التشبث بكرسي الحكم عاهة سلوكية عربية، لا مثيل لها إلا فيما قل وندر في المجتمعات الغائرة بالتخلف والانحطاط، والتي تفوقت بعض دولنا على العديد منها. فالحاكم العربي يتمسك بالسلطة ولا يمكنه أن يتصور نفسه خارج تابوت الكرسي، مما يجعله ينتهي إلى مصير مشين ومذل.
والصورة تتضح في بعض الدول أكثر من غيرها، ففي العراق انطلقت هذه المتوالية الدامية منذ إبادة الحكم الملكي عن بكرة أبيه، وتواصلت بعنفوان رهيب، ومآل عجيب. وفي ليبيا حصل الذي حصل وانتهى قائدها في مأساة، وما جرى لحاكم اليمن بعد عقود من الاستبداد، وكيف خرب البلاد ودمر العباد وتمرغ بنهايته، وقبلها مصر التي ما تزحزح عن كرسي الحكم فيها الرئيس إلا بعد فوات الأوان، وفي سوريا المشهد واضح للعيان، وفي تونس القصة كُتِبَتْ وألهمت، والجزائر تغلي، وأخيرا ما انتهى إليه الكرسي في السودان والبقية ستأتي وقد آن الأوان واشتدَ الغضب.
ترى لماذا يتشبث الحاكم العربي بالكرسي؟
أولا: فوق الدستور والقانون
ربما ينفرد الحاكم العربي بهذه الصفة فهو الدستور والقانون بل فوقهما، وفي عرفه أن القانون عبارة عن كلمات يمكنه أن يكتبها أو يمحوها أنى يشاء ويرغب، وهذه المتعة التحكمية والقبضة اللذائذية المهيمنة على ما فيه من المطمورات، تدفعه إلى إحكام قبضته على الكرسي والإمعان الشرس للإقامة فيه رغم كل التحديات، لأنه يربط مصيره بالكرسي، الذي يتساوى مع حياته، وروحه، فلا معنى لوجوده دون الكرسي.
ثانيا: الامتيازات المطلقة
الحاكم العربي يعيش في فضاءات المطلق ولا يمكنه أن يقارن نفسه بأحدٍ سواه، وبما أنه في كينونة مطلقة فإنه سيعبّر عن المطلق في كل شيء، وسلوكه سيدلل على ذلك ويبرهنه بالفعل الملموس والمتكرر، لكي يتحسس إرادته المطلقة ويده التي لا يمنعها أي شيء من الوصول إلى ما تريد، أي أنه يعيش في حالة انفلات رغبوي يسوّغ له ما لا يجوز لغيره، ومما يساهم في ذلك المراسيم والبروتوكولات اليومية للحاكم التي توهمه بأنه هو ولا غيره أحد.
ثالثا: التحرر من الرقابة والمحاسبة
الرئاسة أو السلطة مسؤولية محكومة بضوابط وقوانين وتخضع للرقابة والمحاسبة، لأنها أمانة وتفويض للحفاظ على حقوق الوطن والمواطنين، لكنها في العرف العربي، أن الحاكم هو الذي يُحاسِب فهو المنزه وكل ما عداه يكون مسؤولا أمامه وليس أمام القانون، فهو الذي عليه أن يراقب ويحاسب وفقا لمعايير رؤيته، وما تمليه عليه تصوراته للحكم وأجندات البقاء في الكرسي.
رابعا: وَهمُ العظمة
هذا الوهم الفاعل في الكرسي يغذيه المدّاحون والمتملقون ووعاظ الكراسي من المدّعين بالدين، والمنتفعون من الحاكم الذي يهبهم مما لا يملك، فهناك نزعة غريبة عند الناس المحكومين، فكلما زاد حرمانهم واستعبادهم تنامت آليات تعظيمهم للحاكم، وكأنهم يسقطون عليه ما فيهم من الأحلام الفنتازية والتصورات الرغبوية النابعة من شدة القهر والحرمان، ولهذا يتشامخ عليهم الحكام، ولا يشعرون بمرارة ما يعانونه ويتضورون منه.
خامسا: ضيق الأفق
الحاكم العربي عموما يتميز بضيق الأفق وعدم الاطلاع على ما يحصل في الدنيا من تطورات ومستجدات على جميع الأصعدة، فهو منغمس بالتبعية والاستهلاكية والاستقواء بالآخرين، ولا تجد عنده همة العمل والثقة بالوطن والشعب، وإنما يعتاش على الآخرين، ووفقا لهذا المنظور فإن ما يقوم به من نشاطات محدودة تبدو في وسائل إعلامه على أنها عظيمة، وما هي إلا ضحك على الذقون وخداع للشعب لمسكين المبتلى بالغارقين في كرسي مشؤوم.
سادسا: الحاشية
هي الحلقة التي تحوم حول الكرسي، وما يهمها مصالحها ومنافعها بأنواعها، ولهذا فإنها ذات أساليب خداعية وتضليلية تغذي الحاكم بما يعزز منافعها وتبعد عن وعيه ما يتعارض معها، والعجيب في الأمر أن معظم الحكام العرب يتوهمون المعرفة ولا يستشيرون ذوي الكفاءة والخبرة، وإنما يريدون الجهلة والمخادعين الذين يصفقون لكل عبارة يقولونها، ويوهمونهم بأنهم لا ينطقون عن الهوى، وأن كل ما يقولونه يجب أن يكون مشاريع للعمل ومنطلقات للقوة والرقاء.
سابعا: الشعب
الشعب يساهم بقوة في إدامة الحاكم في السلطة، وذلك باستكانته واستلطافه للصعاب، والارتهان بالحاجات والتلذذ بالمكابدات الأليمة، وفي عرفه إنها تعبّد له طريق الوصول إلى جنات النعيم، والسعادة الأبدية، فالدنيا دار شقاء وعناء وبلاء، ولا يمكنها أن تكون غير ذلك.
ومن الظواهر التي يصعب تفسيرها أن الشعب قد يستكين للحاكم لعقود وكأنه في سبات، حتى تأتيه اليقظة فيستفيق بغتة من نومة العدم والضياع والألم.
ثامنا: المصالح
أعمار الحكام العرب تتناسب طرديا مع قدرتهم على إدامة المصالح الإقليمية والعالمية، وكلما كانوا أوفياء ومنفذين ماهرين لها طالت أعمارهم التسلطية، وحالما تنتهي المهمة يتساقطون وينسفون من مواقعهم، التي تألهوا فيها وتضخموا حتى أصابهم الغرور القاتل، والنرجسية النكراء، وإذا بهم يتهالكون كالعصف المأكول، وهم في ذهول.
تاسعا: الغيبية
هذا التصور يملي على الحاكم كأنه موجود بإرادة ربانية، وربما يعتقد بأنه الذي يعمل على تطبيق شريعة الرب، وأنه المصطفى لتنفيذ مهمات السماء، فتراه يقدم على الفتك بالآخر ويحسب ذلك غضب الله على الضحية، التي لا مناص من تنفيذه وإحلاله بها، لكي يتوافق مع إرادة ربه الذي لا يعرفه حقا.
عاشرا: التملكية
التيقن بأن الوطن بما فيه وعليه ملك صرف للحاكم يبدو واضحا في سلوكه وخطاباته، وكيف ينظر للناس من حوله، فهو المالك وبيده مصير البلاد والعباد، وعليهم أن ينفذوا ويترجموا منطق "السمع والطاعة"، وإلا فإن الذي لا يتبع ولا يخنع يكون ضد الوطن ومن الخونة والمتآمرين.
حادي عشر: الأمية
والمقصود بها الأمية السياسية والسلوكية والفكرية، وعدم القدرة على استيعاب ما يتصوره الآخرون ويرونه ويترجمونه في أجنداتهم التفاعلية مع الدول، وهذه الأمية توهم الحاكم بأنه يدري ومتمكن، وأن ما يدور من حوله لا يستحق الاهتمام، فهو فوق الجميع، لأن الأمية تدفعه إلى تصور المعرفة المطلقة، فيتلذذ بها ويتمسك بما يعززها وهو الكرسي.
ثاني عشر: انتفاء قيمة الإنسان
الواقع العربي بدلائله وأوضاعه العامة يبرهن على أن الإنسان بلا قيمة وهو رقم وحسب، ولهذا فإن الحاكم لا يعير أي اهتمام لما يتصل بالمواطن، فهو رقم يمكنه محقه وجمعه وطرحه وضربه ببعضه، ولا يعنية ما يريد أو يطالب به، فعليه أن يستسلم ويرضى ويحمد ربه ويتوسل للكرسي، لكي يمنّ عليه ببعض حقوق إنسان أو حيوان، وهذا السلوك من قبل المواطنين هو الذي يغذي نزعة الاستبداد والاستعباد عند الحاكم، ويدفعه للتمادي بالاستحواذ على كل شيء والإقامة الأبدية في الحكم.
ثالث عشر: القوة المزعومة
الحاكم العربي يصاب بعاهة امتلاك القوة المطلقة، وأنه المهاب المطاع ولا يمكن لأحد مهما تصور أن يقترب من عرشه العظيم، فأجهزته القمعية بالمرصاد لأي مناوئ ومتطلع إلى لمس قوائم الكرسي العتيد، فتجده يمعن بالظلم وبناء المعتقلات والسجون، التي يذيق فيها الناس صنوف العذاب الشنيع، وبهذه الأساليب يرى أن كل شيء في قبضته المطلقة، ويغفل أن القبضة لا تدوم، فيقبض عليه الذين كان قابضا عليهم.
رابع عشر: الانقطاعية
الحكام العرب منقطعون عن الواقع اليومي للمواطنين ويعيشون في صوامعهم، وتحت منظومة المراسيم والضوابط الرئاسية، التي تحركهم وكأنهم آلهة متعالون عن الناس، فيرونهم كما يتصورونهم أو كما يصورنهم لهم، فتراهم يتكلمون بلغة وكأنهم يخاطبون مخلوقات في عوالم أخرى، وهذه الانقطاعية تمنعهم من التفاعل الحقيقي مع الواقع الجماهيري، وتمنحهم الزهو والخيلاء الذي سيطيح بهم عندما تصطدم رؤوسهم بصخرة الواقع المقيم.
خامس عشر: الإنجازية
قيمة الحاكم بما ينجزه ويقدمه لشعبه ووطنه، وهذه قاعدة معمول بها في الشعوب كافة إلا الشعب العربي، فإنه لا يأبه لهذا الموضوع ويكون الحاكم عنده عبارة عن موجود لتغذية عواطفه، والتعبير عما فيه من المكبوتات وبالكلمات وحسب، لأنه ميال لاتباع القول واعتباره هو الإنجاز، فالقول عنده أصدق من العمل الواضح المبين، ولهذا ترى الحاكم يمعن بخطاباته الفارغة وشعاراته الوهمية، والناس تحتفي به وتنتمي إليه وتريده وتفديه بالروح وبالدم، وتسعى لتأبيده في الكرسي، وهو يصدّق ذلك ويعمل على تحقيقه، حتى تتساقط الأقنعة وتتكشف الأستار.
سادس عشر: التبلدية
العلاقة القائمة ما بين المقربين للحاكم والحاكم تصيبه بتبلد الأحاسيس والمشاعر، فيفقد قدرات التفاعل مع ما يجيش في دنيا الناس، ويزداد بلاهة وتبلدا مع الأيام حتى لتجده يتكلم وكأنه من أصحاب الكهف الذين ناموا عدة سنين واستيقظوا، فيبعث بخطاباته إلى الشعب وكأنه الغريب عنهم والبعيد عن معاناتهم وما يشعرون، والمشكلة أنه يؤمن بأنه على حق ويعمل على تحقيق أمانيه التي هي أماني الشعب بالقطع والأمر.
سابع عشر: الدوغماتية
الحاكم العربي يرى أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه أو يناقشه، والناس من حوله إما معه أو ضده، وبهذا يضع نفسه في محنة خداعية وتضليلية تقضي عليه آجلا أم عاجلا، لأن الناس لا تريد أن تخوض معركة خاسرة، ولهذا تجدها تبدو على أنها مع الحاكم وهي في حقيقتها ضده، وهذا ما تحقق في بعض الدول وبانت تداعياته وكأنه القنبلة الموقوتة والكمين الأمين.
ثامن عشر: التألهية
الحاكم العربي يتأله ويتصور بأنه إله، بمعنى أن قوله هو القول السديد، وهو المعصوم من الخطأ، وهو الذي جاء من عالم بعيد، وكأنه يريد القول بأنه يحكم بتفويض إلهي أو أن أمه أو أبوه من الآله، أو أنه نصف إله، وهذه المشاعر والأحاسيس متوارثة عبر العصور الغابرة، التي كانت أنظمة الحكم فيها ذات آليات إلهية أو متصلة بالآلهة، ومعنى ذلك أن وجود الحاكم في الكرسي بأمر إله، وهو الذي جاء به وهو الذي سيأخذه بعيدا عن الكرسي عندما يشاء.
أي أن وجوده في الكرسي قدَري!!
تاسع عشر: المديح
سلوك المديح عربي بامتياز، فلا يوجد حاكم في الدنيا يتلقى مديحا مثل الحاكم العربي، وخصوصا من الشعراء والكتاب وأدعياء الدين، وغيرهم من رؤوساء العشائر والقبائل والرموز الأخرى، فالعرب تستشري فيهم عاهة المديح، لأنها كانت ومنذ العصور القديمة الوسيلة السهلة للفوز بالعطايا والحصول على المال من ذوي الجاه والسلطان.
وهذا المديح خدعة كبرى يتوهم بموجبها السلطان بأنه في حرز وأمان، وأن الشعب يحبه ويريده على الدوام.
عشرون: الكبرياء المرير
المشكلة العسيرة التي تنفرد بها الكراسي العربية هو تمدد الأنا الحاكمة وتماهيها بالوطن والشعب، فيحسب الحاكم أنه هو الوطن والشعب معا، وأي تعارض معه أو رفض له يعني عدوانا على الوطن والشعب، وتصبح صورته تمثل الوطن وتتفوق على أي رمز، ولهذا تكون صوره في كل مكان، ويفرضها على خارطة الوطن، فتصبح مجسمة بكينونته البدنية، ويتحول إلى مقياس أو معيار للوطنية والإخلاص والتفاني والتضحية، ومَن ينال منه ينال من الوطن والشعب ويُتّهَم بالخيانة العظمى.
وهناك المزيد من العوامل الأخرى الفاعلة في تنمية سلوك التوحد مع الكرسي والإدمان عليه، وتعزيز الغطرسة، وشدة الالتصاق به، ويمكنها أن تكون بايولوجية أو مصحوبة بتغيرات عضوية في الأدمغة الكرسوية.
ويبقى احترام الدستور والقانون والإنسان من ضرورات الحياة المعاصرة التي لا أولوية قبلها ولا سلطان.
فهل سنتجاوز مرحلة الخنوع والإذعان، وننطلق أحرارا في مملكة الإنسان؟!!
واقرأ أيضاً:
أبعدوا الدين عن الكراسي يرحمكم الله!! / تعطيل العقل بالدين!! / مؤهلات ضعفنا وإضعافنا!!