الإدانة السياسية وحدها لا تكفي، فالشعب الذي عانى لأكثر من ثلاثين عاماً جوعاً وفقراً وحرماناً من التعليم وانهياراً في مؤسسات الدولة، لا يمكنه نسيان كل ذلك بين عشية وضحاها، فسيظل قانتاً غاضباً حتى يسترد ما سُلب من حقوقه.
لن يهدأ للمصريين بال إلا بمحاسبة المُقصرين، براءة المخلوع مبارك جنائياً، من جميع التهم المنسوبة إليه، دون توجيه إدانة واحدة ضده، لا ترضي طموحات الشعب الثائر في 25 يناير، مبارك الذي شهد عهده تزوير الانتخابات، وانهيار قلاع القطاع العام، وتدهور صحة المصريين، لابد أن يُحاكم حتى لو حصل على البراءة، والحال نفسه ينطبق على المعزول مرسي، الذي أفسد وجماعته في البلاد طوال عام حكمه الأسود، فأشعل ثورة الغضب الثانية في 30 يونيو، وإن كانت محاكمات الأخير الجنائية لا تزال مُستمرة، فإن من حق المصريين أن يطالبوا من الآن بمعاقبته ومبارك على ما اقترفاه من ذنوب وأخطاء، ليس سياسياً فحسب، وإنما أيضاً جنائياً.
مفوضية العدالة الانتقالية، شرعت في إعداد مشروع قانون جديد لمحاكمة الرؤساء، الذين ثبت تورطهم في الجرائم الجنائية والسياسية، وتعمل المفوضية على ثلاثة محاور، هي تقصي الحقائق، والمحاسبة، والعفو.
تُطبق المحاسبة من يوم 8 أكتوبر 1981 وحتى الآن، في قضايا الإفساد السياسي، وانتهاكات حقوق الإنسان، والعنف، سواء كان هذا من نظام الحكم، أو من جماعات إرهابية، ووجد أن هناك عدة بدائل لتحقيق ركن المحاسبة، في مقدمتها المحاكم الجنائية العادية، وهو ما اتبعته مصر فعلياً عقب اندلاع ثورة 25 يناير.
ورغم عدم انتهاء وزارة العدالة الانتقالية، من إعداد المشروع كاملاً حتى الآن، إلا أن تصريحات المسئولين بالوزارة، تُشير إلى أن القانون لن يتيح إمكانية توقيع عقوبات بالسجن أو الحبس على الرؤساء السابقين، وسيكتفي فقط بإدانتهم سياسياً، ما دفع "آخر ساعة" لتطرح القضية أمام عدد من القانونيين والحقوقيين، الذين اتفقوا على أن ما فعله نظاما الحكم في مصر قبل ثورة 30 يونيو، يستحق عليه الرئيسان (المخلوع والمعزول)، أقصى درجات المُعاقبة الجنائية، وهي الإعدام.
الاعتراف والصفح والتصالح، هي العناصر الثلاثة الأساسية التي يجب أن تتوافر لكي تتحقق العدالة الانتقالية، وفقاً للدكتور جمال جبريل، أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة، الذي أشار إلى ضرورة الاقتداء بتجارب الدول الأخرى لتحقيق العدالة الانتقالية، قائلاً: "يجب علينا الاطلاع أولاً على تجارب الدول التي سبقت مصر في العدالة الانتقالية، ومنها جنوب أفريقيا، ودول أمريكا اللاتينية، والمغرب العربي، ومن الأفضل أن ننتظر البرلمان لكي يقول كلمته بشأن هذا القانون".
عدة مبادئ طرحها الخبير القانوني، ويري أنها يجب أن تتوافر في مشروع القانون الجديد كي نتمكن من محاكمة الرؤساء السابقين، وهي تجريم التصرفات خارج إطار القانون العام، دون وضع الإثباتات والعقوبات القانونية، وبهذا يجوز للجاني الاعتراف بجريمته، وهو يعي جيداً أنه لن يُعاقب ويتم العفو عنه، وهذا ما لجأت إليه جنوب أفريقيا في عهد نيلسون مانديلا، وهو ما يسمى بـ"العفو مقابل الاعتراف بالجريمة"، موضحاً أن الجميع يعلم أن هناك فساداً سياسياً ومالياً وإدارياً، فضلاً عن الإضرار بالصالح العام، لكن لا يوجد دليل مادي على ذلك كي نُقدمه للعدالة، ورغم ذلك يجب ألا نتغاضى عن كوارث تلك الأنظمة، ونحكم ببراءتهم دون إدانة حقيقية.
جميعنا يعي جيداً أن القانون المصري يخلو من جريمة الإفساد السياسي، وهي جريمة تكون دلائلها دائماً شواهد عامة، وليست يقيناً مادياً موجوداً يمكن تحديده، ولهذا السبب لم نتمكن من محاسبة أي رئيس لأن الأدلة جميعها "مطموسة"، كما أن الفساد السياسي لا يأتي إلا بتعليمات شفهية، وهو أمر لا يعتد به القانون، هذا ما أكده الدكتور عادل عامر، أستاذ القانون العام بجامعة طنطا، مدير مركز المصريين للدراسات السياسية، مُشيراً إلى أن الجرائم السياسية التي حدثت خلال عهدي مبارك ومرسي لا حصر لها، أبرزها كان تزوير الانتخابات، وفرض قانون الطوارئ، ومحاباة رجال الأعمال، وإصدار قوانين لحماية مصالحهم، وإصدار بعض القوانين التي تحمي النظام وتحصنه من المساءلة السياسية.
وفي إطار شرحه لمفهوم الإفساد السياسي، أوضح عامر أنه يتمثل في السياسات العامة، ومنها السياسات الاقتصادية، التي أدت لنشر الجوع والفقر والعشوائيات، لافتاً إلى أن دستور 71 كان يجعل من الوزير ورئيس مجلس الوزراء سكرتير أول لرئيس الجمهورية، وهو مسئول السلطة التنفيذية، وبتطبيق نظرية التابع والمتبوع يكون الرئيس مسئولا عن كل سلوك يسلكه أي من الوزراء.
وعن البنود الواجب وضعها في القانون المُزمع تطبيقه، قال إن أي شخص سواء وزير أو رئيس حكومة أو رئيس جمهورية ثبت تورطه في جرائم إفساد سياسي يجب أن يُحرم من مباشرة حقوقه السياسية لمدة لا تقل عن 25 عاماً، وأن يتم عزله سياسياً.
ومن بين المواد التي اقترحها الخبير الدستوري، أن ينص القانون على أن الأشخاص الذين ثبت تورطهم في فساد مالي أو سياسي يجب فرض الحراسة على أموالهم جميعها، مع صرف معاش مُحدد القيمة له يصرف منه، على أن تعود كل أمواله لصالح الدولة.
نُقطة دستورية هامة أشار إليها، وهي أنه عندما يتم الانتهاء من إعداد القانون لا يجوز إصداره قبل مراجعة 40 مستشاراً متخصصاً في القانون العام والدستوري بمجلس الدولة له، حتى لا يتعارض مع قوانين أخرى، منوهاً إلى أن هذا القانون يجب أن يُعرض على الجمعية العمومية للفتوى والتشريع لمراجعته، مؤكداً أن هذه المراجعة تعطي حصانة للقانون.
واصماً القانون الجديد بأنه بلا سند دستوري، تبني المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، وجهة النظر المُعارضة لإصداره، مؤكداً أن هناك مبادئ تحكم المسئولية الجنائية، وأغلبها موجود بمواد الدستور، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقية الدولية للحقوق السياسية والمدنية، ومن أهم المبادئ التي تحكم هذه المسئولية الجنائية، أن التشريعات الجنائية الجزائية لا تجوز أن يكون لها أثر رجعي بمثل هذه القوانين والتشريعات، مُشيراً إلى أن الدستور يشترط أن تكون العقوبة بقانون، وأيضاً الحكم في هذا النوع من الجرائم بقانون، وتسري بأثر مباشر وليس رجعيا، وأوضح أنه حال إصدار هذا القانون لن يُطبق إلا مُستقبلاً، والأحكام التي تصدر بشأن محاكمة الرؤساء يتم تطبيقها على ما يلحق هذه القوانين من ارتكاب جرائم، ولا يجوز تطبيقها على الأنظمة الماضية سواء مبارك أو جماعة الإخوان.
طريقان لا ثالث لهما وضعهما محمد زارع، الناشط الحقوقي، لإقرار قانون محاسبة المفسدين من الرؤساء على ما يقترفونه من ذنوب بحق الشعب في فترات ماضية، الأول هو النيابة العامة التي تحاكم على الجرائم الجنائية، وتقدم الجُناة إلى القضاء العادل، ليقول قول الفصل، والثاني هو إيجاد مشروع متكامل للعدالة الانتقالية، تتوافر فيه عدة شروط تُتيح له تحقيق مبدأ العدالة الانتقالية، بمفهومها الذي ينُص على أن مُهمتها هي الانتقال من مرحلة الفساد والفوضى إلي الاستقرار وتحسن الأوضاع.
جازماً بإن الإرادة السياسية للدولة لا ترغب في محاكمة مبارك، وأنها لو كانت ترغب في محاكمته جنائياً لما حاكمته على جرائم وهمية كتصدير الغاز إلى إسرائيل، وقضية القصور الرئاسية، يرى زارع أن مبارك ومرسي كليهما كان يُمكن مُحاسبته جنائياً، وتوقيع أقصى العقوبات عليه، والتي تصل إلى حد الإعدام، واستنكر الناشط الحقوقي، مبدأ المُحاكمة السياسية، بعد فشل الجنائية، قائلاً: "لا أدري كيف يريدون مُحاكمة مبارك سياسياً لأنه لم يُدن جنائياً، كل جرائم هذا الطاغية كانت جنائية".
واقرأ أيضاً:
كيف أثرت شخصية مبارك في مصر والمصريين؟ / مبارك غضبان وقرفان وزهقان / تحليل نفسي لخطاب مبارك أمام المحكمة