في لقاء جمعني مع الشيخ أسامة الرفاعي في بيت ابنته في جدة قبل ثلاثة أسابيع سألته عن رؤيته، فوجدته متفائلاً بانتصار الثورة المسلحة إن هم أطاعوه وتوحدوا صفاً واحداً تحت قيادة موحدة. سألته إن كان لديه أمل حقيقي، وهو المتفرغ لمحاولة توحيد الفصائل المقاتلة، فأجابني أن هنالك عائقاً كبيراً أمام ذلك، وهو النفوس وما فيها من أهواء مستحكمة، فأضفت أنا أن الكثير من الفصائل معتمدة مالياً، وبالتالي في طعامها وسلاحهاودوائها على قوىً خارجية،ومنهذه القوى من لا يريد للفصائل أن تتوحد، وهذا يجعل التوحيد الذي يتمناه الشيخ أسامة أقرب إلى المستحيل. بعدها أخبرته بمخاوفي من أن تستمر الحرب عشرات السنين دون حسم، وبإيماني أن الأوان قد آن لنوقف الصراع، ونتجه نحو البناء، والعودة إلى الحياة الطبيعية، ولو كان ذلك يعني إعلان تقسيم سورية إلى دولتين، وهو تقسيم قائم على الأرض، ولا ينكره إلا مكابر أو حالم. فأجابني أن هذه الرؤية قد تكون موجودة عند السياسيين في المعارضة السورية، لكن لن يجرؤ أي منهم على البوح بها، لأن ذلك سيعني احتراق ورقته، وسقوطه سياسياً، وتصنيفه على أنه خائن وعميل. شيخنا حفظه الله على صواب في ذلك، لذا، وبما أنني لست سياسياً على الإطلاق، ولا أحلم أبداً أن أقوم بدور سياسي مهما صغر، بل سأبقى إن شاء الله في مهنتي طبيباً نفسياً ومفكراً إسلامياً، فإنني استخرت الله سبعمراتعلى كسر هذا الحاجز، كما أفعل عادة عند كل أمر هام في حياتي، فانشرح صدري لأكون أول من يعلن هذا التصور لحل أزمة السوريين وحقن دمائهم وحفظ ما تبقى من بيوتهم وأموالهم. إن مقالاتي عن الثورة السورية ما تزال كما هي يوم نشرتها بالاسم المستعار "الدكتور محمد ناصح عبد الله" موجودة على النت، وقد جمعتها في كتاب أسميته "مقالاتي: بصائر سياسية إسلامية للثورة السورية".. لم أغير شيئاً في المقالات الأولى، اللهم إلا أنني حذفت عبارات قليلة كنت أعتبر فيها الدفاع عن النفس خروجاً محرماً، لكن الله أنار بصيرتي ووصلت لما أرانيه صواباً وضمنته في كتابي "الميزان: تجديد نظرية الإسلام السياسية" أي جواز الدفاع عن النفس في وجه أي معتد..
أي باختصار، من أراد أن يخوّنني ويحمّلني مسؤولية التقسيم، فإن رصيدي الذي سبقت به الجميع، يدحض أية اتهامات، ويرد على أية ادعاءات.
ليس مقالي هذا تعبيراً عن حماستي لتقسيم سورية لأنني لست متحمساً لذلك على الإطلاق، لكنني واقعي، وأعترف بالواقع القائم على الأرض، وأدعو إلى استراتيجية جديدة لا مكان فيها للتنازلات، إنما هدفها الحفاظ على المكتسبات، والحفاظ على طاقاتنا أن تذهب هدراً، حتى لو كانت استشهاداً، لأن الشهادة في سبيل الله ليست هدفاً بحد ذاتها، إنما هي إحدى الحسنيين عندما لا ننتصر وقد بذلنا جهدنا ولا ننجو سالمين، أي نقدم ولا ندبر إلا متحرفين لقتال أومتحيزين لفئة، أما إن أمكننا أن لا نموت وأن ننسحب متحيزين لفئة المستقبل، فإننا نغيظ أعداءنا أكثر بكثير مما لو قُتلنا ونلنا الشهادة.. إن الحرص على الشهادة كيفما كان، أي بتوريط أنفسنا وأمتنا في معارك لا أمل في الفوز فيها، إنما هو انتحار يفرح به عدونا، ولا يُضيره أن يكون قتلانا شهداء وأحياء عند ربهم يرزقون، طالما أنهم انزاحوا من طريقه وأخلوا له الجو. فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام فيا لناس فقال :"أيها الناس لاتَمَنّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم" , أليس صاحب هذا الكلام هو من يبين لنا ما أنزل إلينا ويعلمنا الفهم الصحيح لرسالة ربنا إلينا؟
إنني لا أدعو في هذا المقال للاستسلام للنظام ورفع الراية البيضاء مقابل أن يقف القتل والتدمير، بل لابد من استمرار القتال لتحقيق المزيد من المكتسبات التي نفاوض النظام عليها عندما نفاوضه دولة لدولة، وإنه حتى مجرد الحفاظ على ما بيأيدينا والإسراع في تأسيس دولتنا عليه هو ترسيخ للنصر الجزئي الذي حققته الثورة المسلحة.
مقالي هذا ليس لتوهين العزائم وبث اليأس وإضعاف المعنويات، لكنه دعوة إلى معنويات مرتفعة قائمة على إدراك الواقع وليس على الأحلام والأمنيات. ومثلما يحتاج السوريون إلى ما يرفع معنوياتهم فإنهم أحوج إلى تقييم الواقع وإدراكه إدراكاً سليماً كما هو على الأرض لا كما يتمنونه.
نحن في حاجة ماسة إلى استراتيجية واقعية مؤسسة على الحقائق لا على الأمنيات، وإلا لن تنتصر ثورتنا ولن تحقق شيئاً. صحيح أننا بالواقعية سنحصل على أقل بكثير مما قاتلنا من أجله، لكننا إن ربحنا القليل وحقنّا دماءنا لهو خير ألف مرة من الموت دون طائل، ومن استمرار القتل والتدمير والجوع والتشرد والنزوح، بينما الأمل بالحسم ضئيل. ليس علاج الموقف بنفخ الأمل والحماسة في نفوسنا كي نستمر في القتال، بل بتبين الحقائق وبعث الأمل في نفوسنا بما يتناسب مع حقائق الواقع. إن التحميس مطلوب ولو بضرب الطبول عندما يكون القرار بدخول المعركة قرارنا نحن وبناء على مصالحنا التي نرجو تحقيقها، أما تحميس الناس على الدخول في المعركة بغض النظر عن نتائجها المتوقعة فإنه نوع من قيادة الأمة كما يقاد القطيع إلى مرعاه وربما إلى مذبحه. علينا الحذر من أن نبني استراتيجيتنا وفق موضوعات إنشاء حماسية، فيها تطويع لنصوص الإسلام وتاريخه وتاريخ الأمم الأخرى، لنقنع أنفسنا أنه لا سبيل أمامنا ولا خيار لنا إلا الاستمرار فيما نحن عليه الآن. نحن أصحاب القضية ويجب أن نتحكم بما يجري كي نوجهه لصالحنا. صحيح أننا قد لا نكسب شيئاً جديداً لكن الحيلولة دون الخسارة هي ربح مؤكد.
بعضنا يقول إنه لا أمل في قيام الدولة الجديدة لأنه ليست هنالك قيادة موحدة وليست هنالك إرادة دولية لقيامها ويؤكدون أن قيام دولة سنية خط أحمر للقوى الدولية لن تسمح به، وأن غايتهم الأولى والأخيرة هي استمرار النزاع المسلح مما يعني المزيد من الدمار ومن إضعاف بلادنا، لأن قيام الدولة الجديدة سيضع حداً للاقتتال الذي لا طائل وراءه.
الذي يحرص على استمرار القتل والتدمير هي إسرائيل فقط، أما القوى الدولية فإنها لا يهمها كم يُقتل منا وكم يدمر من منازلنا لكنها لن تقف في وجه إعلان الدولة الجديدة. يستطيع سياسيو المعارضة أن يجسوا نبض المجتمع الدولي، هذا إن لم يكن واضحاً لهم حتى الآن أن إبقاء الأراضي المحررة خارج نفوذ إيران هدف للمجتمع الدولي، ولن يكون ذلك ما لم تتحول هذه المناطق إلى دولة.
لا أدعو إلى إعلان دولة كما أعلنت داعش دولتها الإسلامية، فداعش فئة قليلة العلم الشرعي وقليلة الفهم للعصر الذي نعيش فيه وهي جزء من القاعدة الملاحقة من الجميع، سيكون الأمر مختلفاً إن أنشأنا دولة مدنية في الأرض المحررة، وسيدعمنا كثيرون. إن سورية تختلف عن الصومال، ومع ذلك هنالك دولة في شمال الصومال اسمها جمهورية أرض الصومال قامت منذ أطيح بسياد بري وحكمه العسكري عام 1991، فنجت من الحرب الأهلية التي دمرت كل شيء في باقي الصومال ونَعِم الناس فيها بالأمان وبأساسيات الحياة،فلا يمكن مقارنة الحياة فيها بحياة الصوماليين في مقديشو وما حولها.. ولم يقف في وجه قيام دولة شمال الصومال أحد.
إن انتظرنا حتى تتكون قيادة موحدة للمعارضة السياسية وللمعارضة المسلحة، أو حتى تأتي الفكرة من المجتمع الدولي، سواء كان ذلك لإنقاذ النظام إن بدا أنه سيسقط، أو لم يكن، فسيطول انتظارنا، ويشتد بلاؤنا، وفي الغالب لن نحقق أي مزيد ذا قيمة. إنه حتى الدول القائمة ليس لها قيادة موحدة، بل صناديق الاقتراع تخرج قيادة جديدة كل حين. والذي عنده أمل أن يأتي يوم تتوحد فيه جميع الفصائل المسلحة تحت قيادة واحدة فإنه واهم، ويعيش في عالم الأمنيات لا في الواقع المحزن الذي نحن فيه، ألم يقل ربنا: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّر ُمَا بِقَوْم ٍحَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" وهل تغير ما بأنفسنا من أفكار ومشاعر التغير اللازم والكافي لتحقيق النصر الحاسم؟
لا يمكن تبرير استمرار القتال مع أن احتمال الحسم ضئيل جداً بأن أمتنا متعودة على المعاناة تحت الاستعمار من أجيال عديدة، بل أمتنا كأي أمة أخرى تنشد الأمان والرفاهية والعزة والكرامة ولا تفرح بكثرة الشهداء.
سورية ليست فييتنام حتى تصمد على حساب الملايين من أبنائها لتضطر أمريكا في النهاية أن تتركها بحالها. فالحرب في سورية ليست حرب تحرير بكل معنى الكلمة، بل هي حرب تحرير مجازاً، لأنها حرب ضد سوريين آخرين، وإن هم استعانوا بالغرباء الإيرانيين وغيرهم، هي حرب ضد نظام ظالم ومستبد، لكنه مكون من سوريين وليس من أجانب، لذا لا يصح أن نقيس حالة سورية على حالة فييتنام أو أفغانستان أيام الاحتلال الروسي لها. وحتى لوكانت سورية مستعمرة من عدو خارجي، وقد حررنا نصفها، فما الغلط في إنشاء دولتنا عليه لنتمكن من الإعداد لتحرير الباقي بشكل أفضل؟ وهل يعقل أن نترك ما حررناه بلا دولة ليصبح مسرحاً للفوضى ومرتعاً لداعشوأمثالها ولتبقى حياة الناس فيه بدائية؟
ليس إنشاء دولة في القسم المحرر إقراراً بالهزيمة ورضىً بالذل والمهانة بعد أن ثار الناس وضحوا بأنفسهم من أجل الكرامة، بل هو تجسيد للانتصار في بنيان ملموس يحمي نفسه ولا يترك للنظام أملاً في استعادته. ولا داعِ للخشية أنه إن توقفت الثورة عند ما وصلت إليه وحققته حتى الآن، فقد لا تقوم ثورة أخرى تحرر ما تبقى من سورية من الظلم والاستبداد، إن الثورة الحقيقية هي الانفجار بعد تحمل الضغط الشديد المستمر، وإلا فلن تكون نابعة من الناس، إنما ستكون مفروضة عليهم، وهم لم يتغيروا إلى حد التمرد على الترهيب والتهميش والإذلال.
وليس إنشاء دولة في القسم المحرر خيانة وتخلٍّ عن القسم غير المحرر، لأنه لو أراد أن يتحرر فعليه أن يثور بنفسه، وواضح انه رغم الكره الشديد للنظام عند أغلب من في هذا القسم، ومن جميع الطوائف،إلا أنه لا أحد منهم يتمنى أن تتحرر بلدته بعد أن تُدَمّر ويهجرها سكانها. هذه الملايين التي في القسم غير المحرر لها الحق أن تقول كلمتها، وأن تختار لنفسها، حتى لو كان خيارها هو البقاء رازحة تحت الظلم والاستبداد. أليست ثورتنا ثورة حرية؟
ليس إقامة دولة في القسم المحرر تنازلاً عن كرامتنا ودماء شهدائنا، بل هو بمثابة إعلان انتصار مع أنه لم يكن هدفاً لأحد من السوريين الذي ثاروا يريدون الكرامة والحرية، إنه انتصار على النظام لكنه انتصار غير كامل، وسيبقى لدى النظام أمل وسيستمر في المحاولة ليعيد القسم المحرر إلى سيطرته ونفوذه إلا إن قامت فيهدولة مستقلة وذات سيادة ومعترف بها، ووقتها لا تكون اعتداءاته محاولات مشروعة لإعادة أجزاء من البلاد تمردت على حكومتها بل ستصبح عدواناً على أمة أخرى.
من يكره أن يرى سورية دولتين، عليه أن يذكر أن ذلك أفضل مئة مرة من أن يرى القسم المحرر أربع دول أو أكثر. إن الاعتراف بالتقسيم القائم والموجود بالأصل، يحمي سورية، وخاصة القسم المحرر منها من التفتيت. ومن يرى التقسيم مطلباً للنظام وللمجتمع الدولي لذلك علينا أن لا نقدمه لهم على طبق من ذهب، فعليه أن يذكر أن هذا السبب لا يستحق أن يقتل كل يوم المزيد ويصاب ويهجر الكثير ونحن ننتظر حتى يعلن النظام أو المجتمع الدولي رغبتهم في إعلان التقسيم. في بداية تحوّل الثورة إلى مسلحة قال الكثيرون إن النظام يحمل مسؤولية ما سينتج عن ذلك من خراب وقتل وتدخل أجنبي. نعم هو المسؤول، لكن هل يقدم ذلك أو يؤخر؟، وإن كانت مصلحتنا في إعلان دولتنا، أي جعل التقسيم قانونياً، فهل نضحي بمصلحتنا حتى لا يتمكن النظام من تحميلنا مسؤولية تقسيم سورية؟ هذه اعتبارات لا قيمة لها أمام المنفعة المرجوة من إقامة الدولة.
واقرأ أيضاً:
ما يحدث في سورية إلى أين؟3 / ما لنا غيرك يا الله(3) / الطائفية والثورة في سورية3 / الثورة السورية بين العنف واللاعنف5