لم أستطع التخلي عن مهنتي في الطب النفسي وأنا أشاهد الإخفاقات المتتالية للمنتخبات العربية في المونديال خاصة وأنا أرى مشكلات نفسية كثيرة في أداء اللاعبين تكاد تجعل العامل النفسي هو الأهم وراء فشل تلك المنتخبات في مغالبة فرق كروية ليست قوية على المستوى الدولي خاصة أن الهزائم كانت مدوية وأحيانا مخزية بعدد كبير من الأهداف ليس معهودا في مثل هذه المسابقات. فهل هي مجرد صدفة أن تنهزم كل الفرق العربية من الدورة الأولى للمونديال بهذا الشكل مع أن بعضها ينتمي لدول عريقة كرويا وبعضها الآخر ينتمي لدول تنفق على لاعبيها ببذخ شديد وتوفر لهم كل الإمكانات، وبعضهم يضم لاعبين دوليين محترفين ومتميزين دوليا لأقصى درجات التميز.
نعم إنها حالة نفسية يمكن أن نجملها تحت مسمى "الوهن النفسي"، وهو حالة من الارتخاء والتراخي، والضعف وقلة التركيز وتشوش الوعي، وضعف الروابط والوصلات والركلات والتسديدات، وتضارب التوجهات والاتجاهات، وفقدان العزيمة والحماس والتوهج، وضعف الإرادة الفردية والجماعية، والخور العام، وفقدان الثقة بالنفس، وضعف تقدير الوقت، واحتياج فترات طويلة للانتباه والإفاقة من البدايات والكبوات، والضعف الشديد قبل الوصول للنهايات، والفوضى الضاربة في جنبات الفريق، وضعف الحس الجماعي، وانتظار المعجزات تتنزل من السماء، والاعتماد على البطل الفذ الفرد ليحقق الانتصارات، واللوم على الظروف وعلى الحظ والشكوى من ظلم الناس، والظن أن الطبل والزمر والغناء من المشجعين والفنانين والفنانات والراقصات وتدليل اللاعبين حتى الثمالة يحقق النجاح.
وبالتالي لا نبالغ حين نقول بأن المنتخبات العربية في حاجة إلى معالجين نفسانيين محترفين على المستوى الفردي ثم على المستوى الجماعي، وهذه ليست بدعة فكل الفرق الكروية الناجحة تقدم هذه الخدمة النفسية للاعبيها وترعاهم من ناحية التشخيص لبعض الحالات النفسية التي تصيب اللاعبين كأفراد أو تصيب الفريق ككل في ظروف معينة، ونحن ننفرد عن دول العالم بإهمال هذه الجانب النفسي، وحتى لو وجد مستشار نفسي لأي فريق عربي (وذلك نادر) فإنه يكون أمرا شكليا، مع أنه يوجد الآن تخصص يسمى الطب النفسي الرياضي وعلم النفس الرياضي، يدرس أحوال اللاعبين وسلوكهم ودوافعهم وكل ما يؤثر فيهم.
لقد فضحت الأضواء الكاشفة في ساحات الملاعب عيوبنا العربية، والتي لا تقتصر على منتخباتنا الكروية، بل تمتد لتشمل الكثير من جوانب حياتنا وتجعلنا رغم إمكاناتنا الهائلة في مؤخرة شعوب الأرض، وتجعلنا مطمعا لكل من هب ودب، فيمتصون دمنا وينظرون إلينا باحتقار كمثل نظرة المعلق الرياضي الذي قال: "لو كانت كل المنتخبات العربية في مجموعة وحدها لخرجت جميعها من الجولة الأولى للمونديال"، فإلى هذا الحد يرون حتمية فشلنا وضعفنا ووهننا.
معذرة إن كانت هذه الرؤية قاسية، ولكنها ضرورية لكي نفيق من غفوتنا، فالبعض يريد أن يخفف من وطأة ما حدث ويقول: هذه هي الكرة، وهي في النهاية لعبة لا تستحق كل هذا الجزع والاهتمام، وعلينا أن ننظر إلى جوانب أكثر جدية في حياتنا وأكثر أهمية من الكرة، وهذا كلام بعيد عن الصحة، فعلى الرغم من كونها لعبة، وأنها ليست بأهمية السياسة أو الاقتصاد أو التعليم أو الصحة، إلا أنها تكشف خللا في جوانب كثيرة من حياتنا لأنها تضعنا في مواجهة كاشفة ليس فيها تحايل أو مجاملات أو محاباة أو تزييف حقائق بالطبل والزمر الإعلامي العربي المعهود الذي يحول الفشل إلى نجاح ويحول الهزائم إلى انتصارات في أم المعارك، فالمستطيل الأخضر لا يكذب ولا يتجمل ولا يحابي ولا يخدع، بل هو يصفعنا على قفانا إن تراخينا وتخلينا عن الجدية والصرامة والروح القتالية وبذل أقصى الجهد من أول ثانية وحتى آخر ثانية.
يبدو أن صراعاتنا الداخلية قد أجهضت مجتمعاتنا العربية، وجعلت الشعوب في أدنى درجات توهجها وحماسها ورغبتها في الانتصار والتفوق والعلو، شعوب أدمنت الخضوع والانحناء وعاشت على التردد والخوف وبطء التفكير وبطء الحركة وبطء التغيير والجمود وفقد الثقة والأنانية وضعف العمل الجماعي والرضا بالمؤخرات في كل شيء. أما الفرق الفائزة والمنتصرة فكانت تتميز باليقظة والانتباه الحاد والتركيز الشديد والإدراك الجيد والتفكير الصائب والسريع والقرار الحر والفعل في الوقت المناسب والتوجه نحو الهدف بلا خوف ولا تردد ولا ارتعاش أو لعثمة. فرق كبير بين لعب الأحرار ولعب العبيد، فرق كبير بين النظام والفوضى، فرق كبير بين الجدية والميوعة، فرق كبير بين الصرامة والتساهل، فرق كبير بين الحركة والجمود، فرق كبير بين الدقة في النقلات والتسديد وبين الحركات الطائشة المنفلتة.
إننا لم نتعلم كيف نبدأ العمل بجدية وبيقظة وانتباه من أول ثانية إلى آخر ثانية، فنحتاج وقتا حتى نفيق في البداية، ونحتاج وقتا نستريح فيه ونتراخى قبل الوصول للنهاية، وهذه كانت إحدى ثغراتنا، بجانب مشاكلنا في الانتباه والإدراك والتفكير والذاكرة والقرار والفعل وسرعة رد الفعل والتآزر والتناغم الجماعي والتوهج والحماس طوال الوقت.
إن الهزيمة الكروية تصبح مضاعفة إذا استخدمنا معها أسلحة الإنكار أو التبرير أو الإزاحة أو التهوين أو الإسقاط، وتمتد عدوى الهزيمة إلى جوانب أخرى في حياتنا لأن الهزيمة تتحرك باستطراق لكي تصل إلى تلافيف وجودنا كعرب وتجعلنا أضحوكة الأمم. وعلى العكس فإن استشعار الهزيمة ومعرفة أسبابها وتحليلها ومحاولة تلافيها في كل نشاطات وجوانب حياتنا يعطي الأمل في انتصارات مقبلة، أمل مبني على رؤى واقعية وليس على أحلام وردية أو تفاؤلات طفولية ساذجة.
ليس مصادفة أن تنجح الثورات في العالم كله في تغيير شعوبها للأفضل بينما تفشل كل ثورات الربيع العربي في هذا (بل يحدث العكس أن تتدهور المجتمعات العربية بعد الثورات)، وليس مصادفة أن تنتهي الحروب في العالم كله بينما تشتعل في أغلب الدول العربية، وليس مصادفة أن ينتهي لفظ الاحتلال في العالم كله وتبقى فلسطين وحدها محتلة، وليس مصادفة أن تعم الديمقراطيات أغلب دول العالم بينما يحرم منها أغلب العالم العربي.
حقا إن الدوائر تتلاقى وقوانين النجاح والفشل ثابتة، فهيا معا نواجه واقعنا العربي بكل شجاعة وصدق لنصلح ما فيه من وهن نفسي، ولست أستثني أحدا من المسؤولية فكلنا مشاركون وكلنا مسئولون، والمشكلة ليست فقط في منتخباتنا، بل في نخبنا وقواعدنا وكافة مفاصلنا، والعلاج ممكن وميسر إذا صدقت النوايا وعلت الهمم.
واقرأ أيضًا:
لماذا يعشق الناس الكرة، ويعشقون محمد صلاح ؟3 / وراء كل امرأة عنيدة رجل مستبد / نفسنة المونديال