سأل سائل: هل يوجد طب أو كيمياء أو صناعة إسلامية؟ أو هل يوجد علم نفس أو اقتصاد أو علم اجتماع إسلامي؟
بل من الناس من ظن أن "إسلامية المعرفة "هي" كهانة ـ كنسية" جديدة، تريد أن تجعل من علوم ومعارف الحضارة الحديثة "دينا خالصا" فتقدسها قدسية الدين، وفي هذا قتل للإبداع والابتكار في علوم الحياة، وتجميد لها وجمود يحول بينها وبين التطور والتقدم.
ومن الناس من ذهب به الظن وتخيل أن إسلامية المعرفة إنما تعني قطيعة كاملة بين العلوم والمعارف الإنسانية ـ الاجتماعية منها والطبيعية ـ التي أبدعها العقل الإنساني في الحضارات غير الإسلامية، مما يعني الحرمان من ثمرات العقل غير المسلم في المعارف والعلوم، فنزداد عزلة علي عزلة، ونوغل في الانفلاق، اللذين يفيضان بنا إلي الذبول والانقراض!.
ـ وتوهم البعض أن إسلامية المعرفة ليست أكثر من إضافة بعض آيات القرآن الكريم، أو أحاديث نبوية شريفة إلي نظريات أو قوانين العلوم التي أبدعتها مدارس الفكر الغربي، لإضفاء صفة "الإسلامية" علي هذا العلم الغربي، دونما أي إضافة حقيقية لهذه العلوم؟!
ويوجد من هذه الجمل الاعتراضية الكثير.. وهي اعترضات مزعومة لا نصيب لها من الصحة والحقيقة عند التمحيص والتدقيق، إذا فما هي الحقيقة في هذه القضية؟ لتبيان المقاصد، وتبديد الغموض، وقطع مزاعم الخصوم.
والآن.. ماذا يعني هذا المصطلح "إسلامية المعرفة"؟؟
ولكن قبل معرفة حقيقة هذا المصطلح ثمة نقاط أود أن أشير إليها:
الأولى: إنني أوافق خصوم الإسلامية ونقادها إلى أن "الإسلامية" لا تعني ـ ابتداء ـ تحكما بالمعادلة الرياضية أو الكيميائية، ولا تدخلا لصياغة القانون الفيزيائي، أو تعديلا لنظرية في الذرة، أو اقتحاما فجا لمختبر...
أبدا، لأن هذه أنشطة علمية مجردة.. بمعنى أنها وسائل حيادية، سواء تمت في ظلال توجه مادي، أو علماني، أو مؤمن.
وإنما تكون "الأسلمة" في حزمة الإجراءات العلمية المرتبطة بهذه الأنشطة، وطبيعة أهدافها، وتوظيف النتائج والتطبيقات المترتبة عليها في واقع الحياة البشرية، إلى ما فيه خيرها ونفعها، بدلا من أن تحول المنجزات والتقنيات الحديثة إلى سلاح للقهر والاستبداد واستلاب مقدرات الآخرين.
ومن ثم يبدو جليا أنه لا الكيمياء ولا الفيزياء ولا الرياضيات أو علم طبقات الأرض تندّ أو تخرج عن عملية الأسلمة.
الثانية: سوف يصاب نقاد وخصوم "الأسلمة" بالدهشة إذا علموا أن "الأسلمة" تقف بجانبهم في نقدهم للآراء والمعتقدات التي ابتدعها الإنسان وما أنزل الله بها من سلطان، تحت أي مسمى كان: أديان، أو مذاهب، أو نظم.. الخ .
هذه المسميات التي تشمل مختلف أنواع الوثنيات: يونانية، أو رومانية، أو مصرية، أو إفريقية، أو هندية، وكذا جميع الكتابات التي يزعم أصحابها أنها مقدسة مثل: الهندوسية والبوذية، وتشمل أيضا الكتب المقدسة لليهودية والمسيحية إلى حد كبير جدا .
ومرجع دهشتهم إذا علموا أن الإسلام يهدف للتوصل إلى الحقيقة وكشفها، وأن السعي وراء الحقيقة يعتبر واجبا شرعيا على كل مسلم، وعبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، ولذا فإن الطريقة العلمية قد كشفت وطبقت لأول مرة بواسطة العلماء المسلمين كما دونته حقائق التاريخ.
ولا عجب في ذلك، لأن الاكتشافات العلمية تقوي إيمان المسلم بدلا من أن تنقصه أو تحاربه كما كان الشأن عند الآخرين، ولأنها أيضا تزوده بيقين أعمق بالله الخالق وقدرته ووحدانيته وبديع صنعه في خلقه.
الثالثة: إن "أسلمة العلم" تعني، وفق هذه الرؤية، منح النشاط العلمي ـ كما ونوعا ـ طاقات هائلة تدفعه للمزيد من البحوث والجهود، للكشف عن حقائق السنن والنواميس والطاقات المذخورة في الكون، والتي طالما أشار إليها القرآن الكريم، ودعا المسلمين إلى الوصول إليها، وإخراجها للناس للاستفادة منها، ليتمكنوا من عبادة الله وحده وعمارة الكون.
والآن عودة للسؤال: ما هي "أسلمة المعرفة"؟ وما حقيقتها وغايتها؟
إن "الإسلامية" هي النسبة إلي الإسلام، والإسلام هو الدين القيم الذي أكمله الله تعالى وأتمه نعمة، ورضيه لخلقه.. الإسلام منهج حياة ونظام مجتمع.. هو رسالة الله للبشر كافة، لتوجيه وترشيد الإنسان في سلوكه وتوجهه، هو للطبيعة البشرية السوية، سواء عاشت هذه الطبيعة في الصحراء أم على قمم الجبال، أم على شواطئ الأنهار والبحار، أم في الشرق والغرب على السواء، إنه رسالة للبشرية أينما كانت وحيثما وجدت، ليهديها الطريق المستقيم، ويجنبها الوهم والخرافة في التصور والسلوك، وفي العلم والفكر..
والإنسان في الإسلام بشر، ويبلغ بالإسلام أعلى درجة البشرية.. وفي كل الأحوال فإن الإسلام لم يترك هذا الإنسان لنفسه وأهوائه، أو ميوله ونزغاته، وإنما نرى الإسلام يمده بالتوجيه في جميع نواحي حياته وأنشطته الفكرية والسلوكية... بحيث يجعل منه شخصية سوية متفردة.
وفي هذا الإطار تصبح "الإسلامية" ـ منهجا وتطبقا ـ حصنا منيعا لحماية هوية الأمة وشخصيتها في مواجهة موجات التغريب والعلمنة، والذوبان في طوفان العولمة.. الخ .
ولا شك أن معادلة "إسلامية المعرفة" تتكامل في أبعادها المختلفة إذا أخذنا في الاعتبار طرفها الآخر وهو العلم، من منظوره الصحيح وهو المنظور الإسلامي، والإسلام كما هو معلوم الدين الوحيد الذي قام على العلم منذ اللحظة الأولى.. فالقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على التفكر والتدبر وإعمال العقل في آيات الله وسننه الكونية.. سواء في الآفاق أم في الأنفس.. وفي ذات السياق نجد أن القرآن الكريم ذم الغافلين، ونفر من الجهل، ونعى الذين يهملون أدوات العلم ـ الحواس والعقل ـ ولا يستخدمونها في العلم والاستزادة منه.
وغني عن القول أن العلم في الإسلام لا يقتصر على العلم الشرعي فقط، وإنما هو بجانب ذلك يتناول حقائق العلوم الكونية في إشارات تدل على عظمة الله وقدرته، وبديع خلقه ووحدانيته.
فالعلم في الإسلام ـ الشرعي، والكوني، والإنساني ـ متعانق ومتناسق، كما أنه عملية شاملة ومستمرة، لا تعرف التوقف ولا الانفصال.. وهو بهذا الامتزاج يعطي في محصلته النهائية حضارة إنسانية، خيرة راشدة، متحابة متعاونة..
وهذا يعني أن شعار "الإسلامية" في عمومه لمن يفهمه ويعيه، ويفهم الإسلام ويعيه في حقيقة هديه وإصلاحه، وعدالته وشموله، يعلم ـ دون أدنى شك ـ أن "الإسلامية" ضرورة إنسانية من أجل الإصلاح والرقي والتقدم.. في إطار من القيم الإسلامية، والهداية الربانية .
والأساس الذي تقوم عليه "إسلامية المعرفة" وتنضبط به هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن أشير هنا إلى ركن ركين في هذه الأسلمة وهو قوله تعالى:﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.. تدلنا هذه الآية الكريمة على أن الاتجاه العلمي في الإسلام بدأ في صورة صريحة بـ (اقرأ) ولكن (اقرأ) في الإسلام مشروطة بشرط يوجبه الإسلام ويحتمه، إنها ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بأن تكون: باسم ربك . وهنا يفترق العلم في صورته الإسلامية عن العلم في صورته الغربية.
بل تفترق الحضارة الإسلامية عن الحضارة الحديثة، بل تفترق الحياة الإسلامية فيما يجب أن تكون عليه عن الحياة الأوربية: وذلك أن كل أمر من أمور المسلم يجب أن يكون:(باسم ربك).
فالعلم أسساً وبواعث يجب أن يكون:(باسم ربك) والعلم أهدافاً وغايات يجب أن يكون باسم ربك. يجب أن يكون العلم في سبيل الله أي أن يكون للخير وللفضيلة ولإسعاد الإنسانية. فإن ما كان باسم ربك يحقق كل خير، وكل مكرمة، وكل فضيلة، وتسعد به الإنسانية .
والواقع والحقيقة أن القراءة المأمور بها في الآية الكريمة ليست إلا رمزاً فحسب، إنها رمز لما ينبغي أن تكون علية جميع أعمال المسلم والآية تريد أن تقول: تكلم باسم ربك، قم باسم ربك، اعمل باسم ربك لتكن حياتك كلاماً وصمتاً حركة وسكوناً: باسم ربك.
أي أن تكون كل حياة الإنسان والمجتمع مصبوغة بالصبغة الإسلامية:﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ [سورة البقرة : 138] فـ "أسلمة المعرفة" تؤسس على القراءة "باسم ربك".. أي ثمة حقائق تشير إليها، منها أنها تعني:
٠معرفة ناقدة بصيرة تتمثل وتتمكن من كل معرفة صحيحة.
٠ معرفة تصدر عن قيم الوحي وغايات الرسالة وتتصل يكل صحيح ونفيس من تراث الأمة وفكر علمائها ومفكريها على مر العصور والقرون.
٠ معرفة علمية منهجية، هي معرفة ربانية القيم والغايات في مصدرها، عقلية في فهمها وبحثها ودرسها ونظرها في قضايا الحياة والنفس والمجتمع، والبيئة، والطبيعة، والفطرة الإنسانية.
٠ معرفة تمكن المسلمين في العالم من إعداد القوة الحضارية والمدنية بما يمكنهم من مواجهة ضغوط وتحديات الغير، وبالتالي العيش في أمن واستقلال وسلام .
وبناء على ما تمهد فإن "أسلمة المعرفة" تعني ـ كما يقول الدكتور/عماد الدين خليل:ممارسة النشاط المعرفي كشفا وتجميعا وتركيبا، وتوصيلا ونشرا، من زاوية التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان.أ.هـ
ولكن ما سبق كلام يعتبر مرسلا يحتاج إلى أمثلة وشواهد ..
حيث أن أسلمة المعرفة تقوم على محورين أحدهما تنظيري والأخر تطبيقي وما سبق يعد جزءا من المحور التنظيري وسوف يتبع إنشاء الله ببعض النماذج التطبيقية لـ" أسلمة المعرفة ".
*عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر الشريف
واقرأ أيضًا:
مع التفكر وعجائب المخلوقات في تراثنا الثقافي