الحياة "المعاصرة" لا تحتوينا بل تُلاحقنا!
في هذا النص أتناول موضوعاً فلسفياً بقالب توصيفي سردي، يندرج تحت ما يمكننا وصفه بـ التفلسف التلقائي أو السلِس أو الطري، بخلاف التفلسف المتشدق أو العسِر أو البائت. إنه تفلسف نابع من الحياة والمعاناة، ينبثق من الأولى ويعالج الثانية، في محاولة لاسترداد الإعدادات الإنسانية بتوازن واعتدال. وفي سبيل ذلك، أستخدمُ اللغة العادية والصور المجازية والأساليب السردية. ولكي ندلف بيسر إلى النص، نحتاج إلى أن نُصدِّره بقصة قصيرة، وتوصيف مكثف، ثم نعقبهما باستنتاج مختصر أولي.
قصة قصيرة: بخطوات متثاقلة وأنفاس متوانية، وصلتُ الفندقَ الفخم، بعد اجتماعات شاقة لصالح الشركة التي توظفني في مجال الشراكات، وتملأ جيوبي بأكياس ثقيلة من النقود. وبُعيد دخول غرفتي، سقطتُ مغشياً عليَّ؛ في وضعية لم تكن إطلاقاً مريحة لي، حيث كانت يدي ملوية خلف ظهري، ولم أُفق إلا بعد ساعات، لم أتبين عددها في حينها. عقب استرداد الوعي، اكتشفتُ أن السبب يعود إلى سقوط الطعام في سلة الفقرات المنهكة المتوالية للاجتماع. هذا ما قاله لي صديق سعودي، قبل نحو ثلاث سنوات. ربما يكون بعضكم مر أو سمِع بحادثة مشابهة.
توصيف مكثف: الجهاز الذكي الذي تستخدمونه بين أيديكم، كيف يعمل؟ هذا الجهاز يعمل لكونه يحتوي “عَتاداً مادياً”، قوامه: المكونات والأجزاء والشاشة، و”عتاداً برمجياً” بما فيه من: البرمجة والإعدادات والتطبيقات؛ ضمن قالب ينسق بين هذين العتادين، لتنفيذ وظائف محددة لتحقيق الهدف المرجو. هذا القالب يمكن أن نسميه بـ “النموذج”، الذي لا يعد المحرك للجهاز فقط بل يمثل مرجعيته أيضاً.
استنتاج أولي: الحياة تعمل بشكل مشابه تماماً للجهاز الذكي، حيث يقف “نموذج” ما في الباحة الخلفية لحياتنا، فيشكلها ويوجهها، ويجعلنا نمارس وظائف معينة وفق عَتاد مادي ومعنوي معين. من القصة والتوصيف السابقين، ندرك أن ثمة “وظيفة” تُنفذ لتحقيق هدف متوخى، على أن يكون ذلك وَفق “نموذج” يحدد كيف تُنفذ الوظيفةُ في إطار منظومة متكاملة. هذا أمر جيد. إذن، لنضع في اعتبارنا هاتين الكلمتين: الوظيفة والنموذج، ولعلكم ترحبون بكلمة مهمة هي الأخرى: “المرجعية”[1]. دعونا نعبر بعد ذلك إلى تحليلنا بتلقائية متسلسلة.
سأفصح لكم عن شعور متيبس مؤذ في داخلي، وأحسبه قابعاً أيضاً في دواخل كثير منكم، ولي على هذا مبررات قد تقتنعون بها أو تدخرونها لمزيد من التفحص والتأمل. ألا تشعرون معي أن الحياة “المعاصرة” لم تعد تحتوينا بقدر ما صارتْ تُلاحقنا؟! تُرى وأنت تقرأ أو تقرأين هذا النص: كم هي عدد المهام والأعمال والاجتماعات والاتصالات والرسائل والمؤشرات والتنبيهات والفواتير والمناسبات والرحلات والموضات والتقنيات والأفلام والمقاطع والمتابعات والمخرجات التي يتوجب الوفاء أو القيام بها في مواعيد ضاغطة، وفترات متزاحمة؟ ربما تتصاعد تنهيدةُ ساخنة من بعضكم وهو يقرأ هذه القائمة من الواجبات والالتزامات.
نعم، الحياة المعاصرة باتت تُلاحقنا، لدرجة أننا صرنا نسمعُ لُهاثَنا، فنحن نسرع إليها ونفرُّ منها، نتوهم أننا نمتلكها ونطوِّعها بـ “جودة حياة” و”ذكاء تقنية” و”عبور معلوماتية”، وفي الحقيقة هي المالكةُ المُسخِّرة لنا بقالب “وظيفي” صرف، فالكل بات عاملاً في وظيفة ما، حيث تُلزمنا الحياة المعاصرة بـ “العمل” لساعات غير مسبوقة في التاريخ الإنساني رتابة وانتظاماً وطولاً وتنافساً، في حين كان العمل في مراحل سابقة مرناً وأقل حدة وأكثر تنوعاً وأريحية، فلم يكن يعمل الساعات الطوال المتتابعة المضنية سوى المستضعفين من العبيد وأمثالهم. هل يعني هذا أن توصيفي يذهب إلى القول إننا صرنا عبيداً لهذا النمط من الحياة؟!
قد يظن البعض أنني ضد العمل الجاد المكثف في مجال يختاره الإنسان أو يفرض عليه لطلب القوت، أو أنني بعيد عن بيئة العمل الجاد، ولتوضيح هذه المسألة، أبادر بالقول إنني على العكس من ذلك، حيث إنني أعمل لساعات طويلة في اليوم حتى بعد تقاعدي المبكر من الجامعة، في مدة تتراوح 8-10 ساعة، وقد تزيد إذا كانت رياحي هابَّة، ولكنه عمل اختياري متنوع مرن (في القراءة والكتابة والتعليم والاستشارات)، أخضعه لخارطتي النفسية والفكرية، وأسيِّره وفق تضاريسي الاجتماعية أيضاً، حيث أقلب البرنامج أحياناً رأساً على عقب، فأخرج من جدية مقطِّبة إلى ترفيه باشِّ: يكنس نفايات الأمس، ليؤثث نشاط الغد. وقد أكسر موعداً أو موعدين، لجانب نفسي أو فكري أو اجتماعي، وكل ذلك يشعرني بـ : الحرية والتلقائية والانطلاق، بعد سنوات من اللهاث الوظيفي والضبط البرامجي ومطاردة الالتزامات باليوم والساعة! ولستُ أزعم هنا أن التوصيف الذي يخصني بعد التقاعد مثالي أو مناسب للجميع، ولستُ أتقصد حرفية ما أصف بالضبط، وإنما أتحرى المعنى العام الذي نحن بصدده في هذا النص حيال الوظيفة القاسية والبرمجة الصارمة في حياتنا المعاصرة، مقراً بأن مراحل عديدة تتطلب منا جدية متناهية كما في الدراسة وطلب العلم، مما يعني أننا نَنَشَدُّ صوب النظام الطلِق والبرمجة المرنة، فهو وحده اللائق بنا معاشر البشر، فنحن لسنا آلات صماء، نُعبأ بالطاقة، ونشغَّل إلى أن نَسْخُن، فُيبرَّد علينا بالإطفاء المؤقت، ثم يُعاد تشغيلُنا، إلى أن نَتلف ونُستهلك، فيستبدلون آخرين بنا، وهكذا في “متوالية وظيفية”، لا تهدأ ولا تتوقف!
البعض قد يعترض على تقرير أن “الكل بات عاملاً في وظيفة ما”، مقرراً بأن البعض هم خارج نطاق الوظيفة أصلاً، كمن يعمل لصالحه، أي التاجر أو المستثمر، مما يُخرِج هولاء من “القفص الوظيفي”. حينما قررتُ ما سبق، لم أكن غافلاً البتة عن هذا الصنف وأمثاله، حيث إنني أحسب أن المستثمر بات هو الآخر ”موظفاً” عند ”السوق”، إذ لا يسعه البتة أن يغفل أو يتغافل عن رغبات العملاء، ولا أن يهمَّش أمزجتهم، فضلاً عن إكراهات “التقنوت” (سلطان التقنية) وما يخلقه من تحديات متنامية في فضاء الاستثمار والتجارة، وهي تحديات تجعل المستثمر مُطالباً على الدوام بأن يتعرف على الاحتياجات والرغبات ويلبيها دونما كبير جدل أو مناقشة، وإلا خسر عملاءه، وخرج من السوق، ليبحث مجدداً عن عمل مضن آخر، فقد أدمنا من غير شعور هذا النمط، وفقدنا كثيراً من تلقائيتنا وعفويتنا وحريتنا، وبات العمل/الوظيفة/السوق يَحمل علينا، فَنَلهثُ، وإن تركنا، فنلهثُ أيضا[2]. أصبح اللُهاث في مَسام الإنسان المعاصر، ولذا أُصبنا بدرجات عالية من القلق والاكتئاب والمزاجية والشك النزق، وسُلبنا نعمة الطمأنينة وسِلْم السكينة وبرد اليقين، إلا ثلة من المتبصرين، الذين يشخّصون ويطبِّبون أنفسهم، وفق مرجعية صحيحة متوازنة متكاملة.
الحياة المعاصرة تمارس لوناً أو آخر من “الاختطاف الناعم”، وما يجعله ناعماً ليس بسبب أساليبه اللينة الضمنية المتدرجة طويلة النفس فقط، وإنما لكوننا نُسلم أنفسَنا طواعية له، فنحن كالعاشقة المتعطِّرة التي تتجهَّز لأن يخطفها عشيقُها، في المجتمعات التي يقوم الزواج على فكرة الاختطاف. ولهذا فإن النموذج الوظيفي لم يسلم منه حتى الأطفال. إليكم هذه الصور التي أضحت شائعة إلى حد كبير:
• طفلة في السابعة من عمرها، تلتزم بعمل يومي لعدة ساعات يومياً لمشاهدة أحد المشاهير الذي يقوم هو الآخر بـ “وظيفته الشاقة” في عرض يومياته المخلوطة بالإعلانات، والتسويق الفج لنفسه، أو حتى للتفاهة التي يتورط ويورط بها أعداداً متزايدة من أطفالنا، في سعي دؤوب لضمان حقنهم بجرعات كافية من البلاهة، وما يسببه ذلك من نقصان القدرات الذهنية وضمور التركيز والحصيلة العلمية والمهارية.
• طفلة في الثانية عشرة، تضع المنبه في الساعة الثالثة فجراً، من أجل مشاهدة عرض الفرقة الكورية (Blackpink) لأغنيتها الجديدة Lovesick Girls في الأول من أكتوبر 2020، لتدخل في قالب ”تنافسي” مع صديقتها في من يحفظها أسرع عن ظهر قلب، مع الإشارة إلى أن الأغنية حصدتْ أكثر من 152 مليون مشاهدة في عشرة أيام فقط، وهذا يؤكد أن ثمة جيوشاً سَمَّاعة من العاملين في ورشة ”بلاك بينك” وغيرها من الورش التي تُشغِّل الملايين بالمجان، بل بالأعمار وربما بالمصير!
وينطبق على “العاطل الكبير” ما ينطبق على أمثال هولاء “العاطلين الصغار”، حيث يقوم كثير منهم بأعمال مشابهة، وإن تلبست ببعض الأطر الثقافية أو المجتمعية التي تجهد لأن تكون أعمق، بطرح أسئلة أو إشكاليات، أو تصيد معنى هنا أو هناك، على أنها شكلانية في كثير من الممارسات، وقد يكف بعضهم عن مثل هذا التظاهر، وربما يحدث نفسه أو مَنْ حوله: “بلاش تمثيل”، أو “ليش نصير بوجهين” أو ”هذا ما يوكلنا عيش”، لينخرط من ثمَّ في إحدى وظائف “مجتمع الفرجة”[3].
قد يُظهر بعضُنا تبرماً من الضغوط المتنامية في “الوظيفة” أو من إكراهاتها المرجعية، بيد أنه تبرم لا يُعمَّر طويلاً، كما أن أكثرنا لا يقوم بأي عمل تحليلي لتفسير هذا الواقع، في محاولة لفهمه على الأقل، وربما حلحلته والتقليل من شؤمه وسلبياته في مستقبل الأيام. هذا النص الصغير يجهد فقط إلى معاونتنا على بداية الاستبصار والفهم لبعض أبعاد هذا الموضوع.
التحليل حتى الآن يقودنا إلى نتيجة مهمة، وتتمثل في أن أحد النماذج الكبار في حياتنا المعاصرة هو “النموذج الوظيفي”، ذلك الذي يُشكِّلها ويوجهها ويمثل مرجعية لها، بشكل جزئي/نسبي أو كلي/مطلق. نعم، وظائفنا بمختلف أشكالها وتمظهراتها أضحت إطاراً حاكماً لسلوكيات الكثير مناَّ، فقد أضحى كثيرون يحكمون على الأعمال بموجب الأبعاد الفنية للوظيفة. على سبيل المثال، أتذكر زميلاً أكاديمياً أشاد بإحدى شركات الشوكلاته التي استخدمت الخرسانة التي تنظم الحركة في الطرق في إعلاناتها، حيث عبر بالقول: “هائل، يا له من تصميم إبداعي”، مكتفياً بالجوانب التصميمية “الخلاَّقة” في الإعلان، ونسي أو تناسى اكتساح التسويق والإعلان للأبعاد والرموز التي يتوجب أن تبقى محايدة وبعيدة عن سلعنة السوق. وفي سياق مشابه، ألسنا نشاهد أناساً طيبين أو عاديين في محيط عملهم يقومون بأعمال غير إيجابية أو غير مثالية لأنفسهم ولصحتهم ولعوائلهم ؟ ليس ذلك فقط، بل أصبحنا نشاهد البعض، وهم يقومون بأعمال غير مقبولة أو غير أخلاقية لمجتمعاتهم، لماذا كل ذلك؟ لأن وظيفتهم “تأمرهم” بمثل هذا السلوك، فلا مكان لهم إلا بممارسة هذه الأعمال؟ وإن كانت الوظيفة –في أكثر الأحايين- لا تقرر مثل هذه الصرامة في ذاتها، أي في سياساتها الظاهرة وأطرها اللائحية المكتوبة، وهذا يعني أن ثمة نموذجاً ضمنياً أكبر، يتحكم بطريقة خفية في النموذج الوظيفي، فيجعله تنافسياً حاداً بقوالب متطرفة أو حتى صراعية.
هذا سؤال كبير جداً، ويتعذر علينا الانخراط في محاولة الإجابة عنه في نصنا الصغير هذا، حيث سيعقِّد تحليلَنا، وربما يجرُّنا إلى تفلسف عسِر أو بائت. لنبقه إذن في بالنا، ولنتلمس مقاربات للإجابة، ولنعد إلى التفكير في مسألة أن الحياة المعاصرة -بنموذجها الوظيفي الصارم- باتت لا تحتوينا بقدر ما تلاحقنا، صانعة منَّا “حيواناً لاهثاً”!
أدرك أن البعض، قد لا يقتنع أو لا يأبه بمثل هذا الطرح من حيث الأصل أو المبدأ، وأحسب أن بعضهم: ”[سـ]يصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ، فانطلق! أمَّا أنا فأقولُ: أنْزِلْني هنا”[4]. نعم، أنا أيضاً -مثل درويش- تعبتُ، بل سئمتُ من السِّفَرْ في هذا النموذج العابس، ولذا فإنني ألملم أشتاتي، لأنعتق منه، ولو تبصراً واستبصاراً. تخيّل نفسَك في ميدان، هو ذاته يُنافسك، فيا لبؤس أنفاسِك حينَها، ويا لإغتناء لُهاثِك!
واقرأ ايضاً: الحياة العصرية سبب الصراع السياسي
________________________________________
[1] من أفضل المنظِّرين وأعمقهم في مسألة “النماذج التفسيرية” و”الجماعات الوظيفية” عبدالوهاب المسيري، كما في عدد من كتبه.
[2] تأمل ملياً هذه الصورة المجازية: الآية: 176 من سورة الأعراف، وما قبلها وما بعدها.
[3] كما هو معروف، للمفكر الفرنسي “جي ديبور” كتاب بهذا العنوان.
[4] من قصيدة “لا شيء يعجبني” لمحمود درويش.
** نقلا عن موقع أثارة
واقرأ أيضًا:
لا تقرأ ما هو مُتاح لك، بل ما أنت مُتاح له / مع الجاحظ من الكَتْبَنَة إلى الأَدْبَنَة