بات واضحاً أن مسار الثورة السورية في المرحلة السابقة قادنا للأسف الشديد إلى عملية واسعة من "تطييف الصراع" في المنطقة، وهذا أمر أحسب أنه من أخطر الأزمات التي عصفت وتعصف بنا في العقود الأخيرة. هذه الأزمة باتت تدار من قبل مكائن تعمل على تفاقمها وتعسير المعالجة ورفع الكلفة وبث اليأس في النفوس والادعاء بأنها "حتمية لا مفر منها"، ومن أبرز تلك المكائن:
ثلاث مكائن لتطييف الصراع:
1- الغرب المتصهين, من الواضح الجلي أن ثمة فصيلاً كبيراً في المعسكر الغربي يتبنى تطييف الصراع، بما يخلق ظروفاً مواتية لتفعيل خارطة الشرق الأوسط الجديد أو لتحقيق هدف قريب من ذلك. والمدهش أن الكثير من الساسة الغربيين يزعمون بأن الصراع الآن بات واضحاً بين "السنة" و"الشيعة"، وقد كثر ذلك في تصريحاتهم المعلنة، فضلاً عن تحركاتهم السياسية وبرامجهم المستورة، التي يُراد لها تدعيم الكيان الصهيوني بشكل مباشر أو غير مباشر.
2- التشيع الصفوي الشعوبي, هذا اللون من التشيع مسكون باستدعاء التناحر التاريخي ضد "النواصب" (السنة)، وهو يكرس الشعور بالمظلومية، ويتفنن في تفجير طاقات التنكيل والانتقام والتصفية للآخر "الناصبي"، وبالذات الجنس العربي، حيث إنه تشيع قومي عنصري. ومما يؤسف له أن الساحة الشيعية في المرحلة الأخيرة تسيدها هذا التشيع الصفوي الشعوبي وأمسى الآمر الناهي فيها عبر "ملالي إيران" وأتباعهم في العراق ولبنان وبعض دول الخليج العربي، وما تزعم "حزب الله" بجانب حركات أخرى ذات نزعات تشيع صفوي شعوبي إلا دليل ساطع على صحة هذا القول (سترد شواهد على ذلك لاحقاً).
3- التسنن المتشدد الإقصائي, هنالك فصيل سني متشدد ضد "الروافض" (=الشيعة)، وهو مهووس بإقصاء الشيعة وتصفيتهم، ويستمد هذا الفصيل مشروعية التكاره والتنافر مع "الروافض" من الطروحات الدينية السنية المتطرفة، التي تأبى الدخول في أي عملية للتصالح فضلاً عن التعايش والاندماج الاجتماعي مع أي فصيل شيعي، حتى لو كان معتدلاً، بزعم أنه لا يوجد معتدلون بين أوساط الشيعة. وهو زعم باطل بلا شك. ومحزن أيضاً أن الساحة السنية غلب عليها في هذه الفترة هذا الفصيل المتشدد بمختلف تجلياته.
التطييف يعني التدمير الشامل
تكمن خطورة "أزمة تطييف الصراع" في جوانب عديدة تنبثق من حقيقة أن توسيع نطاق الاحتراب الطائفي مرشح لأن يُوجَّه لتحقيق بعض الأهداف التدميرية للعالم العربي، والتي يمكن وضعها في ثلاثة قوالب تدميرية، وهي:
1- التدمير السيادي, أضحى تدخل الدول الأجنبية رافداً كبيراً في نهر تقسيم الدول العربية وتفتيتها وفق أسس طائفية، وهو ما يعيد التذكير بمشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يطرح خارطة جديدة لدول المنطقة اعتماداً على تلك الأسس القبيحة اللإنسانية.
2- التدمير البنيوي, الاحتراب الطائفي المدعوم بأسلحة المعسكر الأميركي الأوروبي مقابل المعسكر الروسي الصيني محتمل لأن يقود إلى تدمير بنيوي شامل في المنطقة، فما بُني بقوت الشعوب المطحونة لعقود متطاولة يُهدَم في أشهر معدودة. وقد تنشب حروب أهلية تأكل أخضر التنمية ويابس النهضة. وما يحدث حالياً في لبنان والعراق -على سبيل المثال- مجرد شواهد أو مقدمات أولية على صحة ذلك.
3- التدمير المعنوي, التشاحن الفكري والتعارك العسكري سيلغمان العقل الجمعي بقنابل الكراهية والتحاقد وسيلوّنان القلوب بألوان البغضاء والتناحر. وفي هذا نسف لعقود طويلة من التسامح والتعايش بين مختلف الطوائف في منطقتنا العربية.
والنتيجة المتوقعة لمثل هذا التدمير الشامل أننا سنكون إزاء دول مفتتة متناحرة، تعمها الفوضى غير الخلاقة، مقابل دولة قوية متماسكة للكيان الصهيوني، مما يجعلها مرشحة لأن تلعب دوراً قيادياً في المنطقة الجديدة مع "الدول الفتات" بدعم المعسكر الغربي المتصهين.
ما البديل عن تطييف الصراع؟
لا بديل سوى التعاطي السياسي الصرف بنزعة مدنية حديثة، فالتحرك لدعم المظلوم ومجابهة الظالم إنما يكون على أسس تحقيق العدالة والكرامة والحرية للمضطهدين ومحاربة الطغاة، أياً كانت عقيدتهم ومذهبهم، فلا الدين ولا المذهب يعنينا في شيء حينما نروم بموجب قيمنا الإسلامية العظيمة تحقيق العدالة والكرامة والحرية لكافة المضطهدين في الأرض.
أعلم أن مثل هذا الطرح قد يغضب البعض، ولكنني أطالبهم بالهدوء والتأني في القراءة والتحليل والتأمل بمقدمات المسألة ونتائجها ومآلاتها. فمثلاً، كيف يقال إنه صراع سني شيعي، ونسبة كبيرة من جيش الأسد هم من أبناء السنة؟ فالسنة يقتلون بعضهم بعضاً في سوريا (طبعاً بجانب مشاركة آخرين من غير السنة)، كما أن فصائل شيعية عراقية متطرفة تصفي بعض أبناء الشيعة وخصوصاً الشيعة العروبيين، ومثل ذلك تماماً في لبنان، فضلاً عن احتقار وتصفية بعض أبناء الشيعة العرب في بلاد فارس من لدن الشيعة الصفويين وملالي قم. والشواهد على ذلك كثيرة، ونستنتج منها أن المسألة يجب أن تدار وفق المنظور المدني السياسي، بعيداً عن الأطر الطائفية والأيدولوجية.
ومما نلاحظه في المشهد اليوم، أن كل طرف يدعي أن الطرف الآخر هو الذي دفع بالأمور لأن تكون طائفية. وأنا هنا أؤكد على مسألة مهمة، وهي أن الطائفية لا تتحقق فعلياً إلا بتوافق الطرفين على التوقيع على "عقد تبادل الكره الطائفي" وما يستتبعه من أعمال التنافر والتناحر والتعارك والتصفية. أما إن كان طرف واحد فقط هو الذي يؤجج البعد الطائفي في حين أن الطرف الآخر ينأى بنفسه عن الولوغ في هذا المستنقع فإنه لا يمكن القول بأن ثمة "طائفية حقيقية" في هذه الحالة، فالطرف المتعقل وإن كان يجابه الطرف المتطرف بكل قوة وجسارة إلا أنه يبني جسوراً للتواصل مع كافة الأطراف المعتدلة، وفي النهاية فإنه لا يكسب معركته مع التطرف فحسب، بل مع التسامح أيضاً، وهنا يكمن الفرق الكبير، الذي آمل أن يكون واضحاً للجميع.
من يكون ابن جدعان هذا الصراع؟
نظراً لما خلّفه تدخل "حزب الله" في سوريا من ردة فعل عنيفة في الفضاء السني في العالم العربي والإسلامي، فإنني أشير بكل وضوح إلى مسألة مهمة تتعلق بأن أعداداً متزايدة من "المسلمين السنة" بدؤوا يشعرون أو حتى يؤمنون بأنه لا فصائل معتدلة في الساحة الشيعية. ومن ثم فقد يقولون لنا: وكيف تريدنا أن نقيم حلف فضول مع هذه الفصائل المتطرفة؟
وهذه نظرة خاطئة تماماً، فثمة فصائل شيعية كثيرة، تتسم بالاعتدال والتجرد، كما أنها عروبية تقاوم المد الصفوي الشعبوي بكل ما تملكه من قوة وعتاد. وقد أبانت الأيام الفارطة عن بعض تلك الفصائل الشيعية المعتدلة، حيث وقفت بكل جرأة وصدق ضد تحركات "الصفويين" كـ"حزب الله" ومن لف لفهم، ويقف على تلك الفصائل قيادات شيعية عروبية تؤمن بالتعايش والاندماج الاجتماعي كما أنها تؤمن بالنقد والإصلاح والنهضة وتجاوز التاريخ نحو المستقبل، ومن هولاء -وهم كثر- العلامة اللبناني السيد علي الأمين الذي وصف تدخل "حزب الله" في سوريا بأنه "انتحاري تدميري"، ومثله العلاّمتان هاني فحص ومحمد حسن الأمين اللذان نددا بهذا الحزب الصفوي وأيدا الثورة السورية وأضافا: "إن هذا الموقف يأتي انسجاما مع مكوناتنا الإيمانية والعربية والإسلامية مع خصوصيتنا الشيعية التي لا يناسبها مجافاة روحية الإسلام الوحدوية وحرصنا على الدور الشيعي التنويري العربي" (بيان لهما نشر بتاريخ 11/8/2012، الجزيرة نت).
وهنالك بيانات أخرى مشابهة لشخصيات وفصائل شيعية عديدة في العراق والخليج ولبنان وغيرها، ولكنها للأسف لا تلقى دعماً ولا إشهاراً كافياً من جراء غلبة المد الصفوي وتسيده للمشهد الشيعي، وهذا ما يجب إيقافه.
وربما لا يعلم البعض أن هذه التيارات الشيعية العروبية المعتدلة يمارس ضدها إرهاب من قبل الصفويين، وهذا ما يوضح سر انكماش البعض وعدم قدرتهم على الإفصاح عن مواقفهم، ولعل قمع مظاهرة حزب الانتماء اللبناني في الأيام الأخيرة شاهد على هذا الإرهاب الصفوي الوحشي.
نخلص مما سبق، أن الاعتدال في السياق الشيعي أصل مترسخ وليس باستثناء طارئ، وأنه آن أوان دعم الفصائل الشيعية الحقيقية واعتبارها الممثل للتشيع المعتدل التصالحي (وهم وحدهم من يسمون بالشيعة)، أما الآخرون فهم ليسوا بشيعة بل "صفويون تصفويون"، وأنه من مصلحة الجميع التكتل والتعاضد لمجابهتهم ومجابهة سائر المتطرفين من كل طائفة، أياً كانوا، فالتطرف لا يحرق نفسه بل قد تأتي نيرانه الطائشة على البقية.
ولهذا كله، فإنني أشدد على ضرورة تكوين "حلف فضول سني شيعي"، وليكن ذلك بأسرع وقت ممكن، مع ضرورة اشتغال السياسي والديني والفكري على توفير مقومات إنجاح هذا الحلف واستدامته، فما أحوجنا إليه، ولتفيض صدورنا بالمحبة لكل من يؤمن بالتعايش والاندماج الاجتماعي، ولكل عقيدته ومذهبه وأفكاره.
وهذا هو الطريق الذي يؤّمن لنا القوة لفتح نافذة الأمل لدولنا وشعوبنا. وإن تقاعسنا وتركنا التروس بأيدي المتشددين هنا وهناك، فلنجهز أنوفنا لشم حرائق واقعنا وتعفن مستقبلنا ومستقبل أطفالنا.
إذن لننهض ونضع أيدينا بل قلوبنا على قلوب بعض. والسؤال الأخير: من يكون ابن جدعان هذا الصراع المخيف؟
واقرأ أيضاً:
وعينا متوعك!! / لماذا ينجذب الإنسان المعاصر للتقنية الحديثة؟ / لا تفلح ثورة تفشل في تسمية أشيائها / الدولة المعدلة ثوريا