سيدة ريفية بسيطة في الخمسين من عمرها وأم لستة أبناء اعتنت بهم وربتهم بطريقة جيدة وكانت وفية لزوجها طوال عمرها, أصابها ألم في ظهرها, ذهبت لأطباء كثر ولم تشعر بالراحة, حتى ذهبت للطبيب ع . س فوصف لها حبوبا شعرت بالراحة من أول حبة واختفى الألم تماما ودعت كثيرا لهذا الطبيب الماهر الحكيم الذي عرف ما لا يعرفه بقية الأطباء...؛ ولكن ما هي إلا عدة ساعات حتى عاد الألم أشد مما كان فأخذت الحبة الثانية والثالثة قبل موعدها فاستراحت من الألم, ومن يومها لم يعد لديها شيء تنشغل به إلا البحث عن هذه الحبوب الساحرة التي تخفف آلامها بل وتجعلها في حالة انبساط وبهجة وتقوم بأعمال البيت بهمة ونشاط بالغين, وهي تدور على الصيدليات بنفسها ترجوهم وتحتال عليهم وتتوسل إليهم لإعطائها تلك الحبة السحرية بأي ثمن, ولم تنتبه للسمعة التي اكتسبتها في القرية أنها مدمنة ترامادول, وباعت كل ما لديها من قطع ذهبية للحصول على ما تريده.
مجموعة من "الصنايعية" في مدينة دمياط يطلب منهم صاحب الورشة إنهاء "مقطوعية" من الأثاث لتوريدها إلى إحدى الشركات في موعدها فلا يستطيعون ذلك, فيوزع عليهم صاحب الورشة حبوبا حمراء فيدب فيهم النشاط ويستطيعون السهر لفترات طويلة, ومن يومها لا يستطيعون أداء عملهم إلا بعد الحصول على الحبة الحمراء أو البيضاء الساحرة. بعد ذلك كانوا ينفقون كل دخلهم البسيط بل ويقترضون ويحتالون بأي طريقة للحصول على المال الذي يمكنهم من تعاطي الترامادول.
سائق شاحنة ينقل خضروات وفواكه من الصعيد إلى القاهرة ولا يستطيع التوقف في الطريق للراحة وأخذ قسط من النوم, إذ يخشى أن يطلع عليه بعض البلطجية فيأخذون منه الشاحنة بما فيها, كما أن حمولة الخضروات والفواكه لابد وأن تصل في موعد محدد حتى لا تتعفن, لذلك نصحه زميله بالحبة الساحرة التي جعلته يقود الشاحنة لساعات طويلة دون أن يتعب أو ينام, وزاد من الجرعة مع الوقت حين وجدها تعطيه أيضا قدرة جنسية فائقة وتجعل مزاجه "في السحاب" كما يقول, ولكن سعادته لم تدم حيث أصيب بنوبات فقدان للوعي مع تشنجات تداهمه في أي وقت حتى أثناء قيادته للشاحنة وقد أدى هذا لتكرار حوادثه على الطريق فاستغنى عنه صاحب الشاحنة.
عقار ساحر بمعنى الكلمة يعطي الإنسان ما يريده وما يتمناه لذلك سقط الملايين في عشقه ولم يفكروا فيما وراء سحره, لو سألت أحدهم كم يتعاطى سيقول لك: ربع حبة أو نصف حبة ولكنه في الحقيقة يتعاطى شريطا كاملا أو نصف شريط وبعضهم يتعاطى شريطين في اليوم الواحد, إنه الإنكار الذي ينتاب المدمن حين يقع في شباك حب إدمانه فيخفي حقيقته عن الناس (العزال) ليواصل رحلة غرامه بعيدا عن العيون المتلصصة والأسئلة الفضولية السخيفة.
بداية نقول أن الترامادول عقار يستخدم في المجال الطبي كمسكن قوي للألم الشديد بعد العمليات أو الكسور وفي مرضى السرطان, حين يعطى بتوجيهات طبيب بجرعة محددة ولمدة محددة لعلاج هذه الأمراض, وهو عقار مرخص باستعماله من قبل الجهات الصحية ولكن يصرف (أو يجب أن يصرف) بوصفة طبية خاصة لأنه يخضع لجدول العقاقير المخدرة, لذلك نحن لا تقدح في العقار نفسه ولكن نتحدث عن استخدامه الترويحي والإدماني خارج النطاق الطبي، وقد أنتجته شركة دواء ألمانية في عام 1977 ليستخدم في غرب ألمانيا ثم بعد ذلك بعشرين سنة انتشر استخدامه في بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا ثم انتتشر استخدامه بعد ذلك على مستوى العالم.
وقد انتهت فترة احتكار الشركة الألمانية المنتجة للعقار ولذلك حدث انفجار هائل في انتاج العقار بواسطة شركات أدوية أخرى على مستوى العالم أنتجت العقار تحت أسماء مختلفة ومتعددة وصلت إلى 120 اسما أشهرها الترامادول والتامول والترامال والترامودا والتراميد والترامازاك والتراما والترامابول والتاندول والتامول والأمادول والتراماكس والكونترامال والألترادول والتراموندين وترامادول X 225 وتامول X بيضاء وتي دول 225 وغيرها.
وهو ينتمي إلى مجموعة الأفيونات المصنعة ولذلك يعتبر من مشتقات المورفين ومن عائلة الهيروين, أي أنه من المخدرات قوية التأثير. والعقار يصنف ضمن الأدوية التي تصرف تحت السيطرة حتى لا يتم إساءة استخدامه أو تعاطيه بشكل ترويحي أو إدماني, والقوانين تنظم استخدامه في أغلب دول العالم, ولكن للأسف يتم توزيع (وربما تصنيع) كميات هائلة من العقار خارج الإطار الصيدلاني المقنن, ولهذا تم ضبط 250 مليون قرص ترامادول مهرب إلى مصر عام 2012م وتم ضبط 158 مليون قرص مهرب أيضا لمصر عام 2014 م, ومن المعروف أن ما يتم ضبطه هو عشر ما يتم دخوله إلى البلاد, ولهذا نرى انتشارا وبائيا لتعاطي الترامادول في مصر وبقية الدول العربية.
وفي المملكة العربية السعودية تم تصنيف الترامادول على أنه مادة مخدرة وليس دواءا .. ومن ثم يتم تطبيق عقوبة الإعدام على من يقومون بتهريبه إلى الأراضي السعودية, كما يتم تطبيق عقوبة السجن لمدة قد تصل إلى عشرون عاما على من يثبت عليه إدمان الترامادول. ولهذا كانت الدول تنبه على منتسبيها ألا يحملوا معهم الترامادول أثناء رحلات الحج والعمرة حتى لا يتعرضوا لتلك العقوبات, إذ ثبت - بكل أسف - أن أعدادا غير قليلة ممن يتوجهون للحج والعمرة كانوا يأخذون معهم جرعات من الترامادول نظرا لتعودهم على تعاطيه.
والترامادول المصري بدأ إنتاجه منذ حوالي 15 عاما وكانت تنتجه إحدى الشركات المصرية بتركيز 50 ملجم ولم يكن موضوعا على جداول المخدرات مما ساعد على انتشاره, وعلى الرغم من وضعه على جداول المخدرات في السنوات الثلاث الأخيرة إلا أن صرفه خارج الإطار القانوني ما زال سهلا وممكنا وذلك لضعف السيطرة على الصيدليات وضعف العقوبات على المخالفين. ومما زاد الأمر خطورة استجلاب كميات هائلة من الترامادول من الصين والهند بأسعار رخيصة جدا حيث أن هذا العقار غير مصنف لديهم ضمن قائمة العقاقير المخدرة ولهذا ليس لديهم مشكلة في تصنيعه وتوزيعه.
والخطورة في الترامادول الهندي والصيني أنه مخلوط بمواد أخرى ومنها السيلدينافيل (الفياجرا), والباراسيتامول (مسكن) والكافيين (منشط), والديازيبام (مهدئ) والميترونيدازول (علاج للمعدة), مما يعطي تأثيرات متعددة ومرغوبة من المتعاطين ولكنها تحمل مخاطر لا يمكن حسابها حسب جرعة الترامادول المنفرد, كما أن المنتج الهندي والصيني له تركيزات عالية تصل إلى 225ملجم وهي جرعة زائدة على الإحتياجات العلاجية الطبية والتي لاتتجاوز غالبا 100 ملجم يوميا.
وتصل نسبة إدمان الترامادول 40% من إجمالي عدد المدمنين وهو يأتي في المرتبة الثانية بعد الحشيش. وأكثر الفئات استخداما له هم السائقون والحرفيون والتجار والمراهقون, وقد امتد استخدامه للطبقة الوسطى من المتعلمين وأصبح يستخدم كهدايا ورشوة لقضاء المصالح. ولم يتوقف استخدامه عند هذا الحد بل امتد إلى ربات البيوت (لعلاج آلام الظهر أو آلام الدورة الشهرية) وإلى المراهقين والشباب.
فما هو سر هذا العقار؟ وما هو تكوينه الكيميائي ببساطة وكيف يعمل؟
إنه ينتمي إلى فصيلة الأفيونات المصنعة (أي أنه ليس مسكنا عاديا كما يعتقد المدمنون وكثير من الناس). وهو يؤدي هذا المفعول من خلال آليتين: الأولى أنه يرتبط بمستقبلات الأفيون والثانية أنه يثبط إعادة أخذ السيروتونين والنورأدرينالين. والآلية الأولى تعطيه طعم وتأثير المواد الأفيونية مثل الأفيون والهيروين فيزول أي شعور بالألم ويصبح في حالة نشوة واسترخاء جميل وحالة من اليقظة, والآلية الثانية تعطيه تأثير مضادات الاكتئاب لذلك يشعر متعاطيه بزوال همومه وبسعادة وبهجة ونشاط.
وكثير من متعاطي الترامادول بشكل ترويحي يستخدمونه لتحسين أدائهم الجنسي حيث يؤخر القذف ويطيل من مدة اللقاء الجنسي 2-6 أضعاف الوقت المعتاد وهو يؤدي هذه الوظيفة في جرعات صغيرة تتراوح بين 25-50 ملجم قبل الجماع ب 6-8 ساعات. وهم يخلطونه بالفياجرا التي تؤدي إلى تقوية الانتصاب وبذلك تكتمل الدورة الجنسية بالشكل الذي يريدونه, وأحيانا يضيفون الحشيش إلى هذه التركيبة بحيث يؤثر على إدراك الزمان فيطيله وإدراك الألوان والأصوات فيجعلها أكثر تأثيرا وبهجة, وهذه الخلطة يسمونها "التوجيبة" ويعطونها أحيانا للعريس في ليلة الدخلة, أو لبعضهم البعض يوم الخميس (ليلة الجمعة) أو في الأعياد.
هذا هو الوجه الساحر للعقار فما هو الوجه الآخر الذي ربما لا يعرفه مدمنوه؟
إن من أعراضه الجانبية حدوث نوبات تشنجية صرعية, وحدوث زملة زيادة السيروتونين, ونقص حالة اليقظة, ثم الأخطر من ذلك كله وهو حالة الإدمان عليه. وهناك أعراض جانبية أخرى مثل الإمساك المزمن, والهرش والغثيان والقيئ, والدوخة, وجفاف الفم وصعوبة الهضم, وآلام البطن, وفقد الشهية, والدوار والصداع.
والدراسات الأحدث تؤكد تأثيره السلبي على القدرات المعرفية وعلى الشخصية مما يحدث تدهورا في الإدراك والانتباه والتفكير والذاكرة وطريقة التعامل مع الناس والاستجابة للأحداث اليومية.
والجرعة الزائدة قد تؤدي إلى هبوط حاد في التنفس أو حدوث تشنجات صرعية خطرة, وقد تحدث الوفاة نتيجة لذلك.
وأحيانا يضاف على الترامادول مادة الباراسيتامول ليزداد تأثيره المسكن للألم, وهو يثبط الألم في خلال ساعة زمن ولكن تأثيره المسكن يستمر لحوالي 2-4 ساعات ولهذا يحتاج متعاطيه إلى تكرار الجرعة. وهو موجود في صورة حبوب أو كبسولات أو أمبولات.
وحين تتعاطاه المرأة الحامل فإن الطفل حين يولد يصاب بأعراض انسحاب الترامادول ويصبح أكثر قابلية للإدمان في حياته, كما أن تعاطيه أثناء الرضاعة تصل كمية منه حوالي 3% إلى الرضيع فيصبح مدمنا, ولذلك لا ينصح باستعماله كمسكن أثناء الولادة لأن الأم غالبا ما ترضع طفلها بينما مادة الترامادول ما يزال في دمها.
ولا ينصح باستخدامه في الأشخاص أقل من 17 سنة حيث أثبتت استقصاءات هيئة الدواء والغذاء الأمريكية (التي تمنح تصريحا للأدوية في العالم) أن العقار في هذا السن يسبب بطء وصعوبة في التنفس. أما كبار السن فلا ينصح أيضا باستخدامه معهم حيث قد يؤدي إلى هبوط في التنفس, وسقوط, وتدهور في القدرات المعرفية وحالات خمول.
وبما أن الدواء يتم التخلص منه عن طريق الكبد والكليتين فإنه لا ينصح باستخدامه في وجود خلل في هذه الأعضاء, والمشكلة أن كثير من المدمنين لديهم مشاكل في الكبد أو الكلى ومع ذلك يتعاطونه بكميات كبيرة تعجل بالفشل الكبدي أو الكلوي.
وتعاطي الترامادول لفترات أطول وبجرعات أكثر مما يقررها الطبيب تسبب إدمانا (اعتمادية) يتمثل في الرغبة المستمرة في زيادة الجرعة للحصول على نفس التأثير, وحدوث أعراض انسحابية عند التوقف عن تعاطيه تتمثل في الشعور بخدلان وتنميل وشكشكة وأحاسيس أخرى في الجسم مع طنين في الأذن, وهلاوس, وشكوك بارانوية (اضطهادية) مع قلق شديد وأحيانا نوبات هلع وتشوش في الوعي. وأعراض الانسحاب تمثل تلك الخاصة بالأفيونات مضافا إليها أعراض انسحاب مضادات استرداد السيروتونين والنورأدرينالين ولذلك يمتد إلى أسبوع.
والاستعمال الترويحي للترامادول وبخاصة في الجرعات المرتفعة قد يؤدي إلى نوبات صرعية (فقدان مفاجئ للوعي مع تشنجات) متكررة أو ممتدة وقد تشكل خطورة على حياة الشخص المتعاطي.
والسؤال الآن : إذا كان الترامادول يؤدي وظائف إيجابية (تحسين الحالة المزاجية وتخفيف الألم وزيادة النشاط وإطالة فترة اللقاء الجنسي) ولكن قابليته للإدمان عالية كما أن أعراضه الجانبية مع الاستعمال الترويحي والإدماني تكون شديدة الخطورة, فهل هناك بدائل طبية آمنة لاستعماله؟
بالتأكيد هناك بدائل طبية آمنة لاستعمال الترامادول فمثلا وجد أن عقار الباروكستين أو السيرترالين وهما مضادا اكتئاب من مجموعة مانعات استرداد السيروتونين يؤدي إلى إطالة فترة اللقاء الجنسي أكثر من الترامادول ولكن بدون أعراضه الجانبية الخطيرة, كما أن مضادات الإكتئاب من مجموعة مانعات استرداد السيروتونين والنورأدرينالين (مثل الفينلافاكسين, والديسفينلافاكسين, والدولوكستين) تؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها الترامادول على الحالة النفسية (تخفيف الاكتئاب والقلق والألم) دون أن يكون لها الطبيعة الإدمانية الموجودة في الترامادول وذلك لخلوها من التاثير على مستقبلات الأفيون والتي تعطي الترامادول خصائصه الإدمانية. وهذه العقاقير الطبية تستخدم في علاج إدمان الترامادول لتعطي المريض بديلا آمنا للترامادول.
وعلاج إدمان الترامادول يتبع نفس طريقة علاج الإدمانات الأخرى من حيث المرور بمرحلة علاج أعراض الانسحاب ويفضل أن تكون في مؤسسة طبية وتحت إشراف طبي متخصص وهي تستغرق من عشرة أيام إلى أسبوعين, يليها فترة علاج تأهيلي تستمر من أربعة لستة شهور, ثم مرحلة الرعاية اللاحقة بعد الخروج بهدف منع الانتكاسة.
والمشكلة الخطيرة في الترامادول هي استهانة الناس بخطورة تعاطيه واعتبار أنه مجرد مسكن مثل الأسبرين أو البروفين أو غيرها من المسكنات, كما أنه متوفر في كل مكان وبأسعار متاحة للكثيرين, وطريقة صرفه في الصيدليات لا تلتزم بكونه أحد أدوية جداول المخدرات, كما أنه متداول في السوق السوداء تصنيعا وتوزيعا بكميات هائلة مما يجعله وباءا إدمانيا خطيرا يستدعي دق نواقيس الخطر لمن يهمهم الأمر (فعلا).
واقرأ أيضاً:
استشارات عن عقار ترامادول
التعليق: شكرا وتقدير إلى أ.د محمد المهدي
من أجمل المقالات التي قرأتها أتمنى أن يقرأها كل الشباب
تبينت لدي حقائق كثيرة كانت غائبة عني بعدما قرأت مقالاتك الساحرة
أرجو التواصل
ش . م .ا 01067341434