قسّامية، جائزتها، ستة عشر مؤبّداً!
هكذا أفهم الدنيا في زمن انقلاب الموازين واختلاف القِيَم.
حين تكون مجاهداً بالنفس أو بالكلمة أو بالريشة، فستكون بلا شك "إرهابياً"، تُشكّل خطراً على الأمن القومي والعالمي، فكيف إن قُبِض عليك متلبِّساً بالكُره للكيان الصهيوني والعشق لفلسطين، وبالعمل على هزّ أركان الأعداء المغتصبين وضرب مصالحهم والتخطيط لعملية استشهادية تُعين فيها مجاهداً لزرع متفجّرة في القدس تنسف أجساد المغتصبين؟! كيف لا تكون يومها الجائزة مؤبدات تترى؟!
هذه هي أحلام التميمي، ابنـة العشـرين ربيعاً التي تعالت على حب الدنيا وزخرفها، تحرّكت فيها الشـهامـة والمروءة حين رأت آثار الصهاينـة على العباد والبلاد، فضربت مثلاً للتحدي حين اختارت أن تلتحق بكتائب القسّام وتثأر لفلسطين، كانت أول شابة تلتحق بالكتائب، وبعد تخطيطها للعملية الأولى اعتُقِلت وزجّوها في السـجون إذ هي تمادت في حبها للقضيـة! وكانت البراكين التي تغلي في داخلها نقمة على المحتل قد فارت فأذاقتهم ويلات شرورهم، مات يومها في العملية الاستشهادية التي نفذها عز الدين المصري بتاريخ 09/08/2001 ستة عشر صهيونياً وجُرِح مئة وخمسون، فكان نصيب أحلام "المخطِّطـة" مؤبدٌ لكل صهيوني سـقط، لتُصبح صاحبـة أكبر حكم على أسـيرة! ونُقِش على ملفها لدى الكيان عبارة: "خطيرة.. لا يُفرَج عنها في أي صفقة تبادل أسرى قادمة"!
هذه هي الجائزة، إقرار بالخطورة، ومؤبدات! حين تسـمع هذا الخبر تطمئن، أنك على الصراط، طالما أن الصهاينـة ومَن يوالوهم لا يرضون عنك!
ويوم المحاكمة على أحلام كانت ملحمة بحق، ملحمة العنفوان والإباء والعزّة بالرغم من القيود، وقفت لتردد كلمات ستبقى خالدة في ضمير كل حر، وسيُسطّرها التاريخ في صفحاته المباركة.. "أنا لا أعترف بشـرعيـة هذه المحكمـة أو بكم، ولا أريد أن أُعرّفكم على نفسـي باسـمي أو عمري أو حُلمي، أنا أُعرّفكم على نفسـي بأفعالي التي تعرفونها جيداً، في هذه المحكمـة أراكم غاضبين، وهو نفـس الغضب الذي في قلبي وقلوب الشـعب الفلسـطيني وهو أكبر من غضبكم، وإذا قلتم إنه لا يوجد لديّ قلبٌ أو إحسـاس، فمن إذاً عنده قلب!؟ أنتم!؟ أين كانت قلوبكم عندما قتلتم الأطفال في جنين ورفح ورام الله والحرم الإبراهيمي، أين الإحسـاس؟؟"
أي إرادة وأي عقل وأي ثبات نطق يومها أمام تلك الثُلّة من الظَلمة؟! وحين أراد القاضي أن يكسر شوكتها ويوهِن عزيمتها بالقول أنها ستعفّن داخل السجن.. ردّت عليه بثقة المرابطين: سـأخرج رغم أنفك وأنف أبيك! ورائي رجال...!!!
صدقتِ يا أحلام، فقد كان من ورائك قسّاميون يذودون عن الحِمى، ويوفون إذا عاهدوا، ولم ينسوا يوماً أسراهم حتى إذا ما أكرمهم ربهم جل وعلا بأسر (شاليط) أبقوه لسنواتٍ خمس لم يستطع المحتل بكل عتاده ومخابراته وأعينه أن يعرف أين هو، فيُبادلونه بأسرى وأسيرات كِرام، فهو في ميزان الصهاينة يُعادل آلاف الفلسطينيين، وفي ميزان القسّام ظفر أسيرة منكنّ يُعادل كل الصهاينة! ومن قبل القسّام شعبٌ ثابت يستحق الامتنان، فقد صبر وجاهد وواجه الحصار والإعصار في محرقة غزة لكي لا يستسلم ولا يرضخ، فحق له كل الفخار!
لا أدري لِم حضرني سراقة في مشهد المحكمة، هو غير مسلم، والمسلمون مستضعفون يُهاجرون من شدّة الظلم عليهم، ويعِده الحبيب عليه الصلاة والسلام بسِوارَي كِسرى، فيستجيب!
وأنتِ أمام قضاة وجرذان استأسدوا، يعِدونك بالتعفّن داخل السجن، وبالويل وبالثبور، وبيدهم مقاليد الأمور، وأنتِ تعدينهم أنك لا بد معانقة للحرية من جديد! ولا شيء بيديك سوى القيود! ولكن ما أثلج قلبك يومها أمر لا يمكنهم أن يفهموه لأنهم لم يفقهوا!
كبيرةٌ أنتِ يا أحلام، كبيرةٌ بثباتك، وعِزّتك، وعنفوانك، وإيمانك! خرجتِ عزيزة كما دخلتِ إلى المعتقل حيث لاقيت صنوف التعذيب والإهانة فما هُنتِ، فقد كانت "نظرة عيوننا تقهرهم في الدقيقة ألف مرة".. كما أكّدتِ! وما وقر في القلب، أكبر!
وذكرت أحلام الزنزانة الانفرادية، كأصعب ما يكون في الأسر، أغمضتُ عينيّ وحاولتُ أن أعيش اللحظة في تلك الزنزانة فاختنقت! تخيّلتُ انقطاع الكهرباء وأنا في المصعد كيف يضيق نَفَسي وأشعر أن جدرانه تقترب من جسدي لتضغط عليه! يا إله الكون كَم هي غالية الحرية، حتى للتنفّس!!
كم دغدغت قلبي كلماتكِ تلك حين صرّحتِ بعد كسر قيد اليدين: "تولّد الأمل منذ لحظـة إنتقالي، علاقتي مع الله تعالى أعطتني الدعم وسـاعدتني لبرمجـة الحياة، جعلتني أتحمّل، وسـاعدتني على تجاوز كل هذا، فما خيّب ظني سـبحانـه، وأكرمنا الله تعالى واسـتجاب دعاء الأسـير الذي يخرج من الصميم".
أوَ يكون صبر وثبات ومواجهة ستة عشر مؤبداً دون إيمان راسخ في الوجدان؟! وربي لا يكون، وثقت بربها جل وعلا فما خيّبها، وكم تعثّر غيرها في حصى على الطريق فانهار!
ولتكتمل القصة، تختار أحلام التميمي أسيراً حُكِم عليه بالمؤبد ليُشاركها حياتها، فلن يشعر بمعاناة أسير إلا أسير مثله! ونزار التميمي ليس من كتائب القسّام، ولا حتى من "حماس".. وإنما هو من أبناء "فتح".. لتُعطي أحلام من جديد صورة مشـرقـة للتمازج الفلسـطيني بعيداً عن الانقسـام والتفرقـة والعصبيـة الضيّقـة، فما تجمعـه القضيـة وحب الأرض لا يُفرّقـه تحزّب إن كان الفكر واعياً والقلب صافياً والرؤيـة واضحـة!
تمت الخطبة بوجود الأهل وبغياب العروسين في الاعتقال، ولم يكن من الممكن أن يعلم العروسان كم سيُغيّبان في غياهب السجن! حتى أذِن الله جل وعلا وعانقا النور، واليوم يُحضّران لحفل الزفاف الميمون بفضل ربي جل وعلا.
هذه هي قصـة أحلام التميمي، التي يجب أن نزرعها في وجدان كل عاشـق للأرض وللقضيـة، لتكون نبراسـاً يسـتنير منـه، وقدوة يسـتمد منها القوّة والتحدّي والإصرار والثبات...
وبعد ما رويت، هل ما زال يتردد سؤال، لِم تسكنني الحرّة المحرّرة، أحلام التميمي؟!
واقرأ أيضاً:
ألا نخجل!!؟؟ / عيد الأسرى المبارك