وعندما نجحت الثورة التونسية بدا واضحا أن حكاية المخطط الغربي هذه كانت فعلا مجرد حجة كاذبة باهتة من الذين يقولونها ودليلا على سطحية من يصدقونها، فها هو زين العابدين بن علي هرب وها هي تونس حرة، ومن المؤكد أن هذا ليس مخططا صهيونيا أو غربيا إذ كيف يدعمون تحرر شعب عربي؟
حاول الإعلام المصري كذلك أن يطلق تلك الأكذوبة التي مفادها أن ما يحدث في ميدان التحرير هو من تخطيط عناصر إرهابية مرة تتبع إسرائيل وأمريكا ومرة إيران ومرة حماس وهكذا.... المهم حاول الإعلام بأقصى ما يملك من قوة أن يقنع الناس بأن ما يحدث في التحرير هو تنفيذ لأجندات خارجية، ولكن كان تأثير الإعلام المصري هزيلا بدرجة مضحكة فلم يكد يصدقه أحد ليس فقط لأنه موصوم بأنه إعلام النظام ولكن لأن أداءه بالفعل كان هزيلا بدرجة غير مسبوقة ربما في تاريخ مصر، خاصة وأننا في عصر السماوات المفتوحة والإنترنت، ثم لم تطل المدة الزمنية ربما لأن مصر لا تتحمل ولأن الله سبحانه يحرسها كما تعلمنا على مر التاريخ.
وكنت قد قلت في مدونتي: القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟ أنني حين رأيت ليبيا والتظاهرات الليبية في البداية.. توقعت أن يكون العقيد الليبي أطول نفسا من مبارك وكنت أقول الليبيون حتى لو ثاروا فإن قلة أعدادهم وتوزعهم الجغرافي سيجعل ثورتهم طويلة…. ولست الآن أستسيغ الدفاع عن وجهة النظر الخاطئة تلك، وحقيقة..... لم أكن أتوقع أن يرد النظام الليبي بالرصاص الحي منذ اليوم الأول للتظاهرات لتتطور الأمور بهذا الشكل البشع, وأنا منذ اليوم الثاني حينما اشتدت وتيرة الأحداث بدأت أشعر بأن انتصار الثورة واندحار القذافي قريب.... باختصار كنت أعتقد وغيري كثيرون أن استخدام النظام الليبي للرصاص الحي في محاولة قمع المتظاهرين سيقصر جدا من عمر النظام فهذا هو المنطقي، لكنني أثناء ما توالى حدوثه بعد ذلك قلت فعلا العقيد سيكون أطول نفسا كما توقعت في البداية ولكن بالقمع المفرط والمستمر.
وحين أعلن حلف الناتو أنه سيتدخل لحماية المدنيين ففرض حظرا للطيران وبالتالي تم تحييد القوة الجوية الليبية، ثم بدأ ينفذ ضربات جوية بقصد تدمير القوة العسكرية للقذافي.... وحينها صدر تصريح من أحد رؤساء الحكومات الأوربية مفاده أن الصراع في ليبيا مرشح لأن تطول مدته... شعرت باستغراب شديد وتساءلت لماذا؟؟
وكنت بمعدل كل ثلاثة أيام أؤخرُ موعد انتهاء التنديد الموجود على صدر الموقع (يعلن موقع مجانين تضامنه التام وفزعه الكبير من الاعتداءات الوحشية التي تنفذها ميليشيات القذافي لوأد ثورة الشعب الليبي العظيم.... ونطالب بضرورة القبض العاجل على العقيد وكل من يساعده ومحاكمتهم فورا... ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.... إن شاء الله فرجكم قريب أيها الليبيون الأبطال) أؤخره كل مرة لثلاثة أيام ثم أصبحت أؤخره لأسبوع ثم بدأت بالتدريج أفهم ما قاله الغرب منذ البداية من أنهم لا يستهدفون القذافي فما يريدونه حسب قولهم هو حماية المدنيين ولكن هذا تحول على أرض الواقع إلى تسليح المدنيين ليحاربوا كتائب القذافي!... وبالتالي أخرتُ موعد انتهاء التنديد شهرا ثم شهرا!
وحقيقة فإن هجوم حلف الناتو بتفويض من مجلس الأمن على ليبيا جعلنا لا نسمع كلاما من ليبيا عن مؤامرة غربية خفية تديرها أصابع سحرية فالطائرات علنا تستهدف وتقصف أهدافا في ليبيا والمؤامرة في منتهى الوضوح والشفافية من وجهة نظر النظام الليبي..... ولا داعي للترويج لفكرتها فكفى أنها حقيقة!
وغير بعيد من ادعاء المؤامرة ليبيًّا استلم اليمن الأمانة، فأعلن النظام اليمني على لسان رئيسه على عبد الله صالح أنه على معرفة بوجود مؤامرة على بلده، مؤامرة أمريكية أعدت في تل أبيب وبالاتفاق مع قناة الجزيرة، وبدا كأنما يعلن أنه على علم بأسرار أمريكا وإسرائيل بل ويفضح مكرهما! فقال صالح: إن ما يجري قد تم طبخه في تل أبيب تحت إشراف من واشنطن)، ثم اتصل في اليوم الثاني بالبيت الأبيض ليعتذر عن ذلك التصريح المتسرع، لكن النظام ظل يؤكد على وجود مؤامرة خارجية دون الإشارة ربما إلى من يتآمر مع من!.... وحقيقة فإن الادعاء بمؤامرة خارجية على اليمن بدا كاذبا لكل ذي عقل منذ أعلن وبالتالي لم يختلف شيء بعد اعتذار صالح......
واستمرت الثورة اليمنية حتى أ صبحت ثورة مزمنة وأصبحنا نتكلم بالشهور ولم يرتفع صوت أحد في الغرب لا مناديا باحترام حقوق الإنسان ولا بإطلاق حرية التعبير ولا برفض العنف في التعامل مع المتظاهرين حتى لكأن اليمن يقع خارج الكرة الأرضية، بل وبدا بوضوح أن الغرب متآمرٌ مع علي عبد الله صالح وليس ضده، فحركة دول الخليج في أي اتجاه غير ممكنة الحدوث دون مباركة أو حتى حثٍّ أمريكي، أي أن من اتهمهم صالح في البداية بأنهم يتآمرون عليه انتهى بهم المطاف إلى التآمر معه ضد قطاعات عريضة من الشعب اليمني ولا تعليق!
وأما سوريا فأمرها مختلف أي اختلاف!.... المؤامرة ممكنة التصديق فيما يبدو على الأقل لكثيرين في سوريا وكثيرون من السوريين الذين أعرفهم أرسلوا يقولون لي أن الجزيرة كاذبة، فجاءني على البريد الإليكتروني عدد كبير من الروابط لصفحات إنترنت عليها أخبار كالتالي:
"تمكن أهالي منطقة البرامكة في دمشق اليوم بمساعدة المارة أمام كلية الهندسة المدنية من القبض على شخص يحاول مهاجمة عدد من الطالبات المحجبات وينتزع حجابهن بينما كان شخص آخر يصور هذه المشاهد لتسويقها في المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام على أن رجال الأمن هم من يقومون بذلك في إطار المحاولات المغرضة لتشويه صورة الأمن في سورية وافتعال الفتنة عبر حملات تزوير وتشويه إعلامية مبرمجة، وتم تسليم الشخص للجهات الأمنية المختصة للتحقيق معه وكشف ارتباطاته".... وتواترت حكايات كهذه على ألسنة السوريين وفي وسائل الإعلام السورية.
ليس هذا فقط بل إن من السوريين من ظل يرى ما حدث في تونس وما حدث في مصر جزءًا من مؤامرة يجب على سوريا أن تتحاشاها... وكأنما كان المناخ السوري مهيئا لتصديق أن ستكون مؤامرة على سوريا، وبالتالي بدا ادعاء الإعلام السوري بأن هناك مندسين يقومون بإحداث الفوضى وتشجيع العنف وخداع الناس قابلا للتصديق عند كثيرين من السوريين أنفسهم، لكن كان الأمر مختلفا بلا شك عند غير السوريين وعند السوريين الذين يخرجون في التظاهرات.
ثم بدا الموقف الغربي من سوريا مختلفا تماما عن موقفه من اليمن فبينما بُح صوت المتظاهرين شهورا في اليمن وتعاملت السلطات معهم بمنتهى الوحشية ولم يتخذ الغرب موقفا جادا على الإطلاق ولم يهدد بالتدخل ولا اجتمع مجلس الأمن ليتخذ قرارا، فإن الموقف اختلف تماما في سوريا فمنذ الأيام الأولى اجتمع مجلس الأمن ورغم فشل المجلس في الإجماع على قرار بالعقوبات أو التدخل في سوريا إلا أن الدول الغربية سارعت إلى فرض عقوبات منفردة، واشتدت اللهجة التي يوجهون بها التهديدات لسوريا وبدا واضحا أن صبرهم لن يطول فلماذا يا ترى؟
وأما بعدما مضى أكثر من شهر على تدخل حلف الناتو دون انهيار للقذافي ودون انتصار للثوار الليبين، فقد بدأت أتساءل هل قوات الناتو عاجزة عن القضاء على القوة العسكرية للقذافي؟ أم أن ما يجري من تخاذل وقصف حميم هو أمرٌ متفق عليه فيما بينهم؟ وهكذا يصبح مفهوما لماذا صرح أحد رؤساء الحكومات الأوربية مفاده أن الصراع في ليبيا مرشح لأن تطول مدته، وقفز إلى ذهني تصور خبيث أتمنى ألا يكون صحيحا، مفاده أنهم يسلحون الثوار علنا ويسلحون القذافي سرا.... ويقبضون من هذا ومن ذاك ويستمر الصراع لتصبح الثورة مزمنة مثل الثورة اليمنية!
ثم مع بداية التلويح بإمكانية إنزال بري في ليبيا في نفس الوقت الذي يلوحون فيه بإمكانية التدخل في سوريا بدأت أتصور تصورا مفزعا بحق حيث تخيلت غزوا في الغرب عبر ليبيا وغزوا في الشمال الشرقي عبر سوريا... وإذا يحدث هذا في وقت لا يوجد فيه نظام متكامل الأركان في مصر ولا جيش متفرغ للدفاع عن الأمة، ولا شيء هنالك في العراق ألا يكون ذلك احتلالا للأمة العربية كلها؟ فهل هذا يعني أن الثورات العربية هي فعلا مؤامرة؟
هل يمكن أن يكون ما حدث في مصر مؤامرة؟ هل خلع ذلك الحسني الذي ظل بمثابة السبة والعار لمصر ولكل العرب زهاء ثلاثة عقود يمكن أن يكون مؤامرة؟ هل تكون مؤامرة أن ينجح التصالح بين فتح وحماس بعد توقف السياسة المصرية عن لعب الدور القذر المعتاد في الملف الفلسطيني؟ هذه الضربة الموجعة لإسرائيل هل هي جزء من المؤامرة؟ وهل فتح معبر رفح لكسر حصار غزة يمكن كذلك أن يكون جزءًا من المؤامرة؟ أم أن مصر باستعداء إسرائيل إنما تسير في الطريق الخطأ وكان عليها أن تكتفي بحل مشكلاتها هي بدلا من فتح بوابة الحروب؟ ذلك أن أحدا لا يستطيع مقاومة الغرب أو إسرائيل وعلينا الانبطاح مكان النظام السابق لأن إسرائيل ستأتينا بما لا قبل لنا به؟ هل يمكن أن تكون إجابة أي من هذه الأسئلة نعم؟
أليس واقع الحال أن الحكومات المنظمة والدول المعتادة أكثر قابلية للهزيمة أمام إسرائيل؟ ألم تثبت تجربة حزب الله في لبنان 2006 ذلك؟ ألم يقتنع الجميع ساعتها بأن إسرائيل استطاعت دائما هزيمة الجيوش العربية لكنها لم تستطع هزيمة الشعوب وتشكيلاتها؟ ألا تدل تصريحات وتصرفات الحكومة الإسرائيلية على مقدار ما تشعر به من قلق ومن غيظ بسبب ما يحدث في المنطقة العربية؟
من المنطقي أن نستنتج أن الثورات العربية لا يمكن أن تكون مؤامرة أمريكية وإنما هي تكريس لواقع جديد في المنطقة العربية على الغرب وعلى إسرائيل أن تتعامل معه بأساليب مناسبة، وإذا سلمنا بأن ما حدث في تونس وفي مصر كان مفاجئا وسريعا بحيث لم يتمكن الغرب من التقاط أنفاسه للحؤول دون هذا التحرر والانعتاق، فإن الوضع اختلف في الحالة الليبية واليمنية والسورية، ذلك أن القوى الغربية انتبهت وقررت التدخل بشكل أو بآخر سواء بدعم النظام القائم والتغاضي عن تجاوزاته وانتهاكاته لحقوق الإنسان مثلما هو الحال في اليمن حيث لا نفط ولا حدود مع إسرائيل، أو التدخل للاستنزاف مثلما هو الحال في ليبيا، أو التدخل لحماية إسرائيل مثلما يخشى أن يحدث في سوريا، وفي هذه الحالة نستطيع أن نقول لا أن الثورات العربية مؤامرة أمريكية وإنما أن الثورات العربية يمكنها أن تفتح ثغرات للاستنزاف أو الاحتلال الغربي، وعلينا أن نكون واعين لذلك أنظمة وشعوبا، ولا تسألوني بماذا يفيد هذا الوعي شعوبنا أو أنظمتنا والواقع أنني لا إجابة لدي لأنَّ الأنظمة كلها غير معنية بغير نفسها وبعضهم يطبق مقولة أنا ومن بعدي الطوفان، ولا الشعوب يمكن أن ترضى وتسكت ليستمر الحال على ما هو عليه، من الواضح أن زلزال التغيير قد بدأ ولا أحد يدري إلى أين يمكن أن يمتد ولا ما ستكون عواقبه.
واقرأ أيضًا:
التعليق: لقد هز المقال كيانى وأوجع قلبى ... حتى شعرت أننى كدت أفقد عقلى ... اللهم احفظ بلادنا العربية كلها بحفظك الذى لا يرام