كل شيء أصبح مستباحاً، وكل من يريد أن يصل إلى مكانة أو مكان لا يعنيه الوسائل والتفاصيل ولكن يعنيه أن يستحوذ على المكان والمكانة، وكان المرء يختار من حوله بعناية بحيث يكون عملاقاً وسط عمالقة، أما الآن فلا يعني أحد مع من يكون؟! ولا من هؤلاء، ولا ماذا يقول الناس عنه وعنهم، ولكن يعنيه أن يكون عملاقاً وسط أقزام، وزعيماً بين هلافيت لا قيمة لهم ولا وزن ولا مكانة لهم، لذلك لا ينظر أحد لمستقبل المكان ولا المؤسسة.
ولكن يعنيه أن يشعر ذاتياً أنه زعيم متفرد حتى لو في عيني نفسه ومحيطيه ممن لا وزن لهم، ولا احترام الآخرين أو عدم احترامهم لهذه الأشكال والأصناف، وقد كان بعض الزعماء الثوريين والحركات الانقلابية التي تشبه ثورة كوبا وسيسكو وغيرها لهم هذه الممارسات ونقلت عنها الشخصيات المصرية نفس السيكولوجيات، فكانت المحصلة ما نشهده منذ سنوات من انهيارات داخلية في مؤسسات كانت عملاقة عديدة وكثيرة، وكانت شامخة، وفي منهجية الزعامات الواهية مأثورات عجيبة تؤدي إلى اختلال كامل للقيم السياسية والمفاهيم الإنسانية، كثيراً من المذابح ترتكب باسم الأهداف السياسية، وكثيراً من القرارات الانتقامية والإقصائية تلبس ثياب الصراع السياسي، وممارسة التصفيات وإبعاد الخصوم والمتنافسين يتم تحت لافتة رجال المرحلة وأعداء المرحلة.
ومن هنا ينكسر أي بنيان وينعدم التواصل بين الأجيال وتختفي التنافسية من أجل الأفضل للجميع، ويصبح الأداء العام سيئاً وأسوأ لأنه يقوم بعمل إيجابي وإنما بأعمال تهدم ولا تبني، ويختفي المحترمون والجادون ويقوم محلهم التوابع والواشون والانتهازيون، ويصبح السلوك المقبول هو النفاق والكذب، ويشعر بعض الفاشلين أنهم أبطال، وتصبح لغة الحديث هي لغة تجريح المحترمين والهجوم عليهم والانتقام منهم، وتنهار الأجيال الصاعدة والشابة وتكتسب كل هذه الصفات وتؤمن بها لأنها الوسيلة الأسهل للوجود حول السلطة والقرار والانتفاع من المرحلة، وينهار الانتماء في الوطن بأكمله بانهيار القيم والمفاهيم، وتصبح اللغة العامة والسلوك العام هي الوشاية والانتهازية والتجريح ونحر المنافسين والمخالفين في الرأي، وعدم الإيمان بالصراع السياسي والتنافس الشريف بين الأفراد والأجيال وتلك كارثة أخري، كانت لها نتائج خطيرة على المستوى القويم والوطني والمؤسسي ومن أمثلتها:
أولاً: أين الشعور الإنساني والسياسي بكارثة لبنان؟!.. ما تقوم به إسرائيل ضد لبنان الشقيق هو هدم للمقومات الأساسية والبنية التحتية وتخريب بلد بأكمله والأهم هو صرع شعب عربي شقيق تحت أعين وبصر العرب جميعاً، ومذابح تنتهك، ومعابد تفجر، ووطن محاصر، فكان رد الفعل الرسمي العربي مخزياً؟! فأين الشعوب العربية؟! أين الإنسان العربي؟! أين المصريون وأيضاً أين الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية؟! أين العرب والمصريون تحديداً؟!! الانتماء العربي قتل!! الإحساس بإنسانية الموقف مات!! الانتماء لهذه العروبة ضاع!! أين القيم المشتركة والمفاهيم المشتركة وأين اتفاقية الدفاع المشترك وجامعة الدول العربية؟! أين ذهبت النخوة العربية والمصرية؟ كلها ماتت بفعل انهيار المفاهيم واختلال القيم السياسية والإنسانية، وتحول الجميع إلى النفعية الشخصية بعيداً عن الروح الجماعية العربية والانتماء، للأسف فقد تظاهر العرب المصريون الذين يعيشون في ألمانيا وإيطاليا والأرجنتين وفرنسا وغيرها، لم يخرج مخلوق في مصر بشكل فردي أو نقابي أو حزبي، وكأن هذه الشعوب موات في ديارهم لا حياة فيهم ولا إحساس يسري بعروقهم، حتى الشجب والتنديد الذي كنا نتندر ربه ونعتبره سلوكاً مريضاً لم نجده وكأن مراحل انهيار الإنسان العربي والمصري قد وصلت للحضيض.
ثانياً: أين الانتماء الوطني؟!.. حين تقرأ في جريدة قومية أن عدداً كبيراً من المثقفين قد طرقوا تليفونات إحدى السفارات الأجنبية الكبرى مراراً وتكراراً للحصول على دعوي لحضور عيد الاستقلال لهذه الدولة، وانبطحوا أرضاً في التودد لهذا وذاك كي تكتب لهم الدعوة، حتى يكتب اسمهم في كشوف الحضور؟! وكأن اسمهم سيكتب في سجل الخالدين أو سجل المناضلين أو على الأقل سجل الشرفاء! ما أفهمه أن صاحب البيت يحدد من يريد من ضيوف ومن لا يريد، وحين تسأل الدعوة لأي شخص يقرر هل يقبل أو لا يقبل، أما أن يحدث العكس في احتفالات سفارة أمريكا بعيد الاستقلال 4يوليو الماضي ـحين نشر بالصحيفة القوميةـ فتلك ازدواجية وثنائية مقيتة.
نقلا عن جريدة الوفد
واقرأ أيضًا:
الأطباء وإنقاذ مصابي الكوارث / مؤتمر قومي لطب الكوارث! / المؤتمر القومي السابع لطب الكوارث / فريق مركز طب الأزمات مصر بخير