عالم سايكس -بيكو القديم أم عالم كيري- لافروف الجديد: مستقبل العـرب بيد الآخرين
البُسطاء أو الساذجين فقط هم الذين يعتقدون أن إنعقاد مؤتمر ما أو جَلـْسَةً لمؤتـَمَرٍ ما سوف تؤدي حتماً إلى الوصول لنتائج أو حلول للمشكلة قيد البحث، أو أن المشكلة قد شارفت على الحل من خلال الإعلان "عن قرب وقف إطلاق النار". من الواضح أن المقومات اللازمـة لتسـويـة الصراع في سـوريا ليسـت جاهزةً بَعْدْ وهي ماتزال قيد الإعداد. إن إنعقاد مؤتمر جنيف مهما كان رقمه سواء 3 أو 4 مثلاً لا يعني أن الوضع قد أصبح جاهزاً للتسوية بقدر ما قد يهدف إلى إعطاء الإنطباع بأن الأمور في طريقها إلى الحل وذلك كوسيلة لتخفيف الإحتقان والتوتر وإبقاء جذوة الأمل مشتعلة منعاً لانفجار الأمور بما لا ينسجم مع مصالح القوتين الأكثر تأثيراً في الوضع السوري وهما أمريكا وروسيا.
يُخطئ من يعتقد بأن الروس قد دخلوا سـوريا رغماً عن أنف أمريكا أو أنهم دخلوا إلى سـوريا لأسـباب عقائديـة أو أخلاقيـة، ويُخطأ أكثر كل من يُفكر بأن روسـيا هي الإتحاد السـوفياتي السـابق بسـياسـاتـه وأهدافـه العقائديـة، كما يُخطئ من يعتبر ما حصل في سـوريا بأنـه إنتصاراً لروسـيا وهزيمـة لأمريكا؛ لأن الحقيقـة هي أن ما حصل هو هزيمـة لسـوريا وإنتصاراً للآخرين..! فدخول روسـيا لسـوريا جاء بالإتفاق والتنسـيق الكاملين مع أمريكا. وهكذا فإن أبعاد هذا التدخل وحدوده متفق عليها مسـبقاً بين روسـيا وأمريكا، وما يجري الآن هو في واقعـه عمليـة إخراج سـلمي لما هو متفق عليـه أو شـبـه متفق عليـه، بما في ذلك أي خلافات علنيـة قد تطفوا على السـطح.
الأساس في الإتفاق الروسي ـــــ الأمريكي هو وصول الوضع في سوريا عشية التدخل الروسي إلى إحتمال يُشير لحتمية الهيمنة الإيرانية على أجزاء واسعة من العراق وسوريا سواءً مباشرة أو بواسطة أحزاب وتنظيمات تابعة لها مثل "حزب الدعوة" في العراق و"حزب الله" اللبناني في سوريا، بالإضافة إلى هيمنة تنظيم "داعش" أيضاً على أجزاء واسعة من سوريا والعراق. وهذا يعني أن الخيار أصبح محصوراً أمام أمريكا في قوتين لا تسـتطيع قبول أي منهما أو السـماح لأي منهما بأن يُصبح قوة تغيير إقليمي تشـمل إثنتان من أهم دول المنطقـة وهما العراق وسـوريا.
وهكذا تم فتح الطريق أمام إتفاق أمريكي ـــــ روسـي يسـمح بتدخل روسـي محسـوب في سـوريا يسـتجيب للتطلعات الروسـيـة الاسـتراتيجيـة في الإطلالـة على المياه الدافئـة من جهـة، ويضع حداً للتمدد "الداعشـي" في سـوريا حتى ولو أدى ذلك إلى تقسـيمها، وهو في نفـس الوقت أمراً يسـتجيب للرغبـة الأمريكيـة في وضع حدٍ لإمتداد الهيمنـة الإيرانيـة في كلٍ من سـوريا والعراق وبشـكل يُبعد إيران عن الحدود الإسـرائيليـة بشـكل واضح وحاسـم.
وهكذا التقت المصالح الأمريكيـة والروسـيـة، وإن كان ذلك على حسـاب الوطن السـوري ومصالِحِهِ، وأصبح مصير سـوريا قراراً بيد الآخرين، ونظام الحكم السـوري أصبح بالتالي واجهـة لإضفاء شـرعيـة على الوجود العسـكري الروسـي ومخططاتـه..!!
كان لا بد من وجود تنظيم مثل "داعـش" حتى تسـتطيع أمريكا وحُلفائها إيجاد العُذر لخلق حلف عسـكري إقليمي للتدخل في شـؤون دول المنطقـة تحت شـعار "مكافحـة الإرهاب". وكان لا بد من إسـتمرار وجود تنظيم الدولـة "داعـش" حتى تسـتطيع الدول الكبرى خصوصاً أمريكا وروسـيا، أن تفعل ما تفعلـه الآن في سـوريا، وأن يبقى الأسـد في الواجهـة السـياسـيـة كما تريد روسـيا تحت سـتار مكافحـة المد "الداعشـي" في سـوريا وعلى إعتبار أن البديل الوحيد لنظام الأسـد، فيما لو تم القضاء عليـه، هو نظام "داعـش"! معادلات محسـوبـة أسـاسـها وجود تنظيم "داعـش" واسـتمراره كعُذر وغطاء لتدخل الآخرين في شـؤون المنطقـة العربيـة. وهكذا فإن القضاء على "داعـش" بشـكل نهائي لم يكن يوماً هدفاً حقيقياً لأمريكا وحُلفائها، ولكن تضخيم خـَطـَرِها بالقـدر المطلوب لخلـق حالـة عامـة من الخوف بين شـعوب المنطقـة كان هو الهدف طوال الوقت. وهذا الموقف لا يتناقض والمصالح الأمريكيـة التي كانت وراء تسـهيل ظهور تنظيم "داعـش" أصلاً...!!!
لا أحد يريد، حقيقـة، القضاء على تنظيم "داعـش" بشـكل نهائي وحاسـم..؛ فالجميع يتقاتلون ويتدخلون في شـؤون دول المنطقـة تحت عنوان "محاربـة الإرهاب"، و"داعـش" هي جزء أسـاسـي من التنظيمات المصنفـة بالإرهابيـة، وبقاءها يُصبح بالتالي ضرورياً لاسـتمرار معضلـة "الإرهاب"، وهي بدورها ضروريـة لتبرير سـياسـات التدخل العسـكري في دول المنطقـة. إذاً الحديث عن ضرب الإرهاب والقضاء عليه عسـكرياً يُصبح وسـيلةً للوصول لأهداف أخرى وليـس هو هدفاً بحد ذاتـه.
إن إلتقاء المصالح لخدمـة أهداف مختلفـة أمر طبيعي؛ وأمريكا وروسـيا تلتقي مصالحهما في التعامل مع دول المنطقـة من منظور اسـتراتيجي شـامل، وقد تختلف ولكن ليـس إلى حد الدخول في نزاع عسـكري من أجل أي طرف ثالث، ويبقى الأمر بذلك مقتصراً على النزاع السـياسـي. فالدول الكبرى لن تدخل في نزاع مسـلح من أجل الآخرين. والآخرين هم من يجب أن يدفع ضريبـة الدم مع أن الفائدة تعود دوماً إلى الكبار..!!
هنالك مدارس عديدة تختلف في تفسير أصول "داعش" ودورها في المنطقة. وبغض النظر عن التفاصيل، فإن المهم هو كيف يستغل الآخرون وجود "داعش" لتعزيز مواقعهم ومكاسبهم سواءً أكان أولئك الآخرون من خارج المنطقة مثل أمريكا والغرب وروسيا أو من داخل الإقليم مثل إيران وتركيا أو من داخل العالم العربي مثل نظام الأسد والسعودية ومصر والأردن.
العنوان الكبير والذي يُجمعْ عليه الجميع هو "مكافحة الإرهاب"، ولكن المحتوى والهدف يختـلفان بين طرف وآخر ولا يوجد قاسم مشترك أعظم بينهم جميعاً سوى ذلك العنوان.
إن اسـتغلال نظام الأسـد وروسـيا لظاهرة "داعـش" ووجودها المسـلح والدموي في سـوريا كان الاسـتغلال الأكثر عبقريـة؛ فنظام الأسـد سَـمَحَ "لداعـش" بالتمدد في عدة مناطق وبممارسـة وحشـيتها في القتل وتدمير التراث الوطني علناً لبث الرعب بين أبناء الشـعب السـوري والعالم الخارجي، وحَصَرَ الخيار بالتالي أمام السـوريين والعالم بينـه وبين "داعـش" فقط، وهو بذلك إسـتثنى المعارضـة باعتبارها لا شـيئ، ووضع السـوريين أمام خيار واحد من إثنين: إما النظام أو "داعـش" ولا شـيئ آخر..!!
أما روسـيا، فقد نجح (بوتين) بتبرير تدخلـه العسـكري في سـوريا أمام الشـعب الروسـي بإعتباره ضربـة إسـتباقيـة للإرهاب في مهده قبل أن يتمكن ذلك الإرهاب من توجيـه ضرباتـه إلى قلب روسـيا فيما لو عاد العديد من عناصر "داعـش" إلى وطنهم الشـيشـان وروسـيا الإتحاديـة نفسـها مع إحتمال قيامهم بعمليات تخريبية. وهكذا قام (بوتين) بتسـويق تدخلـه العسـكري في سـوريا أمام الشـعب الروسـي بإعتباره إجراءً للدفاع عن النفـس وعن العمق الروسـي وليـس تدخلاً في الشـأن السـوري وإحتلالاً لأجزاء من سـوريا!
ومن هذا المنطلق، فإن إعادة تقسيم ما قسمته إتفاقيات (سايكس ـــــ بيكو) عقب الحرب العالمية الأولى قد يكون الآن على طاولة المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الإتحاديه وقد يتمخض عن ذلك وضع جديد وإتفاقات (كيري ـــــ لافروف) جديدة كبديل عن إتفاقات (سايكس ـــــ بيكو) القديمة والتي شكّلت الأساس للنظام السياسي العربي بعد الحرب العالمية الأولى.
الإنهيار والتغيير الجاري الآن يشـمل معظم أرجاء العالم العربي من مشـرقـه إلى مغربـه، وهو غير محصور بدول إتفاقات (سـايكـس ـــــ بيكو) التي شـملت أقطار الهلال الخصيب حصراً (العراق وسـوريا ولبنان وفلسـطين وشـرق الأردن). وهذا يعني أن ما يجري الآن لا علاقـة لـه بـ (سـايكـس ـــــ بيكو) إلا في حدوده الرمزيـة التي تؤكد قدرة الدول الكبرى على الإسـتمرار في ممارسـة مبدأ إعادة رسـم حدود دول المنطقـة بما يُناسـب مصالحها أو رؤيتها. الحديث هنا مازال إسـتمراراً لمنطق القوة و"حق" الدول الكبرى في فرض رؤيتها على شـعوب المنطقـة بغض النظر عن رغبات تلك الشـعوب. وعلينا أن لا ننسـى أن ذلك، فيما لو تم، سـوف يكون في مصلحـة تلك الدول و(إسـرائيل) التي تقف خلف معظم الأحداث الداميـة في المنطقـة محتميـة بسـواتر مختلفـة منها الأمريكي ومنها الأوروبي ومنها الروسـي ومنها العربي...!!!
واقرأ أيضا:
فلسطين بين عبرات شعب وعثرات قضية!/ الهجوم على سورية سقوط الأقنعة!/ ثورات العرب الجديدة: نظرية مؤامرة أم إرادة أمة