سألني صحفي فرنسي: لماذا لا يحتفل العرب بذكرى الـ (هولوكوست)؟
فقلت له: في تصوري أن هذا خطأ كبير من جانبنا، فيجب أن نفعل ذلك باعتبار أن الـ (هولوكوست) جزء من نمط أكبر متكرر، وأن الدولة الصهيونية شأنها شأن الدولة النازية هي ذاتها جزء من نفس النمط.
فطلب مني أن أوضح ماذا أعني، فقلت له: إنه منذ أن ظهرت الحضارة الغربية الحديثة في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر، نزعت الحضارة الغربيـة القداسـة عن البشـر كافـة (في الشـرق والغرب) وحوَّلتهم إلى مادة إسـتعماليـة، ليسـت لها أيـة قيمـة في حد ذاتها، وإنما تكمن فائدتها بمقدار إمكانيـة توظيفها! والمحصلـة النهائيـة لكل هذا هي نزع الصفـة الإنسـانيـة عن الإنسـان وتحويلـه إلى مادة محضـة. وقد طُبق هذا المعيار على كل البشر سواء كانوا من الشرق أم الغرب، فالجميع مادة بشرية إما نافعة يمكن توظيفها، أو غير نافعة فهي فائضة ولا بد من التخلص منها بطريقة ما أو معالجتها حتى تصبح نافعة.
وقد حَوَّلت هذه الحضارة الإنسان الغربي إلى "سوبرمان" له حقوق مطلقة تتجاوز الخير والشر، لأنه يمتلك القوة التي تجعله قادراً على حسم الخلافات لصالحه بقوة السلاح، وعلى الاستيلاء على العالم وتحويله إلى مجال حيوي لحركته ونشاطه. وفي هذا الإطار اعتُبرت شعوب آسيا وأفريقيا والأمريكتين (الحمراء والصفراء والسوداء المتخلفة) مجرد مادة بشرية تُوظَّف في خدمته، كما اعتُبر العالم مجرد مادة طبيعية تُوظَّف في خدمة دول أوروبا وشعوبها البيضاء المتقدمة.
وقد أدت هذه الرؤية إلى أمرين؛ أولهما هو اعتبار أن البشر مجرد أشياء يمكن تحريكها ونقلها "ترانسفير" من مكان لآخر حتى يمكن توظيفها على أكمل وجه، وحتى يمكن للإنسان الغربي الاستفادة منها. والثاني هو إبادة كل من لا يمكن توظيفه. فـ"الترانسفير" والإبادة هما وجهان لنفس العملة. ولنبدأ بعملية التحريك والنقل "الترانسفير" وذلك خدمة لصالح الإنسان الغربي. بدأ التشكيل الحضاري الغربي الحديث بنقل الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى أمريكا، والمجرمين والفاشلين في تحقيق الحراك الاجتماعي في أوطانهم إلى أمريكا وأستراليا. وتبع هذا "الترانسفير" الأول عمليات نقل أخرى على مستوى أكبر وهي نقْل الملايين من سكان أفريقيا إلى الأمريكتين لتحـويلهم إلى مادة إستعمالية رخيصة.
وتحركت جيوش أوروبا إلى كل أنحاء العالم، واحتلتها وحوَّلتها إلى مادة بشرية وطبيعية تُوظَّف لصالح الغرب. وبعد أن هيمنت القوة العسكرية الغربية على أرجاء العالم ظهر الاستعمار الاستيطاني الغربي، فتم نقل الفائض البشري من أوروبا إلى جيوب إستيطانية غربية في كل أنحاء العالم، لتكون ركائز للجيوش الغربية والحضارة الغربية (فيما يُعَد أكبر حركة هجرة وتهجير في التاريخ).
ونُقل كثير من أعضاء الأقليات إلى بلاد أخرى (الصينيون إلى ماليزيا ـــــ الهنود إلى عدة أماكن ـــــ اليهود إلى الأرجنتين) كشكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني، إذ أن هذه الأقليات شكَّلت جيوباً إستيطانية داخل البلاد التي تستقر فيها. وفي روسيا القيصرية ثم السوفيتية تم نقل عناصر روسية إلى الخانات التركية التي أصبحت الجمهوريات السوفييتية الإسلامية. وكان الهدف من عملية النقل هو "ترويس" هذه المناطق (أي صبغها بالصبغة الروسية) وضمان الهيمنة الروسية من خلال تعديل الميزان الديموغرافي لصالح العنصر الروسي السلافي.
وفي هذا الإطار تم نقْل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وأفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة في الجيوش الغربية الاستعمارية، مثل الهنود (خصوصاً السيخ) في الجيوش البريطانية. ويلاحظ أنه حين تم إنزال الجنود البريطانيين في مصر أثناء العدوان الثلاثي عام 1956، كانت الدفعات الأولى من الهنود، باعتبارهم مادة بشرية يمكن توظيفها والاستغناء عنها حماية للجندي البريطاني الأبيض. وفي الحرب العالمية الأولى، تم تهجير 132 ألفاً من مختلف أقطار المغرب لسد الفراغ الناجم عن تجنيد الفرنسيين، بالإضافة إلى تجنيد بعضهم مباشرةً للقتال. (وهذه هي أول "هجرة" لسكان المغرب العربي، وقد استمرت هذه الهجرة بعد ذلك تلقائياً).
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى تم تجنيد كثير من المصريين وترحيلهم إلى البؤر الساخنة حيث كانوا يقومون بحفر الخنادق والقيام بالأعمال الوضيعة غير القتالية، كما قام بعضهم بالأعمال القتالية. وقد تمت عمليات "ترانسفير" ضخمة بعد الحرب العالمية الأولى، فنُقل سكان يونانيون من تركيا إلى اليونان، وسكان أتراك من اليونان إلى تركيا، كما نُقل سكان ألمان من بروسيا الشرقية بعد ضمها إلى بولندا.
وهذه العمليات هي التي أوحت (لهتلر) بعمليات نقل اليهود خارج الرايخ. وبالفعل حاول (هتلر) التخلص من الفائض اليهودي بإرساله عبر الحدود إلى بولندا التي أوصدت الأبواب دونهم، ففكر النظام النازي في إقامة جيوب إستيطانية للفائض اليهودي في مدغشقر أو الكاميرون أو سوريا. وفي السنين الأخيرة من حكم الرايخ طوَّر (هملر) "جنرال بلان أوست" Generalplan Ost لنقل 31 مليوناً "غير ألمان" من أوروبا الشرقية وتوطين ألمان بدلاً منهم.
في هذا الإطار "الترانسفيري"، تمت عملية الاستيطان الصهيونية التي تستند إلى عمليتي "ترانسفير" لا واحدة فحسب. أما "الترانسفير" الأول فهو تصدير إحدى مشاكل أوروبا الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى الشرق. فيهود أوروبا هم مجرد مادة، فائض بشـري لا نفع لـه داخل أوروبا يمكن نقلـه إلى فلسـطين وتوظيفـه هناك خدمـة للحضارة الغربيـة. والعرب أيضاً مادة (كتلـة بشــريـة تـقف ضد هـذه المصالح الغربيـة)، ومن ثم تم نقلهم من فلسـطين حتى يمكن نقل اليهود إليها.
وقد تجذرت رؤية "الترانسفير" في الوجدان الغربي الحديث بحيث لا يستطيع الإنسان الغربي رؤية الطبيعة البشرية نفسها إلا في إطار "الترانسفير". وتظهر عملية "الترانسفير" في تعريف البروفسور ماكس لرنر (وآخرين) للإنسان الحديث بأنه إنسان قادر على تغيير منظومته القيمية بعد إشعار قصير! ويمكن اعتبار الجنس العَرَضي (أي أن يُعاشر الذكر الأنثى دون وجود علاقة عاطفية تتسم بقدر من الثبات بينهما) شكلاً من أشكال التنقل "الترانسفير" من أنثى إلى أخرى، وذلك لأن الأنثى مادة إستعمالية لا قداسة لها تُوظَّف لتحقيق اللذة.
والنظام العالمي الجديد هو تعبير عن تَصوُّر العالم الغربي في إطار عقلية "الترانسفير" التي سيطرت تماماً على العالم بأسره، وأن الجميع على استعداد لأن يُغير قيمه بعد إشعار قصير، وعلى استعداد لاستبعاد القيم الأخلاقية؛ مثل الكرامة والتمسك بأرض الأجداد والدفاع عن المطلقات... فمثل هذه القيم تجعل نقل الأنماط الإستهلاكية، وانتقال رأس المال، وتنفيذ توصيات البنك الدولي... أمراً صعباً. ويتوهم الغرب أننا قد وصلنا لهذه المرحلة التي تُستبعد فيها القيم الثابتة بسهولة ليتبنى المرء أية قيم أخرى ويصبح الوجود البشري بأسره تجارة في تجارة، فالجميع يدور في إطار "الترانسفير". فالديمقراطية تجارة، والأوطان (بوتيكات) وفنادق، والإنسان وحدة اقتصادية يمكن نقلها "ترانسفير".
وكل ما فعله النازيون هو تطبيق هذه الرؤية المادية الحركية على الأقليات غير النافعة التي لا يمكن توظيفها، ومن بينهم أعضاء الجماعات اليهودية، حيث تحول "الترانسفير" إلى إبادة، وبدلاً من الضحايا من مكان إلى آخر، تم نقلهم إلى المكان الأخير! وهذا ما سنتناوله في مقال قادم إن شاء الله.
اقرأ أيضاً:
فلسطين المحتلة والعقل الأمريكي/ غضب الفيل: إسرائيل في لبنان/ جنود نازيون يهود؟/ أسئلة الهوية/ في الدفاع عن الهوية.