لكل إنسان حق الحياة الحرة الكريمة.. بحيث يستمتع بما وهبه الله من نعم، ولا يحق لأحد أن يهدد هذا الحق تحت أي ظروف، ولأي سبب.. إلا أن يقتل إنسانا غيره، فيعامل بالمثل!
منذ عدة سنوات طلبت مني جريدة ألمانية تميل إلى اليسار مقالا عن أحوال المنطقة في ظل صراعاتها المشتعلة باستمرار، فكتبت لهم تحت عنوان أذكره جيدا.. "الشرق الأوسط،لا شئ.. سوى الموت"!!
في ورشة تدريبية على مفاهيم وممارسة التسامح طرحت علينا المدربة حالة درامية متخيلة بحيث وزعت علينا بشكل مفاجئ -لم نستعد له- أدوارا مختلفة، بحيث وضعني حظي في دور رجل إعلامي، بينما تضمنت الأدوار الأخرى: حاخام يهودي، طفل مشلول، راقصة، وموظفة حكومية، ورجل دين إسلامي، وضابط أمن دولة، وضابط قوات مسلحة متقاعد، وكان من المفترض أن يقرر هؤلاء التضحية بشخصين حتى تنجو السفينة التي تبحر بهم في بحر هائج، وتوجب على كل واحد من الركاب أن يدافع عن نفسه، ويبرر الإبقاء على حياته بما يقنع الأخرين، وتضمن التمرين نوعا من المفاوضات والتربيطات والخطط والمؤامرات بحيث حاول كل واحد من الموجودين دفع الموت عنه!!
التحديات والتهديدات والاتهامات والتبريرات كانت مذهلة، بحيث استغرق الأمر قرابة الساعتين حتى بدأ يتسلل للمتدربين وعي بأن الحياة حق لكل إنسان -مهما كان- وإن إدانة أي إنسان بالقتل لابد أن تكون عبر تحقيق نزيه، ومحاكمة عادلة وتمهل وتدقيق، وإن إهداري لحق أحد في الحياة يتساوى مع إهداره لحقي في الحياة، وإن الإدانة الأخلاقية أو المجتمعية ينبغي ألا تستوجب الحرمان من حق الحياة.. كما يحصل في الواقع، وكما حصل في التدريب!!
فوق منبر الجمعة.. خطب الشيخ منفعلا عن قدسية الحياة الإنسانية، وعن أن الإساءة إلى الرسول ستتضاعف إذا كان ردنا عليها هو قتل الفاعلين، وتناول بالشرح خطوات أولى وأنفع في الرد على الإساءة، وفي توظيف طاقة الغضب فيما ينفع، وحين اقتربت من الشيخ لأحييه -بعد الصلاة- وجدت من يكرر ويعيد عليه بأن أفضل رد على الإساءة هو القتل.. طالما نستطيع، وتطاله أيدينا، والشيخ تمتم متجاهلا، ومر في طريقه راحلا!!
التعطش لإراقة الدماء هو نزوع في الإنسان جاءت الأديان لتهذبه، وتشعله المظالم المتراكمة، والظروف الضاغطة التي يتعرض لها المقهورين نفسيا وجسديا، والإساءات التي يتعرض لها كل إنسان تتخزن بداخله بلا وعي غالبا، وتدريجيا ينحط إلى مستويات بدائية حيوانية وحشية، وبينما الوحوش لا تقتل إلا دفاعا عن النفس، أو سدا للجوع، ستجد بشرا يقتلون أو يستبيحون قتل الأخرين تحت مسميات شتى، وحين يرصون الكلام ويرفعون الصوت ويسودون الصفحات ويصرخون دفاعا عن قدسية الحياة.. نحتاج إلى تدقيق وبحث في تواريخهم لنكتشف أنهم إنما يتحدثون عن قدسية حياتهم هم، وحرمة دماءهم، وأعراضهم، بينما غيرهم مباح دمه، وعرضه، ومتاح السمعة، والكرامة.. للنيل منها.. تحت مبررات ومقدمات تخصهم وتقنعهم وتسكن ضمائرهم المريضة!!
السلطة في كل زمان ومكان تستثمر هذه المفارقات لمصلحتها، وتميز بين الدماء، ولعبتها المفضلة هي ملائكة ضد شياطين، وعسكر ضد حرامية، وأطهار في مواجهة أراذل.. ومن يقبل بهكذا تقسيمات فلا يلومن إلا نفسه، ولا يتوقع إلا أن يقتل بسيف هو من يسله ويشحذه أو حتى يشجعه ليقطع رؤوس الأشرار، فإذا به ينغرس في رقبته هو، أو في خاصرته.. ليسيل دمه، وينتهك عرض، ويهدر حياته!!
الحياة للجميع، أو الموت للجميع.. وللحقوق سبل وطرق وتدابير، وإقامتها فريضة على كل ساع لوجه الله، باحث عن الحقيقة!!
25 يناير كانت بداية مختلفة، وبارقة أمل تبددها بدائية من يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم، وبالتالي حياتهم مقدسة أكثر، ولا بأس من موت الأخرين تحت مبررات ودعاوى واتهامات وسخافات يحسبها من يرددها شيئا.. بينما هي مقدمات تسهل قتله هو شخصيا، أو من ينتمي إليهم.. قتلا رخيصا، وربما مجانيا!!
الانتقال من الهمجية، والعشوائية، والتعافي من تراكمات الإساءات والأوجاع المشوهة لفطرة البشر فينا، ومعالجة الصدمات والشروخ والصدوع والجراح هي مهمة لن تنجزها أية سلطة من أي وعاء خرجت.. بل السلطة تأتي عبر تنافس ومعارك وتمييز واختلافات!!!
مسارات أخرى ممكنة ومتاحة وخبرات وتجارب عاشتها أمم خرجت من حضيض الدم إلى نهارات مختلفة.. أولها هو الإقرار بأن البشر سواسية.. فعلا.. وجميعا، وليس على طريقة جورج أوريل الذي قال في إحدى رواياته متهكما: صحيح أن البشر متساوون، ولكن هناك البعض أكثر تساويا من غيرهم!!!
السبت, 31 يناير 2015
واقرأ أيضاً:
متسع جديد للدهشة / زينب مهدي: صرخة وفرصة / الحاضر والمستقبل بعيون الفن / هوامش على مقتلة باريس / 25 يناير... رابعة