قال الشاب المتزوج ولديه من الأولاد ثلاثة (بأحاول أدّخر عشان أجيب عربية لعبة لابني الأصغر، الذي فضحني عند أقاربنا).. ثم أعقب (رخّصت ثمن الجهاز الذي أبيعه ثلاثون جنيها عن أقراني لكي أبيع فبعت جهازاً واحداً طول النهار وكسبت عشرة جنيهات فقط).. رحت أزور أمي فوجدت أخي ضابط الأمن المركزي بهيئته وهيبته، لاحظ وجومي فسألني (مالَك)؟ قلت له (أحلم بعربية لعبة لأصغر أبنائي، وأحلم بحركة بيع وشراء، تجارة أمانة، حركة وبركة.. وأحلم بوطن خالي من الفساد والعبث وفقدان الاتزان والمعايير، حُلم الوحدة العربية أخذ شكلاً آخر بعد ثورة تونس، نعم تونس الثورة ألهمتني أن نثور ليس بنفس الأسلوب فالشعوب لا تَنقِل حركتها بميكرسكوب ولا حتى Copy – Paste، لكن الشعوب تستدمج (تهضم جُوّاها)، تعيشها وتصهرها داخلها وتستثمرها في صورة هبّات وثورات نفسية إدارية مجتمعية إنسانية حضارية؛ لأن الحضارة الحقّة، هي أن تسمو بمطالبك فوق خوفك، وأن تكسِر السور وتطير كالعصفور المسحور، فوق السجون والمعتقلات وكل الأماكن الموبوءة بالرشوة، بالثروة المٌتخمة الفظّة الفجّة، استغلال الإنسان للإنسان، وضع اليد على الأرض والعرض).
ضحك الأخ الضابط وصاح ملوّحاً بيده في الهواء: (لا تونس بعد اليوم، أي حدّ هيتحرك كده ولا كده هنْلِمُّه في ثلاث دقائق، هانِنْزِل ميري وملكي.. يعني رجال بزيّ الأمن مُدججّين بالدروع، ملتحفين بالخوذات والهراوات الغليظة، يدوسون المُحتجيّن بالأحذية الثقيلة، يساعدهم في ذلك من يرتدون مثل الناس ـ غالباً جواكت جلد أو جينز ـ من ميلشيات الأمن المدنية، لتزيين الصورة، لتخدع ولتحاول إخفاء القبح).
ضحك الشاب الحالم بعربة لعبة لابنه الأصغر وقال (طيب ما هُمَّه عملوا كده في تونس وفشلوا، هو إنت متعرفش أن سيكولوجية رجل الأمن غير المُقتنع والملتزم بصرامة الأوامر والتدريب، تهِن وتضعف وتزول بعد فترة، تنهار قواه الداخلية لانهيار قضيته، ولأنه في نهاية الأمر من الناس وللناس.. مهما كان حجم غسل مُخه).. المهم أنا أحلم بمساواة وعدل وتجارة وحركة وبركة، بِناس بتضحك وناس بتخِّف من مرضها وأولاد وبنات بيتعلموا كويس كل حاجة غير الكذب والإحباط، غير الزعيق والدوشة والضحك على الدقون.. وإنت بتحلم بصورة قمع (ميري ومدني) في ثلاث دقائق، تضيق عليك بزّتك الأمنية، ويخونك زهوك، عندما تنظر في عين أطفال في عمر ابني الحالم بعربة صغيرة ليست في حجم عربات الأمن المركزي الزرقاء، عربة تغني لا تزمجر، وفي عيني امرأة مثل أمك ورجل في عمر أبيك، وناس غلبانه نعسانة تنام بإحساس الأمن الحقيقي والأمان من بكرة، يزول منها إحساس المرارة والغُبن والضيق والظلم والحزن.
نظر الأخ الضابط الآمن مركزياً لأخيه في إستغراب، قام الأخ المدني وقال لأخيه الميري (المشكلة ليست في قانون الطوارئ ولا في القوانين غير المُدوّنة، هل تدري أين تكمن المشكلة؟ في تفشّي روح قهر كل منا للآخر (الذين قاموا بثورة تونس كانوا من العاملين والعاطلين، من كل الناس، التقت سواعدهم وهدر صوتهم، بدون هيمنة حزب أو دين أو عسكر، مضوا كالنهر يتدفقون، يروون الأفئدة العطشى، كانت سماواتهم مفتوحة وفضاءهم رحب وسَع كل شيء، بذروا الحب والحلم والأمل خارج حدود تونس، انتشرت الفكرة كحبّة لقّاح تخصب الأرض الجباء ودعوا الخوف والكتمان، ونحن كذلك).
دق الأخ الميري الأرض بقدميه واختفى في بئر السلم، خرج ابن أخيه الذي يحلم بعربة لعبة لا يتمكن أبوه التاجر الكاسد التجارة من شرائها له، خرج فجأة وصاح صيحةً ثورية لطفل لم يتعدّ الثلاث سنوات، ابتعد الأخ الضابط الآمن مركزياً وجرى إلى الشارع مُطلقاً بضع رصاصات في الهواء.
ظنت النسوة الواقفات في الشرفات أنه فرح، وأن حماده ابن الست سنية تمكن من الزواج أخيراً بعدما دب الشيب في شعره، ونمت التجاعييد على جبهته، انتلقت الزغاريد من بيت إلى بيت، وخرجت أم الأخيّن (الميري والمدني) فوجدت الشارع مُضاءاً وحفيدها يلهو ويصيح مُلوحاً بقبضة يده في الهواء، يتحلق حوله عشرات الأطفال وكأنهم يهتفون.
وهكذا انتشرت عدوى تونس الخضراء. خضراء كالحلم، وكقلب طفل وعقل رجل وبساطة أم في مصر. مصر الناس الرايقة المشتاقة إلى الحرية، شوقها للهواء النقي واللقمة الطِعمة، ضد كل الناس المِتْضايقة بكنوزها وفضائحها وفيللاتها وفسادها ورشوتها وواسطتها ومحسوبيتها كذبها تبريرها ذعرها وغلّها وضميرها العفن كالجرح المزمن، كالصدأ المُقوم، كالدمّل الذي امتلأ حتى عينيه بالصديد، فوجب فتحه وتطهيره ووضع المُضاد الحيوي داخله.
واقرأ أيضاً:
إذا الشعب يوما أراد الحياة / التجربة التونسية غير قابلة للتصدير لمصر / الإسلاميون في تونس.. لماذا غابوا عن المشهد؟