الجغرافية الأرضية الطبيعية والسياسية مرسومة وفقا لمعادلات تتوازن فيها القوى وتتراكد، وتضطرب عندما يتحقق خلل في درجات توافقاتها التوازنية والتفاعلية، فالأرض كرة مضغوطة ومحكومة بإرادة الجذب وتتأثر بالتجاذب والتنافر، ويتناسب ذلك مع قوة مجالها الكهرومغناطيسي الذي يمثل درعها الواقي، وآلتها التنافرية اللازمة للحفاظ على وجودها الكوني. وما فيها يتماثل معها لأنه منها، والأوطان أحد أوصال الأرض المنضغطة لتحقيق التماسك والتواطن الكفيل بصناعة الحياة.
وهناك حالة من التحكم التوازني الدقيق ما بين أوصال الأرض، وما عليها من القدرات والطاقات والتطورات، وهذه الإرادات الطاقوية المنبثقة في أجزائها عليها أن تسعى لتحقيق التوازن والتماسك، والتوافق المحكوم بقوانين الدوران بظروفه البيئية والفيزيائية، وما ينجم عنها من منتوجات وموجودات متنوعة الصفات.
وما أن تتحقق قوة في بقعة منها إلا وانحدرت إلى المنخفضات المحيطة بها، ولا توجد قوة أرضية مستقرة أو ساكنة، لأن الأرض لا تعرف الاستقرار ولو للحظة واحدة، أي أن القوة طاقة متحركة ومندفعة باتجاهات تحددها شدة المقاومة، فإن كانت الممانعة قوية ارتدعت واستكانت، وإن كانت ضعيفة واهية اندفعت وتنامت.
وعلى مدى العصور فإن القوى الأرضية المتمترسة في بقاعها الوطنية تنبعج نحو ما يحيطها من الأوطان المجاورة وتتمدد على حسابها حتى تصل إلى مداها.
ومَن يقرأ التأريخ القديم والحديث يرى ذلك بوضوح، وقد عبّرت عن هذا القانون الدول الأوربية في القرن العشرين، والذي لا يزال ساريا وواضحا فيما يجري في بلاد العرب أوطاني، فعلى سبيل المثال، ما يحصل في العراق ناجم عن تخلخل موازين القوى، وإنهيار العمود الفقري التوازني أو مركز التوازن الإقتداري في المنطقة.
ويمكن تشبيه ما حصل بتحطيم سدود عديدة كانت تمنع الاجتياحات والفيضانات، والتحصينات الكفيلة بالحفاظ على توازن التفاعلات ما بين القوى المتصاعدة، وبانهيار هذه السدود تحوّل البلد إلى منخفض انبعاجي تنحدر إليه القوى المحيط وفقا لقوانين القوة والحركة، والبعيدة وفقا لاستشعارها بالتهديد بسبب الانهيارات التي ستسبب بإحلالات اقتدارية ذات نتائج مغايرة لما تريده، أو أنها وجدت من واجبها أن تنتهز الفرصة لتحقيق أكبر الأهداف والغايات، عندما تتعامل مع البلد المتهاوي بعقلية المُفترس الذي عليه أن يجني حصة الأسد.
والمشكلة التي لا يُمكن للعامة وعيها واستيعابها أن الإرادة الأرضية لا تسمح بوجود فراغات وطنية، وهذا يعني أن الفراغات لابد لها تمتليئ فورا لكي لا تضطرب معادلة الحياة، وتتعثر مناهجها وتتعرقل قوانينها مما ستفضي لنتائج وخيمة ومرعبة، ذات تفاعلات عالمية الطباع وشاملة الضياع.
ووفقا لهذا تجد البلد بعد أن كان جبلا شامخا، قد تحوّل إلى منخفض تتجمع فيه مياه السيول والأمطار والفيضاننات والمطامع والتطلعات، وإلى مستنقع لجميع الآفات، التي صارت قوانين المستنقع دستورها المؤيَّد بكل مُفترس همّام.
وطن تتناهبه القِوى المجاورة والبعيدة، والناس تلهو في مواضيع تزيد من ضعفها وتسهيل إفتراسها ومصادرة حقوقها ومصيرها، وكأنها منوّمة بآليات التضليل والبهتان والإنقطاع عن الحاضر والمستقبل، فتتناسى أن قوة البلدان بوحدتها وتراصها وتمسكها برايتها الوطنية، وبإعلائها للمواطنة وكرامة المواطن وقيمة الإنسان. فالوطن المُستباح يعم فيه الفساد وينتفي الصلاح والإصلاح، والمواطن فيه ضد المواطن يحمل السلاح، والجميع ضحايا وأهداف ووسائل لتحقيق مناهج الإنبطاح!!
ولن ينجوَ الوطنُ من المفترسين إلا بالاعتصام بالوطن الآمن الأمين، فهل يوجد الاستعداد الوطني الإنساني الحضاري المعاصر لوعي معاني دريئة الفتن، وقد أُطيحَ بما لا يُطاح؟!!
واقرأ أيضاً:
السلطة والدولة!!/ أين العيد؟!!/ الأمانة والهجرة!!/ الانكسار العلمي!!/ الجمال والاقتراب الأفلاطوني!!/ المُقسّم يتقسّم!!/ وحدة المعنى الإنساني!!