المصريون والجن(1)
ثقافة الجن والظروف السياسية والاجتماعية والدينية:
ويبدو أن ظاهرة تلبس الجن أو فرط الانشغال بالجن أو ما يسمى "ثقافة الجن" لها صلة بالظروف السياسية والاجتماعية والدينية، حيث تساهم حالة القهر النفسي والاجتماعي والسياسي في خلق الإحساس بالعجز فلا يستطيع الشخص التعبير عما بداخله في الأحوال العادية فيلجأ الجهاز النفسي إلى حالات الهستيريا الانشقاقية (ينشق جزء أو مستوى من الوعي فيتكلم بصوت مختلف أو يأتي أفعالاً غريبة على سياق شخصيته العادية) لكي يقول ما يريد ويفعل ما يريد، أو إلى الهستيريا التحولية (تتحول المعاناة النفسية إلى أعراض جسمانية عصبية) حيث يدخل في حالة إغماء أو تشنج هستيري وذلك للهرب من ضغوط لا يقوى على احتمالها.
إضافة إلى أن ظروف المجتمع لا تسمح بنضج الكثير من الناس، بل ربما تشجع الخوف والخضوع والتعامل كأطفال أمام كل رموز السلطة من آباء ومعلمين ومديرين وأزواج وحكام، وحين تتعرض هذه الشخصيات الهشة غير الناضجة لأي ضغوط فهي تلجأ إلى الأعراض الهستيرية الانشقاقية أو التحولية تحتمي بها وتجذب بها الانتباه وتستجدي من خلالها العطف والاهتمام، ودائما تعزو كل شيء لعوامل خارجية لا سلطان لها عليها، وبالتالي فهي ليست مسئولة عن أي شيء، وإذا كان ثمة علاج فهو يوجه إلى القوى الغيبية المسيطرة دون تدخل من المريض في أي شيء.
وهذا يسمى في علم النفس "وجهة الضبط الخارجية حيث يربط الإنسان ما يحدث له بالحظ أو بالصدفة أو بتأثير أشخاص آخرين ولا يرى نفسه مسئولا عن شيء أو قادرا على تغيير شيء في محيط حياته، وهو بالتالي ينتظر الحل من خارجه سواء من الظروف أو من الناس.
فقوى الجن هنا تمثل رمزياً في العقل الباطن الشخصي وفي الوعي الجمعي كل قوى القهر والتسلط والإذلال الخارجية والداخلية، فهي ليست بعيدة عن التسلط الأمريكي والإذلال العالمي للمسلمين والعرب والمصريين في كل مناسبة وكل محفل، وليست بعيدة عن أجواء التحكم والاستبداد بالرأي على كل المستويات الداخلية، فالشخص (والمجتمع) المصري يشعر في النهاية أنه مفعول به طول الوقت وأنه عاجز عن المواجهة، ولكي يعفي نفسه من هذا الموقف المهين يقوم بعمل إزاحة لكل هذه المعاني إلى قوى خفية يعتقد اعتقاداً جازماً أنها توجه حياته وتؤثر فيها وأنه لا حول له ولا قوة تجاهها.
وحتى في حالة بحثه عن علاج من تأثير الجن لا يقوم هو بأي جهد إيجابي بل كل المطلوب منه أن ينام على ظهره أو جنبه أو بطنه (حسب مزاج الشيخ المعالج وذوقه) ويقوم المعالج (الشيخ أو القس) بتلاوة نصوص دينية أو شبه دينية حتى يطرد الجن من جسده، وإذا لم يخرج بهذه الطريقة فلا مفر من الضرب بالعصي على هذا الجسد السلبي المستسلم المتخاذل حتى يخرج الجني الذي يركبه . ويساعدنا على هذا الفهم ما نسمعه كثيراً من أن الجن الذي ركب الشخص المصري أو العربي أو المسلم هو جن كافر ، وكأن الكفار الإنس والجن على السواء يمارسون قهراً وتسلطاً وإيذاءاً لا نملك دفعه إلا بوسائل خارقة.
وهذه هي نفس الظروف التي تبنى فيها ابن تيمية فكرة تلبس الجن للبشر حيث كان يعيش في عصر طغى فيه التتار (الكفار) على الأمة الإسلامية وأصاب الناس شيء ضخم من الإحباط واليأس والقنوط بأن الأمة لن تخرج من هذا المأزق الذي هي فيه إلا بتحميل الغيبيات مسئولية الواقع المؤسف الذي حدث للمسلمين.
وقد وردت روايات عن إخراج الجن على يد ابن تيمية كما ذكر ابن القيم في الطب النبوي صفحة 768، وهذه الروايات اعتمدت على اجتهادات خاصة من ابن تيمية، وقد أيده فيها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله– مفتي السعودية والذي قال: "قد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على جواز دخول الجني بالإنسي وصرعه إياه، فكيف يجوز لمن ينتسب إلى العلم أن ينكر ذلك بغير علم ولا هدى؟".
وعلى هذا الرأي يرد الدكتور جمال أبو حسان (أستاذ التفسير في جامعة الزرقاء الأهلية بالأردن) بقوله: "هذا القول الذي قاله الشيخ ابن باز ليس إلا ترديداً حرفياً لما نقل عن الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم –رحمهما الله– وأنا أقول أنه من أسباب انتشار هذه الظاهرة ثقة الناس بكتب الشيخ ابن تيمية، فهو الذي نشر هذه الفكرة بعد أن سيطر عليه الاعتقاد بصوابها من كثرة ما أشيع بين الناس من وجود هذه الظاهرة، فصدقها، كما أن ابن تيمية –رحمه الله– ليس معصوماً، فالعصمة لم يجعلها الله تعالى إلا للأنبياء، وهذا الرجل الحقيقة انتشرت هذه القضية في عصره، وكان بعض الصالحين يأتي إليه ويقول إنا نفعل كذا وكذا وكان يصدقهم فتحولت هذه القضية في زمان ابن تيمية من موروثات شعبية إلى قضية دينية صار الناس يحاكم بعضهم بعضاً بناءاً عليها.
الأمر الثاني: قول الشيخ ابن باز أن هناك إجماع.. ليس إجماع.. أنا والله ما أعرف أن المسلمين اجتمعوا وبحثوا هذه المسألة في مؤتمر علمي عام واتفقوا على حدوث هذه القضية"(المرض النفسي بين الجن والسحر والحسد – الجمعية الإسلامية العالمية للصحة النفسية 2004م-1425هـ).
وقد حاول ابن القيم -تلميذ ابن تيمية– رحمهما الله، أن يكون أكثر تخصصاً في هذه المسألة حتى لا يعزوها كلها إلى الشياطين، فقال في كتابه "الطب النبوي" صفحة 66: "الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه".
ولكن ابن القيم لم يذكر كيفية التفريق بين نوعي الصرع، وربما له العذر في ذلك فقد كان لرأي ابن تيمية عن تلبس الجني للإنسي وصرعه قبولاً واسعاً، كما أنه لم توجد في عصره أي وسائل تشخيصية تبين ما وراء الصرع من أسباب بيولوجية أو نفسية، ولكن يكفيه فضلاً وفخراً أنه استطاع أن يخفف من أثر تعميم رأي ابن تيمية حيال الصرع وأن يقول أن ثمة نوعين مختلفين منه يصيبان الإنسان.
وقد اتضحت الصورة طبياً بعد ذلك وخاصة بعد اكتشاف رسام المخ الكهربائي وبعد التقدم الهائل في العلوم العصبية والنفسية فتبين أن هناك نوعين من النوبات بشكل عام أحدهما تنتسب للصرع الناشئ عن اضطراب النشاط الكهربي في المخ والآخر ينشأ عن اضطراب نفسي يسمى الهستيريا التحولية أو الانشقاقية، وأن لكل نوع من هذه الأنواع علاجات متخصصة بناءاً على أبحاث علمية موثقة.
ويحاول بعض المدافعين عن قضية تلبس الجن للبشر تقوية موقفهم أكثر بإرجاع هذا الأمر إلى حديث للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث ليعلي بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته امرأة بابن لها قد أصاب لمم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرج عدو الله أنا رسول الله". قال : فبرأ (أخرجه الإمام أحمد 4/170 ، 171 ، 172).
هذا الحديث بني عليه كثير من المشتغلين بإخراج الجن ممارساتهم على أساس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك. وعن هذا الحديث يقول الدكتور/ جمال أبو حسان: "هذا حديث منكر روي من عدة طرق مختلفة ليس فيها ولا طريق واحد صواب.. كلها من رواية المجهولين، من رواية الضعفاء، من رواية المنكرين، ليس فيها ولا طريق واحد سلم من النقص.. هذا حديث المرأة والصبي ليس في رواياته ولا رواية واحدة تصلح مستنداً لهذا الذي يقول عنه الناس "(عن كتاب المرض النفسي بين الجن والسحر والحسد.. الجمعية الإسلامية العالمية للصحة النفسية).
ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عالج الصبي بالضرب أو الخنق (في الحديث المذكور)، وإنما ثبت العلاج بالضرب عن ابن تيمية فقط كما ذكر ابن القيم. ولم يثبت في التاريخ الإسلامي أن عرب الجزيرة توافدوا بالمئات أو الآلاف طلباً للعلاج بالرقيا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام، وإنما كانوا يتوافدون لمعرفة الإسلام كدين ينظم حياتهم الدنيوية والأخروية.
أما في عصور التدهور الحضاري والاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي فقد تمادى الكثيرون ممن يعلمون وممن لا يعلمون في هذا الأمر فاعتبروا كل الأمراض تلبس جن واعتبروا أنفع الوسائل هي الضرب المبرح أو الخنق أو الكي أو إيذاء المريض بحجة إيذاء الجن الذي يتلبسه، وقد حدثت مآس كثيرة نقابلها كل يوم وأدت في بعض الأحيان إلى وفاة بعض المرضى تحت وطأة الضرب لإخراج الجني الكافر الذي ركبه، إضافة إلى انتهاك حرمات الكثير من النساء وهتك أعراضهن وابتزازهن على أيدي مدعي إخراج الجن أو العلاج بالقرآن.
ومما استعرضناه نفهم كيف تنشأ الظواهر حين تختلط الثقافة الشعبية بالتفسيرات الدينية خاصة إذا وردت على ألسنة علماء مشهود لهم بالورع والأمانة ومع هذا فليس مقطوع لهم بالعصمة والإصابة في كل ما يقولونه. وعلى الرغم مما أثبته العلم الحديث من معرفة بأسباب الصرع وأسباب النوبات الهستيرية ودوافعها وطرق علاجها إلا أنه يصعب على كثير من محبي ابن تيمية أن يخالفوه فيما ذهب إليه أو يخالفوا الشيخ ابن باز فيما قرره، وهذا أمر يحتاج للكثير من المراجعات الفكرية والمنهجية، فعلى الرغم من المصداقية العالية التي يتمتع بها هؤلاء العلماء الأفاضل (وهم جديرون بها فعلا) إلا أنه لم يقل أحد بعصمتهم ولم يقولوا هم أنفسهم بذلك، وما قالوه كان اجتهاداً في مسألة ليست من أصول الدين الثابتة وإنما هي من الأمور القابلة لإعادة الرؤية، ومن الأمور التي تحتاج لرأي الأطباء فيها فهم أهل الخبرة والتخصص.
ويكاد يكون الوضع السياسي والاجتماعي الذي عاشه ابن تيمية وترعرعت فيه فكرة تلبس الجن للإنس مشابهة للوضع الذي نعيشه فهو وضع الهزيمة والانكسار والخضوع لقوى عالمية ظالمة، فوقتها كانت الهجمة التترية والآن الهجمة الأمريكية، وفي الحالتين شعوب ضعيفة خائفة ومكسورة ومهزومة داخليا وخارجيا.
ويتبع >>>>>: المصريون والجن(3)
اقرأ أيضا:
بين الإبداع والابتداع / قانون منع التمييز العنصري / طريق يشوع: من غزة إلى بيروت / لماذا غابت البهجة عن حياتنا ؟