دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4
بعض السوريين متفائلون بحسم قريب وسقوط كامل للنظام، لكن القلقين المشفقين المتحيرين فكثيرون، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه يقدمون على الموت بكل إخلاص، وملايين من المدنيين بين مشرد ومحاصر ومصاب.
الدعوات متناقضة بين من ينادي بالجهاد المسلح مهما بلغت الخسائر والتضحيات في سبيل الحرية والتخلص من النظام، وبين من ينادي بسلمية الثورة لأنه يرى السلمية أقوى أثراً وأقل ضرراً. لكن من ينادي بالسلمية وأنا منهم يقف متحيراً ماذا يرد على الذين يجادلونه ويضربون الأمثلة من جرائم النظام التي فاقت كل التوقعات، ويسألونه مستنكرين: هل من المعقول أن تطلب من الناس أن يكفوا أيديهم ولا يدافعوا عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ومساكنهم؟
لو التزم السوريون السلمية الكاملة وامتنعوا عن أن يبسطوا أيديهم بأي عنف حتى لو دفاعاً عن النفس والعرض والمال والديار لأمكن إسقاط النظام بسرعة أكبر ولكانت النتائج مضمونة أكثر.
أنا مؤمن أن اللاعنف أو كفُّ الأيدي كما سماه القرآن الكريم سلاح فعال في الصراعات ضمن المجتمع الواحد أكثر من القتال والجهاد المسلح بكثير. لي أكثر من عشرين عاماً وأنا أتفكر باللاعنف كوسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي وذلك منذ أن تعرفت على فكر الشيخ جودت سعيد والدكتور خالص جلبي وقرأت كتبهما أكثر من مرة.
المهم اقتنعت باللاعنف قناعة تامة ومازلت على قناعتي به، لكن كلمة قالها لي صديق لي يؤمن مثلي باللاعنف رداً على تأكيدي أنه على الثورة السورية أن تعود سلمية مئة بالمئة وعلى مبدأ ابن آدم الأول: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)) {سورة المائدة} أجابني إجابة ذكية ساعدتني كثيراً على العودة إلى الواقعية الحكيمة، قال لي: "ما تقوله يحتاج إلى قديسين ليقوموا به"، وعبارته تتضمن أن السوريين فيهم ضعف البشر وليسوا قديسين ولا أنبياء ولم يستطيعوا الصبر على العدوان الهمجي الذي تعرضوا له دون أن يتصرفوا التصرف الطبيعي المتوقع من البشر وهو رد العدوان بعدوان مثله، لعل ذلك يردع المعتدين ويعجل بانزياح الكابوس عن صدورهم.
كنت ومازلت معجباً كثيراً بصمود اليمنيين أمام استفزاز نظامهم ومحاولته دفعهم إلى الثورة المسلحة بدل السلمية، فثبتوا على السلمية رغم أنهم أكثر شعب عربي مسلح حتى في الأحوال العادية، ويقال إن الشعب اليمني يمتلك أكثر من خمسة ملايين قطعة سلاح؛
وأنا أعتقد من الناحية النفسية أن امتلاكهم السلاح من قبل الثورة بكثير حماهم من الإذلال الذي تعرض له السوريون على مدى أكثر من أربعين عاماً، وبالتالي أكسبهم وجود السلاح بأيديهم دائماً، ثقة بالنفس، جعلتهم لا يتصرفون بأسلوب رد الفعل، ولا ينفع معهم استفزاز نظامهم لهم من خلال قنص مئات المتظاهرين السلميين في يوم واحد، لكنني حتى لا أظلم السوريين وأنا أقارنهم بإخوتهم اليمنيين أقول الله وحده يعلم كيف كان اليمنيون سيتصرفون لو اتبع نظامهم سياسة الاغتصاب الممنهج المتعمد بهدف الإذلال والتخويف والدفع إلى السلاح. نحن أمة لا تتحمل الاعتداء على العرض ويصعب على أبنائها أن يملكوا أنفسهم وأن يحافظوا على السلمية المطلقة وهم يرون شرار الناس يعتدون على بناتهم وأخواتهم، واليمنيون من أشد الشعوب العربية تمسكاً بهذه القيم الأصيلة.
في مقالاتي السابقة عن الثورة السورية وبخاصة في مقالي الرابع "الثورة السورية بين العنف واللاعنف" دعوت إلى السلمية وكفِّ الأيدي، لكنني قلت إن ذلك لا يتناقض مع كون من مات دون نفسه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون أهله أي عرضه فهو شهيد، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
لم أكن أناقض نفسي يومها، لكننا بحاجة إلى بعض التفكر لنكتشف الموقف السليم الذي يريده الإسلام منا في مثل هذه الأزمات. كلنا يعلم أن في الإسلام رخص، وفيه عزائم، فيه تعاليم تدعو للأمثل في كل شيء، وفيه الإذن بفعل ما يتماشى أكثر مع الضعف البشري، لكن ضمن إطار من العدل والطاعة لله ورسوله. القرآن الكريم صور المؤمنين أنهم أناس يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس ويدفعون السيئة بالحسنة، قال تعالى في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)) وقال في سورة فصلت: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}. وقال في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)}، وقال في سورة الجاثية: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}.
إذاً هي دعوة إلى أن تدير خدك الأيسر لمن لطمك على خدك الأيمن، فلا ترد اللطمة باللطمة ولا الإساءة بالإساءة، بل تصبر وتغفر، فيكون قلبك نقياً من الغل والحقد، مما يُمَكِّنُك من أن تحسن لمن أساء إليك، إحساناً صادقاً من كل قلبك، وعندها تستطيع تغييره بدل تدميره، فيتحول كأنه ولي حميم، وإن لم يتحول إلى ولي حميم بكل معنى الكلمة.
القرآن يدعو المؤمنين ليغفروا حتى للذين لا يرجون أيام الله من الكفار والملحدين والمشركين، ولا يقصر دعواه على الصبر والمغفرة على الحالة التي يكون فيها المعتدي أو المسيء مؤمناً مثلهم، وهذا يعني أننا مدعوون لأن نغفر للمسيء إلينا لا من أجله، فالله سيجزيه بما عمل، إنما دعانا إلى أن نغفر لترتاح صدورنا من مشاعر الغيظ والغل والحقد، وليزول الجدار الذي تشكله هذه المشاعر بيننا وبين إخوة لنا في الإنسانية أساؤوا إلينا، فنحسن إليهم ونرد الإساءة بالحسنة، وعندها يتحقق لنا ما نسعى إليه عندما نرد على العدوان بالعدوان، يتحقق لنا دفع العدوان وتجنب المزيد منه، وحماية أنفسنا من المزيد من الأذى والإساءة، وهذا واضح في قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة، أي ليس الأمر عجزاً واستسلاماً وسلبية تغري المعتدي بمزيد من العدوان، بل هو دفع للإساءة، لكن بوسيلة مثالية راقية تجعلنا ننتصر على الخصم بتحويله إلى ما يشبه الولي الحميم بدل العدو اللدود الذي كانه.
هذه هي العزيمة أما الرخصة التي تتجاوب مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها أكثر، وإن كانت دونها في الرقي والسمو الخلقي والتأثير في الغير، فهي رد الإساءة بإساءة مثلها، لا بإساءة تفوقها، فقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمَثِّل بسبعين من المشركين، لما رأى تمثيلهم الحاقد بجثة عمه الحبيب إلى قلبه حمزة رضي الله عنه في غزوة أحد، فنزل القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}.
إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، هذا إن عاقبتم، وإن هنا تشكك بوقوع المعاقبة، لكن تأذن بها في الوقت نفسه، دون تشجيع عليها، بل الحض هو على الصبر والإحسان، ومعه تذكير أن الصبر خير للصابرين من الانتقام، وأن الله مع المتقين، ومع المحسنين، الذين لا يظلمون، والذين يصبرون أكثر مما يعاقبون.
قال تعالى في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {37} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {38} وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ {39} وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {40} وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ {41} إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ {42} وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{43}}.
هذه الآيات الكريمة تلخص الموقف الإسلامي بكامله عند التعرض للعدوان، فهي تدعو إلى المغفرة، لكن تأذن برد العدوان بعدوان مكافىء، وتنهانا عن أن نظلم حتى الذين بادرونا بالعدوان والأذى.... اقرؤوها مرة أخرى وتأملوها لتعلموا روعة هذا الدين الذي يجمع بين المثالية والواقعية جمعاً رائعاً مريحاً للنفس البشرية.
ومثال آخر لعل الفكرة تتضح أكثر.. يقول تعالى إن عشرين من المؤمنين حق الإيمان والصابرين حق الصبر يغلبون مئتين من غير المؤمنين، وإن مئة من المؤمنين الصابرين يغلبون ألفاً من الذين كفروا، قال تعالى في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} 65 ثم قال: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 66.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية2
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4