثقافة سياسية واسعة وعلم بالتاريخ المصري الحديث، وقد دعانا للإفطار في بيته أول أيام رمضان وتحادثنا كثيرا عن الأوضاع في مصر وداغستان.
0 الأستاذ الدكتور حجي حسن: أستاذ جراحة الأورام بمستشفى الأورام التابع لمعهد الطب في ماخاتشكالا، تعرفت عليه عن طريق الدكتور قاضي، وذلك لأنه كان لديه تصور كامل عن برنامج لمدرسة التمريض الذي تحدثت معه فيه الدكتورة عائشة، بدا أن لديه تصورا تفصيليا حول البرنامج بمحتوياته الطبية منها والإسلامية، والرجل على الرغم من مكانته العلمية إلا أنه بدا إنسانا متواضعا ومتدينا، وقد سعى معنا لمقابلتنا بنائب مدير معهد الطب البروفيسور "أحمد عيسى حميدوف" وهو رجل مسلم، ويعد من أعظم جراحي داغستان، وله شهرة في الاتحاد السوقيتي كله، وتحدثنا في احتياجات المستشفيات في داغستان والتي تتركز في الأجهزة الطبية كالمناظير الجراحية، وأجهزة المعامل، وتحدثنا عن إمكانية زيارة أطباء متخصصين في جراحات المناظير من مصر بأجهزتهم. وقد رتب لنا الدكتور حجي أيضا موعدا مع وزير التعليم والذي بدا متجهما ورفض إعطاء لجنة الإغاثة أي مدارس أو أراضي لبناء مدارس عليها حيث أشار إلى أنه بصدد الاتفاق مع الحكومة المصرية والسعودية لإنشاء كلية للغة العربية والدين الإسلامي، وإذا تم له ذلك فلا حاجة عنده للتعاون معنا.
0 وممن قابلناهم أيضا مجموعة من المسلمين الطاجيك الفارين من الاضطهاد الشيوعي هناك، أحدهم كان يعمل مديرا لمدرسة إسلامية والآخر مدرس فيها، وقد فروا من الحرب الأهلية الدائرة هناك في ذلك الوقت، وقد اعتقلت السلطات الشيوعية والد مدير المدرسة للضغط عليه للعودة، ومن ثم فقد سافر إلى قيرغيزيا لمقابلة صديق له هناك لإيجاد حل لتلك المشكلة، أما المدرس فقد عذب الشيوعيون أسرته بعدما فر لمعرفة مكانه، وتركته وهو يبذل محاولات بطريق غير مباشر لإحضار أهله إلى داغستان.
داغستان والأمل الإسلامي
شهدت داغستان خلال فترة تواجدي بها إقبالا من العديد من الهيئات الإغاثية الإسلامية على بناء عدد من المشاريع التي تساهم في إعادة الهوية للشعب الداغستاني، من بين تلك المشاريع:
- مشروع الجامعة الإسلامية الداغستانية: وهي في الحقيقة ليست بجامعة ولكن أصحاب فكرة المشروع حرصوا على تلك التسمية حتى يبعدوا شبح "التجنيد" الإجباري في الجيش عن الطلاب! وهي عبارة عن مدرسة إسلامية قديمة حولت في أثناء الحقبة الشيوعية إلى مدرسة للموسيقى، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي نشط الأهالي فاستعادوها كمدرسة إسلامية مرة أخرى، وقد قابلنا فيها الكثير من الطلاب والطالبات القادمين في جلهم من الأرياف المحيطة بالعاصمة، وكان يعيب المدرسة ضعف إمكانيات المكان، وعتاقة المناهج الدراسية واعتمادها على حفظ المتون والحواشي، وقد تعهدت هيئة الإغاثة الإسلامية (السعودية) بالتكفل بالمشروع لتطوير إمكانيات المكان وإيجاد مناهج بديلة، والأهم من ذلك وهو ما كانت تسعى للتعاون فيه مع لجنة الإغاثة الإنسانية وهو تعهد الأفراد (مدرسين وطلاب) بالرعاية الدعوية والتربوية لخلق جيل مسلم يحمل أمانة الدعوة بين قومه، وهو ما يمثل إلقاءا للحجر في الماء الراكد ليخلق دوامات متسعة من الغد المشرق بالصحوة الإسلامية.
- مشروع المدرسة الإسلامية في كيزيليورت (مدينة قريبة من العاصمة) وقد افتتحتها هيئة الإغاثة الإسلامية السعودية أيضا، ولكن لم يتيسر لي زيارتها قبيل مغادرتي لداغستان.
- هناك المشاريع التي تحلم بها الدكتورة عائشة والدكتور حجي والتي كان من المفترض أن تتعاون فيها هيئة الإغاثة السعودية ولجنة الإغاثة المصرية
العمل كان في بدايته، والأمل كان كبيرا في تعطش أهل داغستان –خاصة أهل الريف منهم- إلى عودة وجه داغستان الإسلامي والذي غاب طوال حقبة طويلة من الحكم الشيوعي والروسي.
الطلاب العرب..ثروة قابلة للضياع
أينما ذهبنا (أنا والزملاء المرافقين) في رحلتنا الممتدة من ألبانيا إلى داغستان وجدنا مبادرة كريمة بالعون من الطلاب العرب، وقد تميزت مدن الاتحاد السوفيتي السابق بجذب أعداد كبيرة من الطلاب من كافة بلدان العالم- ومن بين تلك المدن ماخاتشكالا-، وقد صادفنا في رحلتنا تلك صنفين من الطلاب، صنف كريم الأخلاق محافظ على دينه، يستعين بالرفقة الصالحة على ذلك، وصنف هوى في مهاوي الرذيلة والضياع مستفيدا من انفتاح البلاد وشرهها الاستهلاكي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وتحول الكثير من فتياتها ونسائها إلى سلعة في سوق الرقيق الأبيض، ولم يكن هناك في المجتمع الروسي ولا في مجتمع الدارسين هناك تجمعا طلابيا للمسلمين (وقد كان هناك سعي حثيث من الصنف الأول من الطلاب لتأسيسه) أو مركزا إسلاميا يجتذبهم بأنشطته ويلجأون إليه إذا حدثتهم أنفسهم بالتوبة والعودة إلى ذواتهم وهوياتهم.
(ملخص للورقة المقدمة لندوة الإسلاميين والمجتمع المدني- نشرة إسلام 21-عدد 31-ديسمبر 2001)
اقرأ أيضاً على مجانين:
داغستان..سطور من دفتر الحالة الإسلامية / التوصيف والتوثيق..ألف باء النهضة