أقف معكم في يوم آخر للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وإذ لا أشكك لحظة في أهمية هذا التضامن، قد أوافق الكثيرين تساؤلهم: ماذا يعني هذا اليوم لشعب لم تُثنه عن صموده في أرضه، متمسكاً بالحياة وبحقه، عقود من الاستلاب والقهر!؟ عقود توالت خلالها الحروب والهُدَنُ، واتفاقيات السلام والمذابح!؟ كلها عمّقت من استباحة الحق الفلسطيني، والشعب لم يُهادن في انتظار العدل والسلام!؟
فقبل ستٍ وستين سنة، قرّرت القوى العظمى في المجتمع الدولي تقسيم أرض فلسطين التاريخية إلى دولتين. ووعدت بألا ينتقص ذلك من حقوق سكانها الأصليين، ومنها إقامة دولتهم..!! لا القرارات نُفّذت ولا الوعود تحققت، والفلسطينيون منذ ذلك الحين في حالة تهجير قسري من بلادهم، وفي بلادهم. مُحيت قُراهم بالمئات عن الخريطة. غُيّر اسمُ وطنهم، بل وتغيرت أسماؤهم، وهوياتهم، وصار أغلبهم "لاجئين". أصبحت الأرض من تحتهم معارة لا تثبت، كسائر الأرض. والسماء فوقهم قماش خيم أو سقائف من الزنك، لا تثبت كسائر السماء. ذهبوا إلى المخيمات مضطرين لينجوا من الموت المسلح، فإذا الموت المسلح ينتظرهم في المخيمات التي لجأوا إليها. وأصبحت أسماء قُراهم، ومخيمات لجوئهم، أسماءً لمذابح تتوالى. من دير ياسين قرب القدس قبل ست وستين سنة، إلى مخيم الشاطئ وحي الشجاعية في غزة، قبل أشهر..!!
منذ قيامها، وضعت (إسرائيل) الفلسطينيين بين ثنائيات قاتلة؛ الموت في القرية أو الموت في المخيم، القهر في الاعتقال القسري، أو القهر في الانتقال القسري. فإما مشرد من بلد إلى بلد، بيوته مؤقتة، وفي بعض الأحيان، قبره أيضاً مؤقت، أو محاصر في مكانه لا يستطيع أن يبرحه، في مدينة محاصرة، أو قرية محاصرة، أو شارع محاصر، أو زنزانة موصدة. تُكرر (إسرائيل) أحداث عام ثمانيةٍ وأربعين كل عام. وما حدث في الساحل الفلسطيني قبل ستٍ وستين سنة، تُكرره في جبال فلسطين الشرقية وفي غزة بأشكال شتى، في الحروب وفي "استراحات السلم"؛ تُكرره والهدف واحد: كسـر روح الشـعب الفلسـطيني وغرس الهزيمـة في وجدانـه.
ولكن الرياح تجري بما لا يشـتهي المحتل الإسـرائيلي، والاسـتلاب والقمع لا يزيدان الشـعب الفلسـطيني إلا صلابـة وتمسـكاً بأرضـه وحقـه. وكأي مستعمر ثملٍ بالقوة ترى (إسرائيل) في أي مقاومة مادية لطغيانها "إرهاباً"، وفي أي مقاومة لفظية له تحريضاً على "الإرهاب". وكأي مستعمر لم يعتبر من التاريخ، تُصعّد التخويف والترهيب على وهم أن يؤدي استخدام القوة المفرطة ضد الشعوب المطالبة بحريتها، إلى إخضاعها. فها هي تتمادى في سياسة الاستيطان في الأراضي المحتلة في خرقٍ سافرٍ للقانون الدولي ولاتفاقية جنيف الرابعة. ولا تزال تهدم بيوت الفلسطينيين، وتُصادر أملاكهم وتسمح للمستوطنين بالتصرف كما يشاؤون بممتلكات السكان الأصليين وأرواحهم..!! وقد أصبحت المستوطنات تستحوذ على قُرابة 40 في المائة من أراضي الضفة الغربية. أما في القدس، فالبيوت وأهل البيوت رهائن لدى (إسرائيل)
وهذه السنة، سنة 2014، كان من المفترض أن تكون سنة للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وإذا (بإسرائيل) تزداد صَلَفاً وبسياساتها وممارساتها تزداد دماراً. تهجير للفلسطينيين بهدف خلق واقع ديموغرافي يُناسبها؛ والاستيلاء على الأرض بهدف بسط سيطرتها المطلقة؛ والقمع بهدف خنق أي محاولات للمقاومة أو لرفض ما يحدث. والقضيـة جرح في قلب المنطقـة العربيـة، ينزف عنفاً ودماً وتأخراً وانتهاكاً للحقوق، وقلب بعض هذا العالم ما زال مقفلاً دونها..!!
وتستخدم (إسرائيل) شتى الوسائل المنافية للقانون الدولي من إجراءات وأوامر عسكرية لتحقيق مآربها؛ ففي حرب السبعة أسابيع الأخيرة، قصفت (إسرائيل) البيوت على رؤوس أهلها العُزّل، فقتلت تحت ركامها الأطفال والنساء والمُسنين. وما نشهده الآن في القدس الشرقية دليل ساطع على سياسات الفصل والتمييز العنصري. حيث تُمارس (إسـرائيل) سـياسـة معلنـة لتغيير التوازن الديموغرافي في القدس المحتلـة بهدف خلق أغلبيـة يهوديـة مقابل الأديان الأخرى. ولا توفر لذلك طريقة، من التضييق الاقتصادي، والتهويل والإرهاب، واحتلال البيوت وتفريغها من أهلها. فكان الانفجار الذي نراه اليوم في مدينة السلام نتيجة محتمة. وتُشهر (إسرائيل) مطلبها بالاعتراف بها كدولة "للشعب اليهودي، وللشعب اليهودي فقط"، على حد قول رئيس وزرائها (بنيامين نتنياهو). ولم تخجل من تصاعد الخطاب العنصري لدى قياداتها ومسؤوليها خلال حرب غزة، إذ علت النداءات لإبادة سكان القطاع ولقتل الأمهات الفلسطينيات عقاباً لأبنائهن..!!
كثيرون هم المتضامنون مع الشعب الفلسطيني والمؤمنون بمعنى هذا التضامن، من دول ومنظمات وأفراد، والنوايا الطيبة كانت دائماً على سباق مع أعمال الهدم والتدمير. واليوم، كلنا أمل في الإسراع في إعادة إعمار ما تهدم في الأرض الفلسطينية المحتلة، وكسر الحصار الجائر المفروض على قطاع غزة، براً وبحراً، لأنه ضرورة إنسانية وسياسية. ومهما تعددت جهود التضامن واتسـع نطاقها، يبقى الحل الذي لا بديل عنـه، هو إنهاء الاحتلال الإسـرائيلي لجميع الأرض الفلسـطينيـة والعربيـة المحتلـة... والحل كي يكون عادلاً ودائماً لا بد من أن يسـتند إلى القانون الدولي كمرجعيـة أسـاسـيـة، بما يُكرسـه من حقوق، ومنها "حق العودة"؛ فلا يجوز أن يقبل أحدٌ أن تُسـاوم (إسـرائيل)، وأن تُنفذ ما يروق لها فقط من مواد القانون الدولي وشـرائعـه..!!
فميثاق هيئة الأمم المتحدة، وجميع المعاهدات التي وضعت لإنقاذ العالم من تجارب الماضي الأليمة وتحصين مستقبله منها، لا تقبل بالنُظم السياسية التي تقوم على التفرقة بين الناس على أساس اللون أو الجنس أو الدين. وقانون العودة الإسرائيلي كما مشروع القانون الجديد الذي تُعده (إسرائيل) حول "يهودية الدولة"، يُفرق بين الناس على أساس الدين! فلو افترضنا أن ملايين اللاجئين الفلسـطينيين، مسـيحيين ومسـلمين وبهائيين وغير ذلك، تحولوا بمعجزة بين عشـيـة وضُحاها إلى دين معين، لكانت دولة (إسـرائيل) تسـمح لهم بالعودة إلى بلادهم بمقتضى قانون العودة..! ولو أن ملايين الفلسـطينيين القاطنين في الأرض الفلسـطينيـة المحتلـة منذ عام 1967، تحولوا إلى ذلك الدين، لأصبح لهم الحق في التصويت على القوانين واللوائح المسـلطـة على حياتهم منذ أكثر من سـبعٍ وأربعين سـنـة. ولكان لهم الحق في اسـتخدام عشـرات الطُرق السـريعـة المعبدة في أرضهم والتي تحرمهم قوة الاحتلال من اسـتخدامها. ولأصبحت بيوتهم وأراضيهم محصنـة من المصادرة لإقامـة المسـتوطنات عليها، بل لصارت قوة الاحتلال تبني لهم البيوت ولا تهدمها...!!!
تُمارس (إسـرائيل) الاسـتعمار والتفرقـة العنصريـة التي باتت منبوذة من الجميع إلا مُقترفيها، وهي في ذلك من بقايا تاريخ اسـتعماري طويل مؤلم، حافل بالدروس، ومن دروسـه أن الاسـتعمار لا ينتصر، لأنـه منافٍ لطبيعـة الحياة واسـتمراريتها. ولنا في التاريخ معلم، إذ لم يسـتقم يوماً سـلام من غير العدالـة والحق. والعدالـة هي ببسـاطـة ألا يحدث في فلسـطين كل ما يحدث. فالإنسـان حسـب الفيلسـوف والمناضل ضد الاسـتعمار (فرانز فانون): "لا يثور بسـبب ثقافـة أو حضارة، بل عندما يكاد يقضي اختناقاً".
واليوم، إذ نتضامن مع الشعب الفلسطيني سنة بعد سنة، نعتذر منه، نعتذر لا عن التضامن، بل على طول الأمد ومر السنين، وإذا كان لنا من داعٍ للتفاؤل، فهو بما رأته أعيننا ولمسته أيدينا من صبر هذا الشعب الأبي وصموده، وأمله العنيد، هذا الأمل هو الذي يُلهمنا، وإن لم ينلْ اليأس من أهل البيوت المهدمة وأُسر الضحايا المنكوبة، فلا يجوز أن ينال منّا، إلى أن يُشرق في الغد القريب سلام من مدينة السلام.
*كلمة الدكتورة ريما خلف، وكيلة الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة
والأمينة التنفيذية للإسكوا
بمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني
تشرين الثاني/نوفمبر 2014
واقرأ أيضا:
قراءة لتجربة جمال عبد الناصر في ذكرى وفاته/ الشعوب العربية والمشاريع الصهيونية