الدكتور فخري الدباغ وإسهاماته في ترسيخ أسس الطب النفسي في العراق
الأستاذ الدكتور فخري الدباغ (1929-1984)، رمز من رموز الموصل، وعلم من أعلام العراق. قدم لوطنه الكثير، إن كان ذلك على مستوى الخدمات الطبية، أو الإدارية، أو الأدبية، أو الفكرية والثقافية. لم يكل ولم يمل ولم يسقط القلم من بين يديه حتى وفاته بحادث سيارة على الطريق بين بغداد والموصل سنة 1984. من منا لا يعرف فخري الدباغ طبيبا نفسيا، وأستاذا جامعيا، وعميدا لكلية الطب، وكاتبا وباحثا وإنسانا. في حياته شغل الناس وملأ الدنيا وبعد وفاته ظلت ذكراه حية خالدة في الذاكرة العراقية المعاصرة .
ولد فخري محمد صالح يحيى محمد عبد الحافظ السيد قاسم الدباغ في مدينة الموصل سنة 1929. أكمل دراسته الابتدائية (المدرسة الحمدانية 1935-1941) والمتوسطة (المتوسطة الشرقية 1941-1944) والإعدادية (الإعدادية المركزية 1944-1946). ومنذ أن كان طالبا في الإعدادية أواسط الأربعينات من القرن الماضي، عرف بالجدية، والمثابرة، وحب العلم، والشعر، والأدب. ويذكر الأستاذ الدكتور عمر الطالب في موسوعته: "موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين "أن الأستاذ الدكتور فخري الدباغ أسهم، منذ كان طالبا في إعدادية الموصل في تحرير "مجلة الإلهام" التي كانت تصدرها المدرسة. وتعد المقالة التي كتبها في سنة 1945 أول مقالة ينشرها وكانت بعنوان : "بنسلين الحياة" وفي سنة 1946 أنهى الدراسة الإعدادية، وسرعان ما استمر في كتابة المقالات والدراسات وتأليف الكتب وإلقاء المحاضرات حتى وفاته رحمه الله.
سافر إلى بغداد والتحق بكلية الطب –جامعة بغداد، وحصل على البكالوريوس سنة 1953. وعاد الموصل، والتحق بخدمة الاحتياط، وصار طبيبا عسكريا برتبة ملازم ثان في حامية عقرة ولمدة سنة كاملة ثم عين طبيبا في مديرية صحة نينوى، وسرعان ما عين رئيسا للصحة فيها سنة 1973. وسرعان ما تيسرت له الفرصة للحصول على بعثة علمية في بريطانيا والتحق بمعهد مودزلي بجامعة لندن لإكمال دراسته العليا والتخصص في ميدان الأمراض النفسية والعصبية وحصل على دبلوم في الطب النفسي سنة 1962. كما حصل على عضوية كلية الأطباء النفسيين الملكية في إنكلترا سنة 1972.
وبعد تأسيس كلية الطب في الموصل قام بنقل خدماته إليها سنة 1963. وبين سنتي 1974-1979 اختير عميدا للكلية ووكيلا لرئيس الجامعة وكان آنذاك الأستاذ الدكتور محمد صادق المشاط. كما عاد ليعين عميدا لكلية الطب ثانية حتى وافاه الأجل إثر حادث اصطدام سيارته على الطريق بين بغداد والموصل سنة 1984.
لم يكن الأستاذ الدكتور فخري الدباغ، بعيدا عن ما يجري في مدينته ووطنه، وأمته، والعالم، وإنما كان منغمرا في كل الأحداث، وقام بدور كبير في تنمية الاهتمام بالطب النفسي في العراق وترصين قواعده سواء من خلال دراساته وبحوثه أو من خلال انتمائه إلى التنظيمات المهنية والنقابية والثقافية. فقد كان عضوا في المجمع العلمي العراقي، وفي الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. فضلا عن عضويته ونشاطه في نقابة الأطباء. وقد شارك خلال حياته المهنية في تحرير العديد من المجلات وابتداء من مجلة كلية الطب في جامعة بغداد أيام كان طالبا فيها والموسومة بـ "أخبار الكلية الطبية" وحتى مجلة "علوم" التي كانت تصدرها وزارة الثقافة العراقية ومن المجلات التي أسهم في تحريرها مجلات الجامعة والرازي والشعب والكتاب .
من مؤلفاته: الأطباء والناس 1959، أطفالنا والثقافة الجنسية 1956 (ترجمة)، والطفولة والمراهقة (مترجم)، والثورة الجنسية في أميركا 1960 (ترجمة) والموت اختياراً 1968، وغسل الدماغ 1970، وأصول الطب النفساني 1974-1977وجنوح الأحداث 1975 والحرب النفسية 1979، والعلاج النفسي 1981: أنواعه وأساليبه، وعلم النفس العسكري 1986 وخطوات على قاع المحيط 1979 وفي ضمير الزمن 1981ومقدمة في علم النفس 1982، و"اختبار رافن للمصفوفات المتتابعة لقياس الذكاء في العراق" 1983، والسلوك الإنساني بين الحقيقة والخيال 1986، والأطباء الأدباء 1990، وعلم النفس العسكري (بالاشتراك) 1983، وأزمة الطب المعاصر 2009.
كما أن له قرابة مائتي مقالة باللغتين العربية والإنكليزية في الصحف والمجلات الموصلية والعراقية والعربية والأجنبية. وقد حظي بالتكريم من مؤسسات رسمية عليا على مستوى رئاسة الجمهورية وأخرى علمية وشعبية مرات عديدة لجهوده العلمية والإدارية والثقافية المتميزة. ودخل اسمه في موسوعة السير العالمية المعروفة بـ (من هو في العالم العربي؟)، الطبعة السادسة للسنة 1981-1982 ص 832 – لبنان وحصل على كتب شكر وتقدير لا تعد ولا تحصى من جهات عديدة ونال شهادة تخصصية فخرية من الكلية الملكية للأطباء النفسانيين في لندن 1978. وقد اختير عضوا في مجمع اللغة العربية الأردني –آذار –مارس 1980.
وبعد وفاته سميت إحدى ردهات المستشفى العام في الموصل باسمه، وخصصت خزانات خاصة بكتبه في المكتبة المركزية العامة في الموصل والمكتبة المركزية لجامعة الموصل وفي كلية الطب. كما كرم بدرع الصحة النفسية على هامش المؤتمر الوطني الثالث للصحة النفسية الذي انعقد ببغداد بين 17-18 تشرين الأول-أكتوبر 2008 ببغداد هو وبعض الأطباء النفسانيين العراقيين الرواد.
لقد كان الأستاذ فخري الدباغ واحداً من الأطباء المختصين النابغين إذ اكتسب ثقة مرضاه لسعة عمله ودفقه الإنساني، هذا فضلا عن حضوره الدائم على الأصعدة الثقافية داخل مدينة الموصل وخارجها. كان يرى: "إن الطبيب المثالي هو الذي يمارس الطب كهواية ورسالة لا كمهنة وتجارة ...عليه أن يجمع بين الخلق والعلم ويعيش مع الناس ويتفهم أحاسيسهم وانفعالاتهم فيطلقها ويدونها أدبا أصيلا بالشعر والقصة والرواية وإذا كان الأدب مرآة للناس والحياة فلا بد أن يرتبط الطب مع الأدب ويغذي بعضهما الآخر لإغناء الحضارة والفكر الإنساني".
شارك في دورات تدريبية كثيرة، ومعظمها كانت تدور حول الطب النفسي منها في السويد والدانمرك وهولندا وإنكلترا. كما أسهم في مشاريع وأعمال استشارية وفنية مهمة منها على سبيل المثال مشروع إنشاء "وحدة الصحة النفسية" في جامعة الموصل، وعلم النفس السريري، وإدارة المستشفيات التعليمية، وتعريب التعليم الجامعي، وكان له طلبة يشرف عليهم في مرحلة الماجستير في الطب النفسي.
في أوراقه الشخصية التي تحتفظ بها أسرته ونقل منها الأستاذ عماد غانم الربيعي في كتابه: "بيوتات موصلية" قوله وهو يتحدث عن نفسه ومفهومه للطب بشكل عام والطب النفسي بشكل خاص: "لو لم أكن طبيبا ...لكنت أديبا ...فالطب بشكل عام والطب النفسي بشكل خاص يسهم كثيرا في فهم الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني ...والعقل ...والأمزجة ...إلى تصور وتفهم الحق ..ومعنى الوجود والخير والشر ...". لقد وضع لنفسه منذ أن كان شابا بيتا من الشعر يقول: "إذا مر بي يوم ولم أتخذ يدا *** ولم أستفد علما فما ذاك من عمري".
وكان الرجل غزير الإنتاج ويروي أحد أولاده أن مكتبته كانت تعج بالأوراق والكتب والمسودات وقد ألف قرابة 20 كتابا معظمها لا تزال تدرس في أقسام علم النفس في الجامعات العراقية والعربية. ومعظم كتبه تتراوح بين الطب والأدب. كما أن له مجموعة كبيرة من المقالات والدراسات والبحوث المنشورة وبالإمكان أن يتفرغ أحد الطلبة النابهين لإنجاز أطروحة عنه فهو يستحق ذلك فعلا. وتدور بحوثه حول الصحة النفسية، وجنوح الأحداث، وعلم النفس السريري، وعن أفضل أسس القبول النفسية في الجامعات، والقيم النفسية التي تفرزها الحروب، وتشريح شخصية الشعوب، والحروب كظاهرة نفسية.
لقد كان الأستاذ الدكتور فخري الدباغ طبيبا ماهرا، وباحثا دؤوبا، وإداريا قديرا والأهم من ذلك أنه كان إنسانا نبيلا لطيف المعشر، دمث الأخلاق، نظيف الكف واللسان، رقيقا، عطوفا على من يعمل في معيته وقد شهدت فترة إدارته لكلية الطب في جامعة الموصل أزهى أيامها ..أسهم في تطوير الكلية وزودها بكل ما تحتاجه من الأجهزة والمختبرات والكوادر ..ويستحق منا اليوم أن نقف لإحياء ذكراه والتعريف بمنجزاته ويقينا أنه ترك بصمة واضحة في جدران البنية العلمية والطبية لبلده .كما خلف من العلم الغزير، والولد الصالح ما يخلده ويذكر به الأجيال القادمة .رحمك الله أستاذنا وزميلنا الدكتور فخري الدباغ وجزاك خيرا على ما قدمت .
واقرأ أيضًا:
أحمد عكاشة: المصري.. النجم.. المعلم/ على باب الله: أساتذتي/ أستاذ دكتور فاروق لطيف