الشر البشري: هي أعمال ناتجة عن - قدرة الإنسان على الاختيار- وتعارضِ مصالحه، وانطلاقِه من مَصْلحة ذاتية، وتفاعلات اجتماعية تجْعله أكثر شراسة أو أقل حِكمة، وكلّ ذلك وعكسه من الخير والحرص على الغَير، موجود جبلّة في طبيعة الإنْـسان (فألهمها فجورها وتقواها) وقضية الحرية هنا قضية محْورية في فهم الشرّ الناتج عن الإنسان، إذ لو كان النموذج البشري مشابها لنموذج يطابق إرادة الله ومحبوباته، لكان ولا بدّ "مجبورا" على فعل خير لا يحبه، أو الامتناع عن شرّ يحب فعله حقا بمبرّرات شخصيّة تضفي الشرعية على ذاك الشرّ. إلا إن كان هذا "الإنسان" غير الذي نعرف، دون شهوات أو رغبات أو مخاوف أو مطامع أو حاجيات!.. ولن يكون هذا إنسانا ولن تكون حياته حضارة أصلا!!
لأنّ كل تلك الإنجازات والتفاعلات البشرية، من اقتصاد وعلم، وبناء، وصناعة، وتوالد، وتربية، واكتشافُ.. إفرازات لتلك المحرّكات مهما بدت قدحية وسلبية في سياقات معيّنة.. إذ لولاها لما كان فساد، أي نعم، ولكن لولاها لن يكون خيرٌ أيضا، مثل التقيّح والتعرّق الذي نتقزّز منْه مع أنه ضروريّ للصحة بل هو جزء من عمليات الأيض أو المناعة والمحافظة على الصحّة...
فمن تمنّى حضارة بشرية خالية من الشرّ سيضطر أن يمحُو "المظاهر الصحية" للبشرية كلها، إذ أنّ الشر هو وجه آخر للرغبة وحب المعرفة والتوسع والحرص على البناء والتشييد! واضحة هذه؟
نأتي على سؤال الشر نفسه ولماذا "أذِن" الله به، ولماذا لم يوقِف أعمال الشرّ؟
في الحقيقة أتساءل كيف يمكن للإنسان، الدوغمائيّ طبيعةً، والإسقاطيّ نظرةً، أن يعترض بمثل هذا؟!
إذ أن كل طائفة أو فرْد يرى أن الحقّ من نصيبه، وأنّ الشر في حقّه هو "الشرّ الحقيقي الوحيد"، بل يعتقد أن العدل في حقه شرّ!! إضافة إلى أن دوغمائيته تحمِله على ادّعاء الأحقيّة في تعميم فكرته أو سلوكه وإذا وجد معارضة أو قمعا، يعتبر ذلك شرّا ! بمعنى أنّه إذا أجبر من قبل الله تعالى بأي شكل من الأشكال سيكون أول المعارضين! فما هو الشرّ هنا؟ هل هو السماح"لخيْرِه" الذي هو في الحقيقة شرٌ، أو منعه من فعله وجبْره على تجنّبه، فيكون شرّا بالنسبة له !
بكلمات أخرى، أولئك الذين يتأفّفون من ديكتاتوريات البشر، والحجْر على الآراء والتضييق على المعتقدات والسلوكات.. هم أنفسهم من يطالبون بدكتاتورية سماوية ! لكي تنتصر لوجهات نظرِهم، لكنّ الطُرافة هنا أنّ من يطالب بها يكون المتضرّر غالبا، لا المنتفع من "حرية الاختيار"! بمعنى أنّ في موقع ضُعفٍ لا يمكنه معها تطبيق فكرته بالقوة، فيطالب بتدخّل إلهيّ حتى تستقرّ له الغلبة والقوة ليطبّق "فلسفته" وقانونه، فيصير الدكتاتور الذّي يشتكي منه الضعيف الذي يرى نفسه محقّا كذلك! فيطالب هو أيضا بأن تؤيّده السماء !! فينتقض مطلب الأول بمطلب الثاني... تخيّلتم العبَث والجهود الضائعة!؟
وهنا نأتي على نُقطة نسبيّة "الشرّ" فالظلمة والسفاحون، يتمتعون بالقوانين الكونية والحرية المطلقة في سحق العباد وتدمير البلاد معتمدين على مرجعيّتهم، ليستدلوا أحيانا بذلك على "عدم وجود الخالق" إذ لو وُجد لمنعهم، فيكون في هذا السياق تحدّيا للخالق وتحكما في مجرى الأحداث. أو على الأقلّ ادعاءُ أن القتل والتدمير في سبيل فكرة ما لا يغضب خالق الكون. في حين تكون شكوىً من قبل الذين يرون ذلك ظلما، ويتساءلون عن جدوى "ترك الاحتمالية مفتوحة" لفعل الشرّ !
من جانب آخر، يكون ما أحبّه وأعجْب به "الأشرار"، كيفما كان ذلك الظُّلم، في حق العباد أو في حق الإله، هو نفسه ما عابه المظلومون أو المقموعون، فتنقلب الحرية مصدرا للتباكي على البشرية وتُرفع الأعين للسماء لائمة ساعة العجز، لولا انتَصَرَتْ السماء لطريقتهم ومنهجم ومظالمهم! حتى إن كان بِجبر "الآخر" على عدم فعل الشرّ، ولكن على ألاّ يتجاوز ذاك الجبر والإكراه نِطاقهم هم (المظلومون) متى أرادوا أن يتحرّكوا في اتجاه نصرة أفكارهم أو دينهم أو حتى قتل من قتلهم! غير متسائلين هل ذلك شرّ أو ظلم. فيكون هنا الجبر مثل jocker ضد كل من قهرهم، ومن خالفوهم هم أيضا يحملونه ضدّهم وبهذا سيتوقف العالم كله وتُشل حركة الإنسان نفسه في وضع تتوازن فيه القوى تماما فلا حركة ولا طاقة ولا إنتاج (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) ومن الهوى تخيّل عالم وحياة وردية ومحابية لكلّ على حدى، وعلى مقاس المصالح الفردية والرؤى المختزلة !!
وطبْعا لا يُمكن تصوّر من يطالب بالجبر راضيا بأن تكون رغباته وشهواته وتصرفاته وقضيّته التي يريد نُصرتها محلّ إكراه ومنع ! بل إن طرْحه سؤال الشرّ يدل على أنّ للسائل نظرته الخاصةَ بالشر والخير التي لم تتكوّن إلا بعد تجارب كوّنتْ له مفهومي الخير والشرّ، فلا بد أن يسعى لتحقيق ذلك الشر والخير ولا بُدّ له من إرادة حرّة و"عالَم" تسمح قوانينه بتطبيق تلك الإرادة. ولولا وجود الشر لما كوّن مفهوم خير يُحاكِم به الشرّ، وبالتالي الإله، وهذا بصرف النظر عن خطئه في تقييم مفهومي الشرّ والخير.
والسؤال هنا، مع ما نراه من تسمية الخيرِ شرا، والشرِ خيرا، من الذي يجب أن يُمنَع من فعل الشرّ، وأيّ شرّ سيُمنع؟ علما بأنّ الكل يدعي أنه رافع لواء الخير والإنسانية !!؟
أضرب مثالا بسيطا: جار ظلم جاره، ثم قام الجار الآخر بالردّ عليه بطريقة أخذ حقه بها، مع شيء من الظلم أيضا...
زيد وعمرو كلاهما متظلّم ويطالب بحقّه، والكل يدعو على الآخر أن يُشلّ أو يعمى أو يموت... فهل جبْر الظالم يعرّفه بظلمه ؟ أو سيبقى على إحساسه بالظلم وأنّه قُهر في حق له؟ وهل جبْر المظلوم في الجزئية التي ظلم فيها، سيُعرِّفه بظُلمه الجزئيّ أو يعرّفه بحدود مطالبته بحقّه ؟ (يمكنكم ملاحظة أن وضعية مثل هذه كفيلة بنسف كل علوم القانون والإجرام، والمنطق، والأخلاقيات وغيرُها كثير ! فما بالنا بعالم شبيه بالموقف؟!)
بهذا نعلَم أنّ الذي يسعى لتحقيق هدف ما، المشكِل عنده هو يقينه بأنه محقّ وجبْره لا يحِل معضلة الأخلاق والفضيلة هنا، بل يخلُق لنا إنسَانا مقموعا مضطهدا متى تحرر فعل ما يريد. إضافة إلى انعدام معرفة الحق والعدل والخير والشر (في حالة الجبر) إذ الكل يشعر بأنه "مكبوت متجمّد" في مكانه دون معرفة السبب في ذلك.. ويمكنكم تخيل حجم الجنون والعبث...
فتبارك الله العدل الحَكم، من عدلِه أنّه وضع قوانين كل من سار عليها بلغ هدفه بغضّ النظر عن مخالفته رضاه (وهذا قمّة العدل والاستغناء والكرَم، خصوصا إذا نظرنا أن البشر يسارعون في إخضاع كل شيء لإرادتهم مع أي زيادة في القوة، ولا تُقارنُ بقوة خالق هذا الكون ولا محوريّته!)
وأيضا ترك فرصة لترجمة كل "ادّعاء" وزيف، إذ لولا ذلك، لقالت البشرية مثل الأطفال: (من قال لك أنني سأفسد اللعبة، أعطِني الحرية لكي ألعب بها وستعلم مدى "نُضجي") فإن منعه الكبار بقي على يقينه وتعنّته وادعائه، وإن سمحوا له أفسَدها فظهر له ما لم يتخيّله.
وانتبهوا هنا، أنا لا أدعو للفكرة المثالية القائلة: "كل شيء خَيّر في أفضل العوالم الممكنة" وهي فكرة leibniz والتي أرفضها. هناك شرّ وعذاب وألم. ولعلّ الغلط الذي وقع فيه ليبنز هو الخلط بين "وظيفة الشر والآلام.." أو لنَقُل ضرورتها، وبين "خيريّة الشرّ والآلام" وتأمُّلي يصبّ في الأوّلى لا في الثانية.
ويتبع >>>>>>>: سؤال الشر 2- الشر الطبيعيّ
واقرأ أيضًا:
حول حقوق المرأة في اللباس/ سيكولجية الإلحاد (تأمل)/ سذاجة بعض القصص الوعظية/ خطيب الجمعة والانتحار/ نقاط منهجية حول حالة بعضهم الفكرية