استقر عند كثير من الدول الديمقراطية مقولة «لا تفاوض مع الإرهابيين أو من يهددون باستخدام العنف ضد المواطنين السلميين»، أي سنظل نقاتلهم ونطاردهم ونسجنهم حتى نقضي عليهم.
بعبارة أخرى: الديمقراطيات لا ينبغي أن تقدم تنازلات معلنة في مواجهة الإرهاب أو مستخدمي العنف أو المهددين به، ولا أن تعطي مكافآت للإرهابيين، مهما كانت أسبابهم أو مبرراتهم. لماذا؟ عادة تكون حجج هؤلاء في ثلاثة اتجاهات: أولاً التفاوض يعطي شرعية للإرهابيين، كما يعطي لاستخدام العنف وللتهديد به وزناً سياسياً أعلى كأداة مشروعة. ثانياً، التفاوض مع الإرهابيين يعطي إشارة سلبية إلى أن الراغبين في التغيير السلمي لن ينجحوا إلا إذا لجأوا للأساليب العنيفة أو التهديد بها. ثالثاً التفاوض مع الإرهابيين ينال من الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب ومحاصرته.
السطور السابقة تلخص المواقف المعلنة لعشرات الدول التي تتبنى نفس المبدأ، بل والذي أقرته العديد من تقارير الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن بشأن قضايا مشابهة. ولكن على أرض الواقع، وهذه واحدة من معضلات السياسة، أن المعلَن يمكن -بل ينبغي أحياناً- أن يتعارض مع الممارَس فعلياً، الحكومات الديمقراطية تتفاوض سراً مع الإرهابيين. وظلت الحكومة البريطانية حريصة على مسار تفاوض سري مع الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي كانت تصفه بأنه إرهابي. بل زاد التفاوض بعد أن قام بعض التابعين له بشن هجوم شديد على مقر الحكومة البريطانية في 10 داوننج ستريت في عام 1991. بل إن الحكومة الإسبانية تفاوضت في عام 1988 مع حركة «إيتا» الانفصالية، التي كانت تصفها الحكومة الإسبانية بأنها حركة عنصرية وانفصالية وإرهابية، فقط بعد ستة أشهر من قتلها لحوالي 21 مواطناً إسبانياً في هجوم إرهابي على سوبر ماركت.
وإسرائيل التي تزعم لنفسها أنها «أكثر دول العالم تعرضاً للإرهاب» وجدت أنه من الضروري أن تتفاوض مع من تعتبرهم «إرهابيين» في عام 1993 بما أفضى إلى اتفاق أوسلو.
إذن، هناك انفصال واضح بين المعلَن والممارَس في مسألة عدم التفاوض مع الإرهابيين والمهددين باستخدام العنف. وهو انفصال تضطر إليه الدول لأنه يقلل من السلبيات الثلاث المشار إليها ويسمح لها في الوقت نفسه بالتفاوض عبر مسارات غير رسمية لتعظيم مصالحها.
وحين درس بعض المتخصصين فكرة «إرهاب الإرهاب»، أي إرهاب الدولة للإرهابيين، وبالتالي ردعهم أو القضاء عليهم، وجدوا أن الإرهاب كالسرطان لا تكاد تسعى لقتل خلية سرطانية إلا وتجد نفسك بالضرورة إما تصيب أخرى بالسرطنة أو تقضي على خلية أخرى سليمة.
وقد سعيت للتدخل موضحاً الأمر لمن بيدهم الأمر لطلاب في التعليم الثانوي خرجوا في مظاهرات فتم القبض عليهم وأخذوا تجديد حبس أياماً وراء أيام، وهم الآن في السجن مع مجرمين متنوعين، وسيخرجون من السجن وقد فاتهم الكثير من أيام الدراسة، وقد يكتسبون قيماً وعادات مضرة بهم نفسياً وذهنياً على المدى الطويل. والملاحظ كذلك أن الكثير من ذويهم، ممن هم أصلاً كانوا معارضين لحكم الإخوان، أصبحوا أكثر نزوعاً نحو الخروج في مظاهرات احتجاجاً على احتجاز ذويهم أو أصدقائهم، ويتعرض هؤلاء للضرب والإهانة وما هو أكثر، فيزدادون تطرفاً. وكما هو معروف، غابة التطرف هي التي تنمو فيها شجرة الإرهاب. ومن يفكر على المدى الأطول قليلاً سيكون مطالباً بمنع الأكسجين السياسي عن الوصول إلى غابة التطرف حتى لا تنتج إرهاباً لا نريده، إذن:
أولاً، المعلَن ينبغي أن يكون أنه لا تفاوض مع أي إرهابي أو شخص يهدد المجتمع بالإرهاب قولاً واحداً، ولا مجال لتقديم أي تنازل من أي نوع في أي اتجاه.
ثانياً، الفعلي هو أنه لا بد أن يكون هناك مع الردع التام تفاوض سري تقوم به أجهزة أمنية عليا، بالتعاون مع وسطاء، لتفتيت الكتلة الإرهابية والتفريق بين المتطرف والمتشدد والقابل للعودة إلى التيار الوطني العام.
أعرف تماماً أن هناك من يتمنى أن يستيقظ صباحاً ليجد فصيلاً معيناً وقد اختفى من الوجود. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، هكذا أراد الكون رب الكون. دمتم بخير.
واقرأ أيضًا:
الاستقطاب بين الخيانة والإرهاب / إرهاب المعتدلين / الرياض والإرهاب التحولات القادمة / غموض مفهوم الإرهاب ووضوح المستفيدين منه!