ثورة سلمية محمية5
علينا ألا نشكك بنوايا المعارضين والثوار الذين يخالفوننا بالرأي، حتى إن كانت آراؤهم تلتقي مع رغبات النظام مثل رفض التدخل الخارجي العسكري، فليس كل من يرفضه عميل للنظام، وعلينا أن نتيقن أننا إن شاء الله تعالى سنسقط النظام إن نحن غيرنا استراتيجيتنا وتحولنا إلى إعلان مناطق آمنة لا مناطق محررة، وتحولنا من الهجوم والدفاع إلى الدفاع فقط.
ومن المعروف عسكرياً أن الدفاع أهون وأقل كلفة، وينجح بما يتيسر من السلاح، وبذلك لا نكون مضطرين لتقديم التنازلات لأحد من أجل الحصول على الأسلحة المتطورة، وكلما استغنينا عنهم كلما فرضنا عليهم شروطنا، فهم دائماً يخشون أن ننتصر وتخرج الأمور من يدهم، لذا يحافظون على العلاقة معنا والتظاهر أنهم يدعموننا وأنهم مستعدون لتقديم المزيد، كي يكسبوا معنا جميلاً، نرده لهم إن انتصرنا وفاجأناهم بانتصارنا من دونهم؛
وهذه الاستراتيجية ستكون أرحم بالأهالي بخاصة أن النظام لن يكون حريصاً على قصف المناطق الآمنة التي نعلنها كما هو حريص على قصف المناطق المحررة، وإن هو قصف المناطق الآمنة التي تعترف بسلطة الدولة في جميع النواحي المدنية فإنه سيخسر كثيراً من الناحية الأخلاقية حتى أمام أنصاره، وسيقل احتمال أن ينقلب الأهالي على الجيش الحر بفعل الدمار والتشريد الذي يوقعه بهم النظام، لأنهم سيرون بوضوح، أن ما يقوم به النظام من جرائم ضدهم لا يبرره شيء على الإطلاق، وأن الجيش الحر لا يعتدي على أحد، إنما هو يحميهم من بطش الشبيحة والمخابرات والجيش.
سياسة الهجوم التي يتبعها جيشنا الحر حالياً تجعل جرائم النظام وقصفه للمناطق المحررة مبرراً في نظر الكثيرين، والنظام كما نذكر جميعنا ادعى وجود جماعات مسلحة منذ بداية الثورة، كي يقنع أنصاره ويبرر أمامهم وحشيته وجرائمه، فهم بشر ولا يخلون من الحس الأخلاقي والقيم الإنسانية. فلو تحولنا إلى الدفاع، وعدنا إلى النشاطات السلمية، واعترفنا بالدولة من دون النظام الأمني، فسنحرمه من المبررات التي يجدها في عملياتنا العسكرية الحالية.
ثم إن استراتيجية الهجوم واستهداف العسكريين الذين أكثرهم مجبرون، يحولهم إلى أعداء للثورة، لأنها لا تقدر ظرفهم ولا ترحمهم، بل تقتلهم وتباهي بذلك، نحن بحاجة إلى كسب قلوبهم وتعاطفهم، وعلينا إن استسلم لنا أحدهم أو أسرناه أن نتلطف به، لا أن نقتله ونباهي بذلك، فيضطر غيره من بعده إلى الاستماتة في معاركه معنا، لأنه يعلم أن الأسر يعني الموت، وحب الحياة فطرة عندنا جميعنا.
ولنكن صرحاء مع أنفسنا فنراجعها وننتقدها كي نصحح أخطاءنا ونتعلم منها. المعروف للجميع أن الاستراتيجية المثلى في حروب العصابات والمقاومة الشعبية هي "اضرب واهرب"، كي تجعل العدو مستنفراً باستمرار لا يقدر على الراحة والاسترخاء أبداً لأنه لا يعلم متى تأتيه الضربة المؤلمة، أما الثوار فيضربون ثم يختفون يتحينون الفرص لضربات جديدة، وهكذا مع الوقت يرهق العدو ويستنزف ويصبح مستعداً لتقديم التنازلات التي يسعى إليها الثائرون.
وكلنا يعلم أن من الخطأ في حروب العصابات والمقاومة الشعبيةمحاولة الاحتفاظ بأي أرض، لأن ذلك يستوجب حمايتها وحماية سكانها من بطش النظام، ويستوجب تأمين حاجات الناس فيها، ويستلزم الموت من أجل الاحتفاظ بها، وليس خافياً أن القوى غير متكافئة في سورية بين الثورة الشعبية والنظام الذي يملك جيشاً منظماً وطيراناً وصواريخ ومدفعية وحتى أسلحة كيماوية، وهو يحارب معركة وجود أو فناء بالنسبة له، ولا يلتزم بأية ضوابط أخلاقية أو دينية أو قانونية، ولن يتورع عن أي شيء في سبيل البقاء والنجاة والمحافظة على مكتسباته.
أرى أن تحرير المناطق استراتيجية غير موفقة، وأن الظن أن النظام سيسقط بهذه البساطة ظن خاطىء، فهذه الاستراتيجية ستستنزف قوانا بينما قوى النظام متجددة، فهو يجند شباب سورية من جميع الطوائف ويزج بهم في المعركة، ولا يهمه من يموت منهم فكل يوم لديه مجندون جدد من أبنائنا، لذا لن يؤلمه كثيراً أن نقتل كل يوم العشرات من الجنود، فهم ليسوا أبناء عمته ولا أبناء خالته، هم أبناؤنا نحن وأغلبهم مُكْرَه على القتال ضد الثورة لكنه ضعيف غير قادر على الانشقاق. المهم ليس كسباً أن نقتل المزيد من أبنائنا المغلوبين على أمرهم، ونحن نظن أننا قد أصبنا النظام إصابات مؤلمة حقاً ومؤثرة.
إن إعلان المناطق المحررة يشكل عبئاً ثقيلاً على الثوار، ولا كسب منه يستحق كل الجهد المبذول فيه، إذ لا يهم أي يكون العلم المرفوع بنجمتين أو بثلاث نجمات، ولا يهم أن تسير حياة الناس اليومية تحت راية الجمهورية العربية السورية أو تحت راية الائتلاف الوطني أو الحكومة المؤقتة طالما أن معيشة الناس ستكون مؤمنة أكثر والثوار متفرغين للحماية والنضال السلمي أكثر. إن تحرير المناطق والدفاع عنها بوصفها مناطق محررة استهلك كل الطاقات، فتراجع النضال السلمي من مظاهرات واضرابات وإعلام تراجعاً كبيراً، وصار كل الأمل معقود على الحسم العسكري، والانتصار على النظام بالسلاح وحده.
الحروب قد تطول دون أن تنحسم، وبخاصة عندما يكون هنالك من يمد هؤلاء وهؤلاء ليستمروا في القتال والدمار، حتى يأتي اليوم الذي نرضى فيه بالتقسيم، بل قد نطالب به مطالبة، ونسعى إليه بكل طاقتنا. الحرب الأهلية اللبنانية استمرت خمسة عشر عاماً ولم تنحسم لصالح أي من الطوائف المتحاربة، رغم الدمار والقتل الرهيبين الذين عانى منهما لبنان واللبنانيون، والحرب بين شمال السودان وجنوبه استمرت أكثر من أربعين عاماً على فترتين ولم تنحسم حتى رضي الشمال بالتقسيم، والفوضى والحرب الأهلية في الصومال مستمرة من أكثر من عشرين عاماً رغم أن الصوماليين كلهم تقريباً طائفة واحدة، فكل قبائلهم من أصل عرقي واحد، وكلهم تقريباً مسلمون، وكلهم تقريباً سُنَّة، وكلهم تقريباً شافعيون، ولا يفرقهم إلا انتماء كل منهم إلى قبيلته وعصبيته لها، مع وجود مئات قليلة من المسيحيين والشيعة. أي أن ما يوحد الصوماليين أكثر بكثير مما يوحد السوريين، ومع ذلك نجحت الفتنة لديهم في تدمير الدولة وقتل مئات الألوف إن لم يكن الملايين، سواء بالسلاح أو بالمجاعات. فهل لو وصلنا إلى الحرب الطائفية بين مكونات الشعب السوري واللبناني سنكون أحس حالاً؟
لا تخلطوا بين الاستراتيجية التي تصلح لمحاربة عدو خارجي وتلك التي تصلح لمقاومة عدو داخلي، فإن الحكمة تكون في وضع كل شيء في موضعه المناسب، ولْنُجْرِ حسبة بسيطة في أذهاننا، فحتى لو استطاع الثوار أن يقتلوا كل يوم مئة من جنود النظام، أي ثلاثة آلاف كل شهر، وستة وثلاثين ألفاً في السنة، فلن يأتي يوم لا يبقى فيه لدى النظام رجال يقاتلون دفاعاً عنه.
النظام غبي في أمور السياسة، لكنه مجرم وماكر فيما سواها، وهو يدفع بالمجندين من أبنائنا ومن كل طوائفنا ويجعلهم في المقدمة، لأن خسارة أي عدد منهم لا تؤلمه، فهو قادر على تعويضهم بما يسحبه للتجنيد الالزامي من شباب الأمة كل يوم، وقد يستدعي الاحتياط ويزج بهم في معركته ضد الثورة، وهو يحرص على أن تكون خسائره من الرجال المخلصين له أقل ما يمكن.
ومن ناحية أخرى فكما دخل الجهاديون غير السوريين على الخط وجاء الكثير منهم ليقاتل مع الثورة، فإن النظام يستغل مشاعر الشيعة بكافة طوائفهم، وسيجد منهم جهاديين يتصورون أنهم إن ماتوا دفاعاً عنه، ماتوا دفاعاً عن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن النظام ومن يدافع عنه من أبناء الطائفة العلوية لا ينتمون إلى التشيع إلا بالاسم، فهم ليسوا متدينين أبداً، ولا يصلون ولا يصومون ولا يحجون ولا يزكون ولا يبنون المساجد في قراهم، لكن سياسة إيران رغم أنها لا تعترف بهم كشيعة حقيقيين، وحرصاً منها على مصالحها، ستجعل الفتاوى بوجوب الدفاع عن هذا النظام على أنه دفاع عن آل البيت وشيعتهم تنهمر على جماهير الشيعة في المنطقة، وسيكون هنالك مغررون كثيرون من إخوتنا الشيعة في المنطقة كلها على اختلاف فرقهم مستعدون أن يضحوا بأموالهم وأرواحهم دفاعاً عن النظام السوري، الذي لا يؤمن بدين إلا دين استكباره على باقي السوريين واستغلاله لخيرات البلاد واستخدامه لباقي العباد.
من أجل المكاسب السياسية يتم استغلال المتدينين من كافة المذاهب، ويزج بهم في معارك يحسبونها جهاداً في سبيل الله، وهم لا يدرون أن المصالح السياسية وحدها هي الغاية، ولا يدركون أنهم ضحايا للنظام من نوع آخر.
إنه لا في الثورات ولا في الحروب يكون الحسم عسكرياً محضاً، اللهم إلا عندما تكون هنالك قوة ساحقة تجعل العدو يستسلم دون قيد أو شرط، كما استسلمت اليابان لأمريكا بعد قنبلتين ذريتين أبادتا كل شيء في هيروشيما وناكازاكي. لذا علينا أن نعود إلى السياسة والوسائل السلمية ونعتبرها هي الأصل، وهي وسيلتنا الأولى للإطاحة بالنظام، وتبقى القوة العسكرية لمجرد الدفاع عن الأنفس والأموال والأعراض.
يجب أن نسعى لإسقاط النظام مع المحافظة على الدولة وعلى وحدة أراضيها، وإلا لكان الأولى بنا ألا نثور، بل نصبر وننتظر حتى يأتي الفرج من عند الله. نريد إصلاح بناء بلادنا، لا هدمها أولاً ثم بناءها، فالهدم سهل لكن إعادة البناء شاقة وتحتاج للكثير، فلنسعَ إلى تخليص سورية من نظام القمع والإذلال والاستئثار بالخيرات، لنوجد نظاماً يدافع عن حريتنا وكرامتنا ويضمن لكل السوريين المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، وهذا لا يستلزم هدم الدولة وإعادة بنائها من جديد، إنما هو إصلاح للدولة السورية القائمة، واستئصال للمفسدين فيها الذين ندعوهم بمجموعهم النظام.
النظام شيء غير الدولة، والنظام في سورية هو العدو وليست الدولة ككيان من مؤسسات وتشريعات تنظم معيشة الناس وتسعى لتأمين حاجاتهم. نريد إصلاح دولتنا ولا نريد تدميرها على أمل إنشاء دولة مكانها تكون كما نحلم، لأنه إن هدمنا دولتنا الحالية تحولنا إلى الفوضى وشريعة الغاب ولن نستطيع أن نوجد النظام من قلب الفوضى. علينا أن نحافظ على الدولة السورية ونسعى في إصلاحها لأن ذلك أهون كثيراً جداً من هدمها والعمل على إنشاء دولة جديدة. لقد اهتزت الأرض من تحت النظام السوري الذي لم يخطر له ببال أن يرى في سورية شيئاً مما شهدته بلدان عربية أخرى من ثورات، واستطاعت الثورة أن تقضي على هيبته في عيون السوريين، وهذا يكفي وعلينا العودة بالثورة إلى مسارها الأصلي ثورة سلمية ولكل السوريين وإن كانت محمية بالسلاح.
كتب في 22/11/2012 وأضيفت له فقرة طويلة في 22/12/2012
ويتبع >>>>>: ثورة سلمية محمية7
واقرأ أيضاً:
الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5 / دولتنا المنشودة جمهورية سورية ديمقراطية تعددية4