لو سألنا كلَّ إنسانٍ عربي عن أولويّة اهتماماته العامّة الآن، لكانت الإجابة حتماً محصورةً في أوضاع وطنه الصغير، لا "وطنه العربي الكبير"، ولا قضيّته الكبرى فلسطين، فالأمَّة الواحدة أصبحت الآن "أمماً"، وفي كلٍّ منها "أممٌ متعدّدة" بتعدّد الطوائف والأعراق والعشائر، ولدى كلٍّ منها أزمته الحادّة وصراعاته المفتوحة دون أن يلوح أفقُ أملٍ أو حلٌّ قريب.
إنّ تعبير "الربيع العربي" الذي جرى تداوله منذ العام 2011 فيه الكثير من التضليل لأنّه يُشير إلى ما يحدث في المنطقة العربية وكأنّه ثورةٌ واحدة موحّدة في الأساليب والقيادات والأهداف والظروف، وعلى أرضٍ واحدة وفي كيانٍ واحد، وهذا كلّه غير صحيح. فالمنطقة العربية هي أمَّةٌ واحدة، لكنّها تقوم على 22 دولة وكيان وأنظمة حكم مختلفة. فوحدة "الشارع العربي"، من الناحيتين السياسية والعملية، هي غير متوفّرة بسبب هذا الواقع الانقسامي السائد لقرنٍ من الزمن تقريباً، وبالتالي فإنّ المشترك الذي حدث هو قيام إنتفاضاتٍ شعبية عربية، لكن بقوى مختلفة وبظروف متباينة وبأساليب متناقضة أحياناً. فما حدث من أسلوب تغيير ونتائج في تونس ومصر لم يتكرّر في ليبيا أو اليمن أو سوريا أو البحرين، ولا كانت أيضاً مواقف المؤسسات العسكرية في هذه البلدان متشابهة مع مثيلاتها في تونس ومصر مثلاً.
وكان واضحاً، وما يزال، غياب المعيار العربي الواحد لتقييم هذه الانتفاضات الشعبية. فقد يكون معيار البعض هو العامل السياسي المحلّي فقط، من خلال تغيير أشخاص في الحكم أو إسقاط نظام، بينما قد يكون المعيار، لدى البعض الآخر، هو مدى قدرة هذه الانتفاضات الشعبية على البقاء متحرّرة من التدخّل الأجنبي وشروطه المستقبلية على النظام البديل.
أيضاً، تختلف المعايير العربية، ممّا حدث حتّى الآن في المنطقة، تبعاً للمواقع العقَدية الفكرية والسياسية، كما هي أيضاً في المعايير الدينية والمذهبية والإثنية عند من يعتبرونها مرجعيتهم لتحديد مواقفهم من أيّ شأن، حيث دعم أو رفض التغيير في أيّ مكان ينطلق عندهم من هذه المعايير والمصالح الفئوية.
صحيحٌ أنّ التطورات التي حدثت منذ خمس سنوات على أرض العرب، أسقطت جدار الخوف النفسي الذي كان يفصل بين المواطن وحقوقه في الوطن، وأعادت الاعتبار لدور الناس في عمليات التغيير المطلوبة بالمجتمعات، بعد أن حُصر التغيير في السابق إمّا بالمؤسّسات العسكرية أو بالمراهنة حصراً على التدخّل الخارجي، لكن هذه المتغيّرات حدثت في مناخ تزداد فيه الطروحات الانقسامية في المجتمعات العربية، وبأشكال طائفية ومذهبية وإثنية مختلفة، وهي تتناقض مع طبيعة صحّة الواقع؛ الذي هو بين حاكمٍ ظالم وحكوماتٍ فاسدة من جهة، وبين مواطنين ومحكومين مظلومين ينتمون لكلِّ الطوائف والمذاهب والأعراق، من جهةٍ أخرى.
إنّ ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ لا عن خطايا حكومات وأنظمة فقط، بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهُويّتين العربية والوطنية، ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي، وفي التماشي مع رغبات "الخارج" وشروطه للدعم والمساندة.
لقد كان من واجب الحركات السياسية، الدينية والعلمانية، أن تُعطي الأولويّة لإصلاح المجتمع في أيِّ بلد، لأنّ ذلك هو مبرّر وجودها الأساسي، ولأنّ ذلك أيضاً هو السبيل الأسلم إلى إصلاح الدولة ونظام الحكم فيها. فإصلاح المجتمع يعني بناءً سليماً للدعوة والدعاة، ويوجب حُسن الأسلوب والتعامل مع "الآخر" في المجتمع، واستخدام التأثير الإيجابي في الناس من خلال العمل الثقافي والفكري البعيد عن الفئوية والانتماءات الضيقة والمصالح الخاصة.
وقد يرى البعض أنَّ عنوان تحدّيات المرحلة تتمحور حول مسألة الديمقراطية وحرّية المواطن من الاستبداد الداخلي. لكن رغم صحّة هذا الأمر من الناحية المبدئية، فإنَّ أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن هو تراجع مفهوم "الوطن" وتعثّر تطبيق حقّ "المواطنة" وتهميش مسألة "السيادة الوطنية". ولعلّ في ما يحدث الآن، في تجارب عربية "ديمقراطية"، أمثلة حيّة على مكمن هذه المشكلة السائدة في المجتمع العربي لحوالي قرنٍ من الزمن.
إنَّ الضعف العربي، المتراكم منذ أربعـة عقود، هو بناء تدريجي كانت أُسـسـه في تعطيل دور مصر العربي بعد المعاهدة مع (إسـرائيل)، ثمّ في حجم التدخّلات الأجنبيـة في أوطان لم يحصل التوافق بينها على مفهوم "الأمّـة العربيـة"، بعد تجزئة المسـتعمر الأوروبي للمنطقـة وقيام أوطانٍ غاب فيها الولاء الوطني الواحد، وسـادت في معظمها أوضاع طائفيّـة وقبليّـة، فامتزجت التجزئـة العربيّـة بين الأوطان مع الانقسـامات الداخليّـة في كلّ وطن. وأصبح كلّ بلدٍ عربي يتسـاءل، حين يقع في أزمـة: "أين العرب"؟. لكن لا سـؤال، قبل الأزمـة أو بعدها: "لِمَ لا يكون هناك اتحادٌ عربي أو في الحدّ الأدنى تكاملٌ عربي" يواجـه التحدّيات المشـتركة على الأوطان والأمّـة؟!
من الواضح الآن، أنّ هناك سـعياً محموماً لتدويل الأزمات الداخليـة في المنطقـة العربيـة، ممّا يُعيد معظم أوطانها إلى حال الوصايـة الأجنبيـة التي كانت سـائدة في النصف الأول من القرن الماضي. ويترافق مع مشـاريع التدويل الجاريـة حالياً، وجود سـعي إسـرائيلي يقوم على جهود متواصلـة منذ عقودٍ من الزمن لدعم وجود "دويلات" طائفيـة وإثنيـة في المنطقـة العربيـة! فشـعار "يهوديـة" دولـة (إسـرائيل) سـيكون مقبولاً ليـس دولياً فقط بل أيضاً عربياً، حينما تكون هناك "دويلات" سـنّيـة وشـيعيـة ودرزيـة وعلويـة ومارونيـة وقبطيـة وكرديـة ونوبيـة وأمازيغيـة، تسـبح كلّها في الفلك الإسـرائيلي!
في الأفق الآن، مشاريع دولية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطرٍ سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي "الديمقراطي"، لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتوناتٍ متصارعة في الداخل، ومستندة إلى قوى في الخارج. فهذه هي غايات الحروب الأهليّة العربيّة المدعومة بتدخّلٍ أجنبي متعدّد الأطراف في أزمات الأمّة العربية، تلك الأمّة التي بدأت كياناتها الوطنية الكبرى تتصدّع واحدةً تِلوَ الأخرى، وكلُّ من فيها من أوطان وجماعات، بما لديهم من هموم، منشغلون!.
هو الآن زمنٌ إسـرائيلي؛ العربي فيه يقتل أخاه العربي.. و(إسـرائيل) تتفرّج. ألم يقل ذلك أحد قادة (إسـرائيل) بعد حرب العام 1967 بأنّ هذه الحرب لم تحقّق الأمن الإسـرائيلي، وبأنّ أمن (إسـرائيل) يتحقّق فقط حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهـه للإسـرائيلي..!!
هو زمنٌ إسرائيليٌّ حينما يُدان الآن التنبيه للسوريين وكل العرب بعدم تكرار ما حدث في لبنان والعراق والجزائر والسودان وليبيا، حيث سقط مئات الألوف من المواطنين الأبرياء ضحيّة الأنظمة وسوء تصرّف معارضيها المتعاون بعضهم مع القوى الأجنبية.
وهو زمنٌ إسرائيلي حينما لا يجوز الحديث عن مشاريع (إسرائيل) وأعمالها لعقود من أجل تقسيم الأوطان العربية، بحجّة أنّ هذا الحديث يخدم أنظمةً حاكمة!
وسيذكر التاريخ العربي بمرارة تجارب حزبية قومية وأخرى دينية، حيث ساهم كلاهما في موقعيْ الحكم والمعارضة بتسهيل انتاج ظواهر مارست الموت والدمار في أوطانهما، وكلاهما ساعد على وأد أوّل تجربة وحدوية عربية في مطلع الستّينات، وكلاهما ارتبط بالأجنبي ثمّ انقلب الأجنبي عليه، وكلاهما خدع الناس بشعارات وأخلّ بتعهّدات ثمّ استباح كلّ الأمور للوصول إلى السلطة.
فقط (إسـرائيل) هي التي سـتحصد صراع القوى الإقليمية والدولية على المنطقة العربية. فالعرب الآن إلى مصيرٍ مجهول، وقد تشـهد المنطقـة من جديد ما شـهدتـه منذ مائـة عام؛ من رسـم خرائط جديدة، ومن مراهنات على الخارج، ومن حصد صهيوني لهذه المتغيّرات، بينما أوطانٌ في الأمّـة العربيـة تشـهد الحروب الأهليـة، في ظلّ تشـويـهٍ لحقائق الصراعات تُشـارك فيـه قوًى حاكمـة ومعارضـة!
واقرأ أيضاً:
أشهرٌ حاسمة لتقرير مصير العرب/ شرطان للنهضة تجاوز التاريخ وتصحيح الجغرافيا/ مأساةٌ عربية ثلاثيّة الأبعاد!/ غموض مفهوم الإرهاب ووضوح المستفيدين منه!/ قراءة لتجربة جمال عبد الناصر في ذكرى وفاته/ الشعوب العربية والمشاريع الصهيونية/ العنف باسم الإسلام/ واقع الانقسام.. وقِيَم التوحد/ أين هي الآن الرؤية الأمريكية للمنطقة العربية؟