هل صار إفساد المجال العام سلوكا عاما في مصر يفعله الكل أو يتوافق عليه الكل، ولا ينهى عنه أحد ولا يتجنبه أحد.. ولا يأبه لذلك أحد إلا من رحم ربي وقليل ما هم؟ نظريتي المتواضعة والتي استقرأتها من معايشتي لواقع الحياة خمسة وأربعين عاما، ومقارنتها بواقع الحياة المشاهد في البلاد الكثيرة التي زرتها تجيبني أن: نعم هذا هو واقع سلوكنا تجاه المجال العام في تلك الحقبة من عمر مصر المحروسة، ولكن ما هو المجال العام..وما هي أشكال إفساده؟ هذا ما سأحاول أن أبينه في هذا المقال من خلال تتبع حياتي ومشاهداتي اليومية كمواطن يعيش في أحد ضواحي القاهرة بمصر المحروسة منذ أن تطأ قدمي خارج باب شقتي.
البداية من سلم العمارة
يبدأ المجال العام من حيث تنتهي خصوصيتك بأحوالها وأماكنها وعلاقاتها، ومن ثم فهو يبدأ مما يلي ذلك، ومن هنا يبدأ سلوك الاستهانة والإفساد والصمت المريب، أسكن في عمارة صغيرة ذات ثلاثة طوابق لا يسكن شققها الست إلا أربعة أسر بينما يوجد بها شقتان مغلقتان، إحداهما ملك لصاحبتها، والأخرى إيجار لأخرى تمتلك شقتان وعمارة في شرق القاهرة، وترفض أن تترك شقتها لصاحب العمارة لأنها تمثل ذكريات البداية في حياتها، ولا يهم صاحب العمارة، فقد صارت الشقة وكأنها ملكية لها بلا ملك، أحد جيراننا الأربعة في تلك العمارة ويسكن مقابل شقتي يصر على أن يخرج قمامته -والتي توضع بالمناسبة أسفل شباك شقتي- في غير أوقات مجيء جامع القمامة والذي لا يجيء إلا ثلاث مرات في الأسبوع وكم تكلمنا مع الحاج "جاري" حتى يخرج قمامته قبيل مجيء جامع القمامة، حتى لا تكون أكياس القمامة التي يخرجها وقتما يشاء ملعبا للقطط والكلاب ولكن لا حياة لمن تنادي.
الهواء الذي نتنفسه.. والشارع الذي نسير فيه
عمارتنا التي أسكن فيها تقع في حي يسمى حدائق حلوان وهو جزء من حي حلوان "الكبير" والذي هو ضاحية جنوبية من ضواحي القاهرة، والتي كانت يوما من الأيام سكنى الوزراء ومشتى ومشفى الأثرياء لما بها من عيون كبريتية علاجية كما كانت جزءا من سلة غذاء لسكان القاهرة وضواحيها فقد كانت معظم أراضيها أرضا زراعية خصبة، ومنذ أن جاءت الثورة المباركة آلت على نفسها إلا أن تفسد جو حلوان وبيئتها من حيث أرادت أن تصلح حيث أبت إلا أن تحيل منطقة السياحة العلاجية إلى منطقة صناعية تتضمن من بين ما تتضمن ثلاثة مصانع لإنتاج الأسمنت، ومصنعا يستخدم الأسبستوس في منتجاته لتتحول المنطقة إلى "مباءة" لن أدخل في التاريخ وكان يا مكان.
ولكنني سأحكي عن جيراني وأصدقائي ومعارفي الكثيرون الذين صرعهم سرطان الغشاء البلوري في الثلاث سنوات الأخيرة بفضل بركات الأسبستوس، القليل النادر منهم كان من عمال ذلك المصنع والذي يفصل عمارتنا عنه أقل من كيلو متر بعضهم حتى لم يسكن هنا إلا عاما واحدا من حياته، أغلبهم تركوا أسرا بلا عائل أو بلا أم، كثيرون منهم بين الثلاثين والأربعين، كل عدد من الشهور أصادف أحدا أعرفه وقد أصيب بالمرض.. آخرهم منذ شهر جاري الذي يصغرني بعدة سنوات والذي ذهب ليحصل على الدكتوراه مبتعثا من معهد الفلزات إلى إحدى جامعات ألمانيا وعاد في إجازة لزيارة أهله فوجد نفسه مصابا بنفس المرض.. منتظرا نفس المصير المحتوم.
سأترك الهواء لأعود فأمشي على الأرض، حينا الصغير والكبير (وأظنها حالة عامة في مصر المحروسة) ليس بها شارع واحد يوحد ربنا بلا مطب أو حفرة أو نقرة أو مقب صناعي أو طبيعي، القليل من شوارعنا هو الذي به إنارة، وإن حدث وأناروه مرة، فلا يفعلونها ثانية بالمرة.. فليس عندنا في قاموسنا شيء اسمه الصيانة، شوارعنا الجميلة تشهد تجمعات طيبة وقديمة للقمامة في المناطق الخالية من البناء، لكنها تشهد ظاهرة جديدة تستهدف الشوارع الرئيسية منها بوجه خاص والتي صارت مقلبا لهدد العمارات حتى يحتل ذلك الهدد نصف حارة الطريق.. يعني على عينك يا تاجر و"اللي مش عاجبه يشرب م البحر".
الرحلة إلى حلوان
عندما أريد الذهاب إلى حلوان أتوجه لركوب الميكروباص القريب من البيت، وفي طريقي إليه لابد وأن أسير على طريق مترب بجوار "مخر السيل" والذي صار أكبر مقلب لقمامة المنطقة وحرقها.. وعليك حتى تعبر هذه المنطقة أن تأخذ نفسا عميقا وتغطس في هوائها ذو الرائحة "الزكية" مغلقا أنفك، وعندما يصل بك الميكروباص الطائر وأنت محشور فيه بسلامة الله إلى أرض حلوان تود لو أنك لم تفعلها، فقد صارت عنوانا لا يطاق على العشوائية والفوضى التي نعيشها حيث تختلط في شوارعها حركة السيارات من كل صنف بحركة البشر، بالباعة الواقفون يحتلون نصف الطريق من هنا وهناك وأصوات الكاسيتات المضروبة وأغاني العشوائية أو دعاة السلفية تصم أذنيك من هنا وهناك، مع استمتاعك بنفس مزايا الشوارع التي نراها في بلدنا "حدائق حلوان"، كل ذلك في حالة من الفوضى والاضطراب والقذارة.. هكذا صارت حلوان يا سادة عنوانا على العقد المسكوت عنه بين الناس وحكومتهم.. عقد الفوضى والفساد والفردانية.
علاقات المجال العام عندنا
إذا كان حديثنا فيما مضى من فقرات قد تناول "بيئة" المجال العام وما أصابها من إفساد، فدعونا نتكلم في إيجاز عن نمط العلاقات التي تسود تلك البيئة:
* التوتر والحذر المترقب: لقد صارت أرواح الناس في مناخرهم، وصار الإنسان ينتظر من مجاوره في المواصلات العامة أن يحك له أنفه، أو يدوس له على طرف حتى ينفجر فيه بشحنة غضب مكبوت وعلاقات فقدان الثقة وانهيار رأس المال الاجتماعي.
* حالة بلا قاعدة ولا قانون: دعوني أسألكم وأسأل نفسي هل هناك قاعدة أو قانون يحكم حركة الناس في الشارع المصري وينظم علاقاتهم؟ أجيبك أن لا، فالكل يخرق القانون ويلتف عليه والكل ينطبق عليه قول الباري "هل يراكم من أحد.. ثم انطلقوا" بل إن الأدهى أن الكثيرون صاروا لا يأبهون حتى إن كان ينظر إليهم أحد أم لا.
* الرشوة والإتاوات هي لغة التعامل وإنجاز المصالح: فلا شيء ينجز بسلاسة إلا بالمال، والذي صار حقا مكتسبا، ويعطى ويؤخذ هكذا.. عيني عينك، سواء كان المال رشوة تنجز به مصالحك، أم إتاوة تفرض عليك حتى تغمض الحكومة أو يغمض أصحاب النفوذ عينهم عنك.
* إنهيار الأمان الاجتماعي: البلطجة هي السلاح المسلط في صمت على ألسنة الناس فلا ينطقون، سواء أكانت البلطجة للرضا بالواقع الذي أفسدته أيدينا جميعا، أو لفرض استمرار الأوضاع، الكل ساكت على الكل، والكل ينافق الكل، والكل يأكل من الكل..إلا من رحم ربي.
كل هذا نعرفه ونعيشه فما الجديد؟
لقد ألفنا كل ما سردته واعتدنا عليه، وصار جزءا من حياتنا لا يلفت انتباهنا، ولا يحرك فينا ساكنا.. فما الجديد؟.. الجديد أننا نعيش حالة من الحراك الديني والسياسي والاجتماعي لا يستقيم معها استمرار هذا الحال كما هو عليه:
* فأين المساجد، وأين الشباب من المتدينين الجدد والقدامى، وأين المواعظ الدينية من سلوكياتنا تجاه المجال العام وإفساده، هل صار التدين عندنا فرديا.. سلبيا.. عباديا بلا مردود اجتماعي؟ ألا نتذكر آية أو حديثا واحدا ينهى عن الإفساد في الأرض ويدعو للإصلاح؟ ألا نعلم أن الله قد يغفر ذنبا في حقه ولا يغفر الإذناب في حق الناس.. أليس الإفساد في الأرض ذنبا نحاسب عليه جميعا باشتراكنا فيه أو صمتنا عليه؟
* بل أين الحركات الإسلامية من كل هذا هل تحولت شمولية الدعوة عندها إلى الانحشار في خني السياسة والتجنيد؟ ألم يأن لنا أن نتحرك من تجارة الجملة إلى تجارة التجزئة حتى ننظر في أحوال الناس ومعايشهم اليومية؟
* وأين المعارضة السياسية وأصواتها العالية المطالبة بالإصلاح السياسي أليست سياسة معايش الناس هي جزء من السياسة، أليس إصلاح تلك المعايش ووقف الإفساد فيها هو لون من ألوان النضال الواجب؟ أم أنها لا زالت تعلق كل آمالنا على أمل منع التوريث وأمل أن تمن علينا الحكومة بالحد من صلاحيتها وتتنازل فتتداول السلطة؟
* بل أين المؤسسات الأهلية؟ هل اكتفت بكفالة الأيتام وجمع حقائب رمضان، ومعارض الملابس المستعملة، أم لا زالت في سيارات دفن الموتى؟
ودعوني أسأل بصراحة: هو مين بيعمل إيه؟ لماذا لا تتوجه صواريخ العاطفة الدينية والحماسة السياسية لوقف السوس الذي ينخر في كل ركن من أركان حياتنا حتى صارت بلادنا كمنسأة سليمان، ألسنا شركاء في هذا النخر.. بفعلنا أو بصمتنا، ألم يأن لنا أن نصلح بأيدينا ولا ننتظر المن علينا بالإصلاح من هنا أو هناك؟
هل عرفنا بعد ما هو المجال العام، وما إفساده؟ وهل عرفنا واجبنا التضامني في إصلاحه؟
ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد..
اقرأ أيضاً على مجانين:
عون المسلمين21 عاما من العمل في صمت / جرامين 2006.. ملامح مرحلة جديدة