دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية3
لم ينجح الإسلاميون في سورية ولا في غيرها في إقناع باقي فئات الشعب أنهم مخلصون في مناداتهم بالديمقراطية والمواطَنة طالما أنهم لا ينادون بالعلمانية، وهم إن نادوا بالعلمانية فقدوا صفة الإسلامية. فالجميع يظن أن الإسلاميين ينادون بالمواطَنة والديمقراطية كتكتيك مرحلي ريثما يتمكنون ويصلون إلى الحكم ويحكمون قبضتهم على البلاد والعباد، وعندها سيعودون إلى معاملة الناس على أساس معتقداتهم، وسينسون المواطَنة وسيتمسكون بالديمقراطية من دون علمانية لأنها تعطيهم الحق في الانفراد بالسلطة لأن أغلبية السوريين مسلمون سنة، وعندها تعاني باقي الأقليات من تحكم الطائفة السنية لأنها أكثرية ويكون هنالك استبداد ودكتاتورية الأغلبية على الأقليات.
ويبقى السؤال: كيف نحقق ديمقراطية لا تطغى فيها الأكثرية على الأقلية ولا تكون علمانية في الوقت نفسه، والديمقراطية هي في جوهرها حكم الأغلبية؟
إنني وجدت الجواب واضحاً في وثيقة المدينة المنورة التي نظمت حياة سكانها عندما تحولت المدينة إلى دولة يرأسها محمد صلى الله عليه وسلم. إنه الاعتراف بالطوائف والأديان لا إنكارها وتهميشها، بل بإعطاء المجال لكل طائفة لتطبق الشريعة التي ترتضيها مهما قل عددها أو كثر، فهي أمة مع المؤمنين -أي أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء في الوثيقة- لها الأُسْوَة -أي المساواة- وكامل الحقوق كأمة من حيث حرية معتقداتها وممارساتها الدينية ومن حيث تطبيقها لشريعتها الخاصة بها والنابعة من معتقداتها الدينية.
في الغرب العلماني تضمن العلمانية أن لا يطبق المسيحي قوانيناً نابعة من دينه على اليهودي أو على الملحد، لكن هذه العلمانية تحرم الأقلية المسيحية المؤمنة مثلاً من أن تطبق على نفسها ما تختاره من شرائع، وهكذا ليست المواطَنة في إطار العلمانية أكثر عدلاً من المواطَنة في أمةٍ دين الدولة فيها الإسلام ويعيش فيها غير مسلمين، وإن اختلفت الفئة المظلومة في الحالة الأولى عن الفئة المظلومة في الحالة الثانية.
ونحن إن طبقنا المواطَنة مع العلمانية كما يفعل الغرب تعرضت الأغلبية المؤمنة بالإسلام السني للظلم حين لا يسمح لها أن تطبق على نفسها الشريعة التي تؤمن بها، وهذا يعني أنه من أجل الأقليات ستحرم الأكثرية من حقها في تطبيق الشرع الذي تؤمن به على نفسها.
إذن الحل في التعددية بأوسع معانيها بما في ذلك التعددية التشريعية، والتعددية هي أحدث ما وصلت إليه البشرية من تقدم سياسي وثقافي يضمن الحرية والمساواة لجميع المواطنين في مجتمع ما. ويبقى السؤال: إن طبقت الأقلية السنية ما شاءت من شريعة على نفسها فهذا سيعني أن كل السنة بما فيهم الملحدون سيخضعون للشريعة الإسلامية وسيكون ذلك نوعاً من التمييز والاضطهاد لهم.
هذا صحيح لذلك لا بد من الاعتراف بأمة أو طائفة جديدة هي طائفة السوريين العلمانيين ينتمي إليها من شاء من أبناء الطوائف السورية الذين لا يرغبون في الخضوع لأية تشريعات دينية، وعندها يكون هنالك قانون مدني سوري علماني بالموازاة مع أية قوانين خاصة بالطوائف المختلفة سواء في الأحوال الشخصية أو العقوبات أو المعاملات المالية، ويتم العمل بهذا القانون المدني العلماني -الذي يختاره السوريون بطريقة ديمقراطية- في كل الحالات التي يكون فيها المتعاملان أو المتخاصمان من الطائفة العلمانية، أو من طائفتين مختلفتين، ما لم ينص الاتفاق بينهما على الاحتكام لشريعة أحدهما عند الخلاف.
أي سيكون الأصل في الدولة السورية المنشودة أنها علمانية، لكن لكل طائفة من طوائف السوريين الحق في الاحتكام إلى شريعتها التي ترتضيها وتتوافق عليها بطريقة ديمقراطية، وهذا يعني أنه سيكون هنالك برلمان لكل طائفة، لتمارس من خلاله الطائفة كل حقوقها بشكل ديمقراطي حقيقي دون المساس بحقوق الطوائف الأخرى، وحتى لا تحصل فوضى وتَهَرُّب من الأحكام التي لا تعجب أحدنا سيكون على كل منا أن يحدد انتماءه الطائفي ويثبت ذلك في سجلات الدولة، فالسوري يكون إما علمانياً مهما كان أصله الديني، أو سنياً أو مسيحياً أو درزياً أو علوياً أو إسماعيلياً أو آثورياً أو جعفرياً أو أي معتقد يكون من السوريين من يؤمن به ويريد أن تتحدد هويته على أساسه. ويبقى لكل سوري الحرية المطلقة والحق في الانتقال من طائفة إلى أخرى متى شاء على أن يتم ذلك بطريقة رسمية موثقة لدى الدولة، دون أن يخشى من حد ردة ولا غيره.
في الدولة الديمقراطية التعددية تكون هنالك مواطنة حقيقية تضمن المساواة لجميع المواطنين وتعطيهم الحقوق نفسها بغض النظر عن معتقداتهم دون أن تمنع المؤمنين من أي دين من العيش كما يؤمنون ووفق الشرع الذي يرتضون. هو نوع من الحكم الذاتي أو الاتحادي الفدرالي لكنه لا يقوم على أساس المناطق الجغرافية المختلفة التي توحدت اتحاداً فيدرالياً لتشكل دولة واحدة، بل يقوم على أساس الجغرافية الثقافية ولو كان أعضاء الطوائف المختلفة متداخلين أو حتى متزاوجين ويشتركون في المدن والقرى والأحياء، أي ستتمتع كل طائفة بقدر من الاستقلالية ضمن إطار الدولة السورية الواحدة وتحت عنوان المواطَنة السورية التي لا تعطي الاعتبار إلا لكون الشخص سورياً.
لقد أثبتت الفيدراليات أنها أفضل من الاتحادات الإندماجية وأقدر على البقاء منها لأنه فيها تتمتع كل منطقة بقدر من الاستقلالية ويكون إمكانية الظلم وطغيان منطقة على أخرى أقل ما يمكن، وهكذا عندما تكون الأمة السورية مكونة من عدة أمم بحسب المعتقد الديني أو الثقافي، وتتمتع كل أمة باستقلالية مريحة لها في إطار دولة علمانية ليس لها صبغة دينية لأنها دولة جميع السوريين، وفي الوقت نفسه تطبق كل أمة من هذه الأمم الفرعية أي كل طائفة ما تراه مناسباً من تشريعات على أساس دينها ومعتقدها، يكون الجميع مرتاحاً ومُكَرَّماً ولا تطغى الأكثرية على الأقلية كما لا تطغى الأقلية على الأكثرية، ويكون الناس حقيقة مصدر السلطات في المجتمع كل ضمن طائفته؛
ثم يكون الجميع مصدر السلطات على مستوى الدستور والقوانين المدنية التي لا تصطبغ بأية صبغة دينية لكنها تفسح المجال لتطبيق كل طائفة لشريعتها الخاصة، وينظم الدستور هذا التنوع والتعدد بما يضمن حفظ الحقوق والحريات والعدل والمساواة بين جميع السوريين. وأريد أن أنبه إلى أن التعددية التشريعية على أساس الأديان والمعتقدات لا تتعارض مع الفيدرالية إن وجد السوريون مصلحة لهم فيها، لكن الفيدرالية تكون على أساس جغرافي تستقل فيها كل منطقة بإدارة شؤونها وتبقى القوانين التي تنظم حياة كل طائفة من طوائف السوريين مطبقة في جميع المناطق، وحيث وُجِد المواطن السوري المنتمي لطائفة معينة تطبق عليه تشريعاتها.
يمكن أن يتشكل البرلمان السوري من مجموع البرلمانات الطائفية بما فيها طائفة العلمانيين، وهنا أذكر أن طائفة العلمانيين ستضم كل من يرغب بأن ينتمي إليها حتى لو كان متديناً، طالما أنه يريد التحاكم إلى القوانين المدنية في كل شؤونه بما فيها أمور الزواج والأسرة والميراث، ولن يكون الانتماء للطائفة العلمانية مساوياً للانتماء لطائفة الكفار، كما يمكننا إن شئنا أن نسميها طائفة السوريين المدنيين.
سيبقى المجال مفتوحاً للسعي إلى تطبيق الشريعة لكن بالإقناع لا بالإكراه، وعلى أبناء الدين نفسه لا على أتباع الأديان الأخرى، ولن يكون هنالك ذميون في دولتنا الجديدة وإن كانت دولة فيها الحرية الدينية الكاملة ويمكن للناس أن يمارسوا فيها السياسة على أساس الدين، طالما أن فرض الشريعة سيبقى محصوراً ضمن من ينتمي للطائفة السنية ويستثنى منهم من يضع نفسه في الطائفة المدنية أو العلمانية ولا خلاف على التسمية.
وسيكون لكل سوري الحق في محاولة إقناع باقي السوريين لتبني قانون ما على مستوى الأمة السورية حتى لو كان هذا القانون مأخوذاً من الشريعة الإسلامية أو من أي عقيدة أخرى، هو له نيته وذلك بينه وبين ربه، ونحن لنا أن نناقش القانون المقترح وإذا وافقت عليه أغلبية السوريين فإنه سيبقى قانوناً مدنياً ولو كان في الأصل مأخوذا من دين من الأديان، لا يهم مصدره حين نريد تطبيقه على مستوى سورية كلها التي لن يكون لها دين من الأديان بل ستكون دولة لكل السوريين وعلى مسافة واحدة من كل طوائف السوريين. ولا يؤثر على الثواب الذي نريده من الله على تطبيق تشريع إسلامي ما، فيما لو كان هذا التشريع قانوناً مدنياً من الناحية الرسمية، فربنا يعلم ما في قلوبنا. المهم أن يكون كل شيء بلا إكراه ويكون بحرية وديمقراطية حقيقية.
عندها سيكون من حق أي سوري رجلاً كان أو امرأة أن يترشح ليرأس الجمهورية، وسيكون من حق كل سوري أن يختار منطلقاً في اختياره من معتقده الديني أو مستبعداً الدين وحاصراً له في الحياة الشخصية. المهم أن يتم انتخاب الرئيس من خلال ديمقراطية حقيقية، وإن كنت كمسلم أؤمن أنه لا يجوز أن يكون رئيس دولتي غير مسلم فلي الحق في أن أعبر عن ذلك من خلال صندوق الانتخاب، وإن جاءت الأمور على غير ما أؤمن به كأن ينتخب السوريون امرأة أو غير مسلم لرئاسة الجمهورية فإنها لن تكون نهاية العالم، لأن رئيس الجمهورية لن يكون الحاكم بأمره، بل سيكون موظفاً رفيع المستوى في دولة ديمقراطية لا تعطيه الفرصة كي يستبد ويحكم بهواه، ولن يكون عليَّ وزر أو إثم إن كنت بذلت ما أستطيع من جهد سلمي وقانوني من إجل إيصال المرشح الذي أرغب في أن يكون رئيساً للجمهورية سواء كان تفضيلي له على أساس الدين أو على أساس الجنس.
يجب أن يدرك كل منا أنه فرد واحد لا يحق له أن يُكْرِهَ الآخرين على ما يراه مناسباً، بل له أن يدعوهم إلى ذلك بالكلمة الطيبة، ولن يكون ملاماً عند الله إن لم يستجيبوا لدعوته، فكم من رسول لم يستجب لدعوته أحد أو استجاب له قلة قليلة فقط. يجب أن لا نُحَمِّل أنفسنا فوق طاقتنا ولا أن نفرض وصاية على غيرنا، اللهم إلا أن نجبر أولادنا على الصلاة ضمن عملية تربيتنا لهم حتى إذا بلغوا مبلغ الرجال والنساء توقفنا عن إجبارهم وعاملناهم ككبار لهم كامل الحرية، إنما ندعوهم برفق وموعظة حسنة لما نعتقد أنه خير لهم.
في الدولة السورية المنشودة سيكون للناس حرية التعبير عن أي شيء وبالطريقة التي يختارونها لكن لن يكون لهم حرية السخرية أو شتم أو إهانة الرموز الدينية لأي طائفة من السوريين حتى لو كان هذا الرمز هو بوذا أو غيفارا، فالله حرم على المؤمنين أن يسبوا الآلهة والأصنام التي كان مشركوا العرب يعبدونها كي لا يسب هؤلاء اللهَ رداً على سب المؤمنين لآلهتهم المزعومة، قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الأنعام108، أي سيكون لمن شاء أن يجادل بما شاء من أفكار لكن لن يكون له الحق أن يشتم الله أو الرسول أو القرآن أو الصحابة أو غير ذلك من رموز لأية طائفة دينية.
سيكون هنالك حرية تفكير وتعبير لا يحدها شيء إلا وجوب احترام باقي السوريين والاعتراف لهم بأنهم {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الكافرون6، أي سيعترف المؤمن للكافر بحقه في أن يعتقد ما شاء ويعبد ما شاء دون أن يكون لأحد حق إكراه غيره على اتباعه، فالإنسان كائن مستخلف له الحرية أن يفعل ما يشاء طالما أنه لم يعتدِ على حقوق الآخرين وطالما أن الله سيحاسبه يوم القيامة فيعطي الجنة لمن آمن وعمل صالحاً ويدخل النار من استكبر وأصر على الكفر وعصيان الخالق.
ولنا أن ندعوه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرفق وبالتي هي أحسن، وعلينا عندما ندعوه أن نكون مخلصين في حبنا للخير له وفي حرصنا على هدايته من أجله لا من أجلنا، ولفائدته لا لفائدتنا، وعندها ستحقق الدعوة أعظم النتائج بعكس الإكراه الذي لن ينتج إلا المنافقين الكارهين الذين يتربصون بنا الدوائر.
الإنسان مفطور على الاستقلالية ومحاولة إجباره على شيء تجعله يكره هذا الشيء ويرفضه حتى لو كان فيه الخير له لأنه يريد أن يشعر بحريته واستقلاليته، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يونس99. وسيكون الوالدان هما صاحبا الكلمة فيما يوجه لأطفالهما من تعليم ديني أو لا ديني، حتى إذا بلغ الأطفال السن القانونية صاروا هم المسؤولين عن أنفسهم ولهم الحرية التامة في أن يختاروا لأنفسهم كباقي السوريين.
في الدولة السورية المنشودة كما في أي دولة إسلامية صافية دينياً لا مجال للعنف في سبيل التغيير الاجتماعي والسياسي أبداً، بل الجهاد سيكون كلمة حق عند سلطان جائر، أي جهاد بالوسائل السياسية اللاعنفية كالعصيان المدني والتظاهر والاعتصام ووسائل الإعلام وغير ذلك مما لا يمارس فيه القتل أو الإكراه من أي نوع، وهذا لا يتناقض مع أن من قُتِلَ دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد.
14/06/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية1
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3) / الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5