الثورة ظاهرة إنسانية لازمت الخليقة منذ بداياتها، وهي فعل اجتماعي موضوعي يهدف إلى التغيير الجذري من خلال التمرد على الواقع القديم لصالح ما هو تقدمي جديد، حقيقة عايشتها الأمم على مرّ العصور المختلفة، إذ يعود تاريخ أول ثورة مدونّةٍ إلى عام واحد وسبعين قبل الميلاد عرفت حينها بثورة العبيد الثالثة بقيادة "سبارتاكوس" رمز الأحرار الأول في العالم ضد الاستبداد والظلم الروماني، أيضاً تطورت أشكال الصراع ضمن سياقات مرحلية تاريخية رافقت نهضة الثورة الصناعية في أوروبا بشكلٍ خاص، حققت نجاحات وإخفاقات تختلف من مكان لآخر بفعل نضوج الظروف الموضوعية ومشاركة القوى المحركة لها؛
بينما جاءت الثورات الوطنية التحررية العربية متأخرة نسبياً عن أقرانها نتيجة الطبيعة الكولونيالية الاستعمارية التي ورثت الإمبراطورية العثمانية المريضة آنذاك ثم تقاسمت مناطق النفوذ فيما بينها إبّان الحربين العالميتين الأولى والثانية، مما جعل المنطقة العربية أسيرة التخلف والتبعية تتشابك فيها تعقيدات الأنماط الاقتصادية المشوهّة مع إغراقها بالكثير من الصراعات التناحرية وخلق بؤر التوتر التي حرفتها عن مسار التنمية المستدامة، كان أخطرها زرع الكيان الصهيوني الدخيل في قلب الوطن العربي صنيعة الاستعمار الأوروبي نفسه لحماية المصالح الغربية وإجهاض مكامن القوة العربية السياسية والاقتصادية الواعدة خلال ترسيم حدود الدولة القطرية لأجل السيطرة عليها وفق سياسة "فرّق تسد"، حيث ركّزت الثروة بأيدي القلة وحرمت الكثّرة الموارد الطبيعية والممرات المائية اللازمة لتطور المجتمع نحو حياة أفضل؛
لذلك كان من الطبيعي أن تبقى المنطقة العربية الزاخرة بالثروات الطبيعية ومكانتها الجيو سياسية عرضةً للتقلبات الدولية والحروب الدائمة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي التوسعي من جهة، والانقلابات العسكرية الداخلية المتلاحقة المؤهلة وحدها للتغيير المطلوب من جهة أخرى، مما أدى الى أجواء مشحونة بالأزمات أبرز سماتها العامة عدم الاستقرار حيث ظلّت تتجاذبها رياح القوى الكبرى بما يخدم أطماعها بالرغم من فترة النهوض القومي التي أعقبت جلاء القوى الاستعمارية بعد أفول حقبة الحرب العالمية الثانية ومع ذلك حينما شعرت أن مصالحها قد تتأثر بفعل قرار تأميم قناة السويس الخالد لم تتوانَ عن ارتكاب حماقة العدوان الثلاثي على مصر الثورة.
لقد شهدت ستينات وسبعينات القرن الماضي تحولات سلبية كبرى أدت إلى انفراط عقد العمل العربي المشترك الهشّ أصلاً وترسيخ الأنظمة الديكتاتورية الشمولية الذي استمرّ حكمها عقود طويلة بعد إفشال محاولات الوحدة العربية وأضحى مصير بعض هذه الأنظمة مرتبطا بمدى تحقيق المصالح الأمريكية الغربية على حساب تطلعات الشعوب في الحرية والديمقراطية، تجلت ذروتها في إبرام معاهدة كامب ديفيد التي سلخت الدولة الأم عن محيطها العربي لقاء مساعدات اقتصادية وعسكرية وإخراجها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها استقبلت أيضا انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من الكفاح الوطني المسلح للشعب الفلسطيني كما أعادت القضية لأصحابها من أجل استرداد حقوقهم المشروعة في فلسطين الأرض والتاريخ والهوية.
ثورة استقطبت مشاعر الأمة من المحيط إلى الخليج وأعادت لها الثقة بالنفس بعد الهزيمة الحزيرانية المنكرة التي أضافت خسارة أراضٍ عربية جديدة في الضفة الغربية والجولان وسيناء، غير أن قوة التأييد الجماهيري هذه نبهّت الأنظمة الرسمية والقوى المضادة للثورة للحدّ من طموحاتها التحررية تداخلت فيها عوامل عربية رسمية ودولية لعرقلة مسارها باتجاهات جانبية أبعدتها مسافات عن تحقيق أهدافها التي انطلقت من أجلها خشية انتقالها إلى أماكن أخرى، مع ذلك استطاعت مواصلة مسيرتها الكفاحية بأشكال مختلفة راكمت خلالها إنجازاتٍ تاريخية هامة، بالرغم من الانقلاب المؤسف على الديمقراطية الفلسطينية وحالة الانقسام المدمّر الناجمة عنه ومتاهات التسويات السياسية وأصبحت الرقم الصعب في المعادلة الدولية، ولا زالت تعوّل على التغيير العربي الإيجابي المطلوب تجاه القضية المركزية للأمة بما يضمن انتصارها وتحقيق أهدافها المشروعة.
إن الثورات العربية التي انتشر أريجها الياسميني من تونس إثر احتراق شمعة البوعزيزي الساعي إلى البحث عن لقمة العيش، ليست فعل مؤامرةٍ أو مخططٍ خارجي يستهدف النظام الحاكم الحليف حتّى النخاع للإرادات النافذة في العالم، بل كانت بمثابة برميل بارود ينتظر شعلة الانفجار بعد تراكم دام عشرات السنين من القهر والحرمان وانتشار الفقر وفقدان الأمل بالمستقبل، لكن هذه الثورات التي طوت عامها الثاني وحققت المرحلة الأولى من أهدافها بإسقاط رؤوس الأنظمة الحاكمة منهم من قتل وهروب بعضها إلى الخارج، وأخرى زجّت في السجون بينما حصل البعض على حصانةٍ يقيهم المسائلة والحساب أمام القضاء العادل، لم تكن سوى بداية الطريق الشاق لأن الثورة الحقيقية لاتنقلب على نفسها، وهي ثورة بناء الإنسان الجديد البعيد عن سلوك الإنتقام والتخريب وسياسة تصفية الحسابات والإغتيالات السياسية على خلفية الرأي الآخر.
لعلّ أوجه التشابه بين هذه الثورات جميعها يكمن بغياب الأطر القيادية الوطنية القادرة على الاستمرار حتى النهاية، لذلك ظهرت قوىً طارئة منظمةً تنظيماّ محكماّ ملأت الفراغ الناشيء لا تختلف في جوهرها عن نظم الحكم الاستبدادية القديمة لكنّها مقنعّة بلبوس الثورة حيث ظهرت عاجزة عن إنجاز الحدً الأدنى من المهمات الوطنية الديمقراطية الملحًة كما كانت تأمل الشعوب الثائرة، الأمر الذي جعلها مكشوفة أمام الجميع بأسرع مما كانت تتوقع لهذا كان لابد من العودة إلى الساحات والميادين للمطالبة برحيل القوى المزيّفة عن المشهد السياسي واستكمال مطالب الثورة وحماية منجزاتها في ظل تبلور جبهات وطنية معارضة لنهج الإقصاء والتفرد مؤلفة من الأحزاب والقوى الوطنية المدنية بما يلبّي أماني وطموحات الشعوب المصممة على نيل حقوقها كاملة بعد أن قدمت التضحيات الجسام على مذبح الحرية، ربما تكون مرحلة المخاض هذه ضرورية لانقشاع الغيوم عن طبيعة القوى التي تقلدت زمام الأمور في تلك الدول لمعرفة مدى ارتباطها بالمشروع الأمريكي التقسيمي المعّد للمنطقة العربية من خلال الوكلاء الذين رهنوا مصير بلادهم ومستقبله لقاء الاحتفاظ بالسلطة بأي شكل كان.
واقرأ أيضاً:
الخروج من دائرة الوهم !