نحتاج أن نكون موضوعيين، خاصة في العلاقات الاجتماعية ذات الطبيعة الدائمة، مثل العلاقات الأسرية، والعلاقات في مكان العمل، لأن وجود المشكلات في هذه العلاقات سيوجد أزمات كثيرة تتراكم في المجال النفسي، وتنعكس على شكل توترات وصراعات في المجال الاجتماعي. ويفهم الكثيرون أن الموضوعية هي الابتعاد عن العواطف، والتعقل في كل التصرفات، فهل هذا ممكن في هذه العلاقات الدائمة؟ هل يمكن أن نخفي مشاعرنا في حياتنا الأسرية، وهل يمكن أن نتجاوز عواطفنا في مجتمع العمل الذي يقضي فيه الفرد ساعات وفترات طويلة؟.
إن الموضوعية لا تعني أن نلغي العواطف، لكنها تعني بالضرورة أن نفصل في رؤيانا وإدراكنا لمختلف المواقف بين العاطفة والموضوع، ليكون موقفنا للموضوع أقرب ما يكون للحقيقة، وليكون وعينا بالعواطف وآثارها وامتداداتها سبباً للتعامل الإيجابي مع هذه العواطف، وإعطائها الاعتبار والدور الذي تستحقه. خاصة في المجالات التي هي موضع التفاعل العاطفي، والنمو الانفعالي للفرد مثل الأسرة.
دعونا ننظر للمسألة من خلال أمثلة واقعية، ولنطرح السؤال الآتي: ماذا ننظر للأفراد الذين يكثرون في حديثهم ترداد ضمائر المتكلم (أنا، نحن،...)؟ قد يتبادر أن هؤلاء الأشخاص يحبون أنفسهم، ويغترون بقدراتهم، ويرغبون أن يكونوا محور الحديث. وليس هذا صحيحاً دائماً، بل ليس صحيحاً غالباً. فليست المشكلة في أن يتحدث المتحدث عن نفسه، إنما المشكلة أن ينظر للواقع بحسب ما ينعكس في نفسه من انطباعات وما يظهر فيها من انفعالات، أما إن كان واعياً بمشاعره على أنها جزء من واقع أكبر، ويحب أن تكون هذه المشاعر ملائمة لهذه الواقع، فلـيعرض مشاعره، وليجعل من هذا العرض وسيلة للوصول إلى الحالة الانفعالية الإيجابية التي تسهم في التطور الإيجابي للموقف.
في مجال العمل مثلاً، يمكن أن يقول الإنسان: هذا الأداء ضعيف
أو يقول: هذا الموظف فاشل
أو: إدارة المؤسسة متحيزة
أو: أنت تؤدي عملاً رائعاً...
وكل هذه الأحكام قد تكون ذاتية غير موضوعية، ويمكن أن يكون القول الأكثر موضوعية هو:
أظن أن هذا الأداء ضعيف.
أنا لا أحب العمل مع هذا الموظف.
أشعر أني مظلوم في هذه المؤسسة.
إن عملك نال إعجابي.
والرسالة المترافقة مع هذه الانطباعات : أنني أقدم مشاعري، وأرجو أن لا تكون بعيدة عن الواقع، وأتمنى أن يكون العمل أفضل، وأن أكون فيه مرتاحاً أكثر، وسأسعى حسب إمكاناتي للتطور والتطوير.
أما في مجال الأسرة، حيث يجب أن تزرع المشاعر الإيجابية، لتكون الثمرة سكينة ومودة ورحمة، نحتاج في معظم الأحيان لنعبر عن مشاعرنا، وباستخدام كلمات مثل "أنا، شعوري، رغبتي، حاجتي" لأن هذا الاستخدام ينبه المتحاورين إلى أن المشاعر موضوع أساسي في هذه الحياة الأسرية المشتركة، ويوجه الحوار بالوجهة التي تؤخذ فيها هذه المشاعر بالاعتبار، وحتى وإن كان محور الحوار أو الخلاف موضوعاً مادياً، سنلاحظ أن قراراتنا حول هذا الموضوع متصلة بما نشعر به، وهذا أمر إيجابي في المجال الأسري، لأنه يجعل الأبعاد التي تتخذ القرارات في ضوئها قريبة من واقع التشارك والتفاعل العاطفي القائم في الأسرة.
ولنلاحظ هذا في الأمثلة الآتية:
بدل أن تقول الزوجة لزوجها: أنت لا تهتم بي، يمكن أن تقول: أتمنى أن أشعر بأهميتي عندك أكثر، أو: أنا بحاجة إليك.
بدل أن يقول الأب لابنه: أنت تتأخر دائماً، يمكن أن يقول: أشعر أنك تكثر الغياب عن البيت، أو: انشغلت عليك عند تأخرك.
بدل أن تقول الأم لابنتها: أنت لا تحسنين اختيار شريك حياتك. يمكن أن تقول: أخاف أن لا تكوني سعيدة مع هذا الشاب. أو: أريد أن تكوني واعية في اتخاذ قراراتك.
بدل أن يقول الابن لأهله: هذا البيت غير مريح. يمكن أن يقول: أشعر بالضيق أحياناً في بيتنا. أو أتمنى أن تكون غرفتي أكبر وبيتنا أوسع.
إن أهمية هذه العبارات أنا تبتعد عن المواجهة المباشرة بالاتهام، فلا يتحول الحوار إلى ادعاء ودفاع، وهي كذلك تشعر المستمع بمسؤولية المتكلم واهتماماته، مع أن المتكلم يتحدث عن نفسه، لأنه يظهر في هذه العبارات وأمثالها سعيه للتشارك الانفعالي الصحيح، وقيامة بمسؤوليته التي تترتب على عضويته في الأسرة.
ولأن الحوار العائلي مظهر تظهر فيه أعراف الأسرة وعادات أفرادها، لا بد لاستقرار واستمرار الحوارات المثمرة أن نُعلِّم أنفسنا، ونطور مهاراتنا، ونغير عاداتنا.
واقرأ أيضاً:
اختبار الجودة / كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب