لقد تحققت الغلبة السياسية لتيار الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين والسلفيين والجماعات الإسلامية الأخرى) في أكثر من بلد عربي بعد الثورات التي قامت حديثا وأسقطت الدكتاتوريات العتيدة، وقد تحققت تلك الغلبة من خلال صناديق الإنتخابات (على الرغم من تحفظات التيارات المناوئة على بعض خطوات وإجراءات الانتخابات)، ومن الواضح أن الشعوب العربية ذات مزاج ديني يستجيب للدعوات الدينية أكثر مما يستجيب لغيرها، أو أن تلك الشعوب جربت التيارات اليسارية والعلمانية والقومية لسنوات طوال ولم تر منها غير الفساد والاستبداد، أو أن تيارات الإسلام السياسي -حتى وإن لم تكن هي الأفضل- إلا أنها هي الأكثر تنظيما وتماسكا وقدرة على الحشد في الميادين والشوارع وأمام الصناديق. وأيا كان السبب في غلبة هذا التيار، فالحقيقة أنه وصل للحكم ويدير دفة الأمور وأمامه فرصة كبيرة لتقديم النموذج الحضاري للإسلام على أرض الواقع. وعلى الجانب الآخر أصبحت التيارات المناوئة في حالة تأزم وتفرق وتبذل جهودا مضنية للم الشمل ومواجهة القوة السياسية الصاعدة للإسلام السياسي.
وبعيدا عن صراعات النخبة الحاكمة والمعارضة، فإن الشعوب العربية تميل حقيقة لنظام الحياة الذي يستلهم الدين بحقائقه وتصوراته وأحكامه ومبادئه وروحه، وتتطلع إلى نهضة تقوم على هذه الأسس، وبمعنى آخر: يصعب تخيل نهضة عربية مقطوعة الصلة بالدين (كما حدث في أوروبا)، ربما لأن المنطقة العربية كانت في مجملها مهدا للرسالات السماوية وبالتالي فالشعوب العربية مشبعة بدرجات مختلفة بالمعتقدات الدينية وحياتها تسير في كثير من جوانبها مرتبطة بالدين على الرغم من ضعف الجوانب الأخلاقية والمعاملات لدى فئات كثيرة من الناس.
والسؤال الآن: هل قدم تيار الإسلام السياسي مشروعا للنهضة يحقق النموذج الحضاري العصري للإسلام في هذه البلدان؟
وللإجابة عن هذا السؤال نحتاج لأن نعرف معنى "مشروع النهضة" ومعنى "النموذج الحضاري" العصري للإسلام، وأن يكون لدينا طريقة للتقويم محايدة قدر الإمكان تقيس مدى النجاح أو الفشل في التحقيق. ولكي أجنب القارئ غير المتخصص عناء التعريفات العلمية المركبة والمعقدة أختار من بين التعريفات أبسطها، فمثلا نقول بأن مشروع النهضة يفترض بأن الأمه في حالة ركود وهبوط على المستوى الفكري والديني والحياتي وأن ثمة تصور ينقلها من هذه الحالة المتردية إلى حالة أفضل توازي أو تتجاوز ما وصلت إليه الشعوب المتقدمة، وأن النموذج يعني مخططا واضحا ومحددا ومتفردا، والحضاري بمعنى القدرة على الحضور والظهور (بمعنى صنع الحضور وليس مجرد طرح أفكار حوله، الاستجابة لمستوى العصر ومتطلباته والانفتاح والتفاعل والتواصل مع العالم والعصر، القدرة على التجدد والتواصل والنمو الدائم والمسئولية) أو بمعنى الحضر والتمدين (عكس البداوة). وكل هذه الأشياء التي ذكرناها حول مشروع النهضة والنموذج الحضاري تحتاج لمعايير علمية محايدة تقيس مدى اقترابنا أو ابتعادنا من تحقيق الأهداف التي وضعناها ابتداءا.
ويرى الشيخ القرضاوي في كتابه "أمتنا بين قرنين" الصورة الراهنة كما يلي: لقد حققت الأمة بعض النجاحات في القرن العشرين تمثلت في: التحرر من الاستعمار، انتشار التعليم، ظهور حركات الإحياء والتجديد الإسلامي، مقاومة التغريب والغزو الفكري، وانطلاق الصحوة الإسلامية. أما الإخفاقات فيردها إلى ما يلي: ضياع الخلافة الناظمة لعقد الأمة، هزيمتنا أمام المشروع الصهيوني، إخفاقنا في مسيرة التقدم والتنمية، إخفاقنا في التحرر من التبعية للغرب، إخفاقنا في مجال الشورى والحريات، إخفاقنا في توحيد الأمة، إخفاقنا في تحقيق العدالة الاجتماعية، إخفاقنا في مجال قضايا المرأة، إخفاقنا في التربية الإيمانية والأخلاقية للأمة. ويرى القرضاوي أن النهضة الإسلامية في القرن الواحد والعشرين أمامها عدة تحديات أساسية هي: تحدي الهوية، تحدي المرجعية، تحدي التخلف، تحدي التنمية، تحدي العدالة، تحدي المرأة، تحدي الاستبداد، التحدي الأخلاقي، التحدي الصهيوني، تحدي التجزئة، تحدي العولمة.
وبالنسبة للقارئ المتخصص والذي يريد التعمق العلمي للموضوع فأحيله إلى كتابين غاية في الأهمية صدرا عام 2011 م عن مركز الحضارة للدراسات السياسية، الأول وضعته الأستاذه الدكتورة نادية مصطفى (رئيس قسم العلوم السياسية – جامعة القاهرة) تحت عنوان: "نحو بناء مشروع استراتيجي لنهوض حضاري وسطي: دراسة استكشافية في مشروعات نهضة الأمة" وتؤصل فيه لتصورات مشروع النهضة الحضاري من زاوية إسلامية وإنسانية، والكتاب الثاني حررته الأستاذه الدكتوره هبة رؤف عزت (أستاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة) تحت نفس العنوان وضمنته نماذج نهضة من العالم الإسلامي (تركيا، إيران، ماليزيا) ونماذج من خارج العالم الإسلامي (الصين، جنوب إفريقيا، أمريكا اللاتينية)؛
وأحيل القارئ الكريم أيضا إلى إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي (ما يقرب من نصف قرن) ومركز الدراسات المعرفية. وقد يتعجب القارئ من وجود مثل هذه الدراسات الرصينة والعميقة، بينما نتخبط نحن في ظلام دامس في المراحل الانتقالية بعد ثورات الربيع العربي، حيث بدا واضحا أن السلطة الحاكمة من تيار الإسلام السياسي لم تقدم (حتى الآن) مشروعا عمليا واضحا للنهضة، ولم تقدم النموذج الحضاري للإسلام، ولم تقدم السلوك الإسلامي الراقي والمتحضر في التعامل مع المناوئين، وإنما قدمت شعارات عامة وحتميات دينية ورؤى فقهية خلافية، وسلك بعضها سلوكا إقصائيا أو استحواذيا سلطويا، واعتمدت في كثير من فعالياتها على الترهيب بالحشد الشعبوي في الشوارع والميادين، أو التقليل من شأن المعارضين وأحيانا تسفيههم أو تكفيرهم، ولم تقدم مشروعا عمليا للنهضة يتسم بمتانة وتكامل ووضوح الرؤية النظرية، وإمكانية تحويل النظرية إلى واقع ملموس، ولم تقدم نموذجا إسلاميا متحضرا وراقيا يتناسب مع عظمة الإسلام وسماحته وشموليته ويتصف بالوضوح والواقعية ومواكبة حاجات المجتمع ومتواصلا ومتفاعلا بإجابية مع العالم الإنساني المحيط بنا.
وقد يقول قائل بأن تيار الإسلام السياسي لم يستقر بعد في الحكم وأن المشكلات اليومية التي تواجهه من قوى المعارضة الشرسة تدفعه للشعور بعدم الأمان وتجعله في موقف دفاعي تأميني سلطوي طول الوقت وهذا لم يسمح له بتقديم النموذج الحضاري الذي يتبناه أو يتمناه... وقد يكون في هذا بعض الصحة، إلا أن التأخير في تقديم ذلك النموذج يشكل تهديدا خطيرا لمصداقية وأحقية وجدارة تيار الإسلام السياسي الذي انتخبه الناس ليحقق لهم ما حلموا به، فإذا اكتشفوا زيف الشعارات أو فقد القدرة على التفعيل والتشغيل لدى ذلك التيار فربما انقلبوا عليه وفقدوا الثقة حتى بالنموذج نفسه لسنوات طويلة.
وبناءا على غياب التصور الواضح لنموذج النهضة الحضارية المبنية على مقاصد الشريعة الإسلامية، نجد تخبطا في حركات الإسلام السياسي ونزوعا نحو التمكين السلطوي وبالتالي صراعات هائلة بينها وبين معارضيها تنقل الجميع إلى مستوى العداء المتبادل وتدفع الشعوب الثمن غاليا بعد أن قامت بثورات عظيمة تخلصت فيها من الدكتاتوريات وتخشى الآن أن تدخل في دورات استبداد جديدة تحت أسماء مختلفة دون حدوث نهضة حقيقية تطلع الجميع إليها.
واقرأ أيضاً:
خريطة الإنسان المقهور في مصر وتونس