الفلاسفة الرومان أشاروا إلى الحكمة بالفضائل والمهارة والعفة وكان مثال البومة Wol الشعار الشعبي للحكمة لقدرتها على الإبصار في الظلام. وهذا يرتبط بأهمية الحكمة وقت الظلام المعرفي، أي عندما نتعامل مع ما هو غير معروفٍ وغير مرئي ما هو غامض، فطائر البوم هو سيد المناورات في العالم المجهول؟
من الشخص الحكيم من وجهة نظرك؟
يشيع في المعتقدات المجتمعية أن الحكمة هي سمة من سمات الشيخوخة لأن الحكمة هي حالة من النضج المثالي والخبرات المتراكمة وافترض إريكسون (Erikson (1959. في نظريته حول النمو الإنساني النفسي الاجتماعي بأن الحكمة تتشكل في مراحل متقدمة في تطورالشخصية لأن الحكمة قد اعتبرت نقطة نهاية مثالية للنمو الإنساني. بينما في توجهات نظرية أخرى تعتبر الحكمة نوعا من الأداء الكفء والمعرفة الخبيرة (Staudinger, et al., 1997). - مثل نموذج برلين للحكمة - تشير إلى أن العمر وحده لا يكفي ليحصل الفرد على الحكمة، وأن العلاقة بين العمر والحكمة ليست حتمية وأن هناك متغيرات أخرى توثر في الحكمة كسمات الشخصية والأحداث الحرجة والخبرات التي يتعرض لها الشخص.
من يدعي الحكمة؟
الحكمة ترتبط بالتعبير عن المعرفة أو إصدار الأحكام والتقييمات أو أداء ذو خبرة في موقف معقد، أي أنه من الصعب أن يتم ادعاءها، ومع ذلك سنجد ما يشبه هذا الادعاء كما سيتضح فيما يلي:
1- الأوهام الإيجابية positive illusions:
يبدو أن هناك علاقة عكسية بين التفكير في الذات على أنها حكيمة (اعتبار الشخص نفسه حكيما) وكونه حكيما في الواقع. فقد أجرى رونالد سيجل (Siegel, 2013). استطلاعًا يطلب من المعالجين النفسانيين ذوي الخبرة وصف معالج حكيم، كانت إحدى السمات الأكثر شيوعًا لدى المعالجين الحكماء من وجهة نظرهم هي الوعي بحدود فهم الفرد (محدودية فهمه وإدراكه).
هذه البصيرة تشير إلى أن أي شخص يعتقد أنه حكيم هو على الأرجح ليس كذلك، لأن ذا العلم والمعرفة الحكيمة يدرك أن العلم واسع وما حصله من علم سيكون قليلا مقارنة ونسبة لما هو موجود وذلك لأنه اطلع وطالع على بعض المتاح، بينما من لم يطلع ولم ينفتح على تجارب وخبرات متنوعة سيظل أسيرا لتجربته وخبراته ومتمركزا حولها ويظن أنها البداية والنهاية، وسيكون حاسما (أكيد – يجب – يلزم -طبعا – خلاصة الأمر ونهايته- ليس هناك كلام بعد كلامي...) غير متردد في آرائه ومعمما في القول (كل المواقف والاحتمالات نتيجتها واحدة – كلهم على هذا الشكل -...) غير مستخدما (بعض – ربما – من الممكن) فتظهر لديه أحادية الرؤية وهذا يتعارض مع أساسيات تكوين الشخص الحكيم الذي كي يكون حكيما قد انفتح على خبرات كثيرة وأدرك متلازمة التنوع حتى وإن استقر على وجهة وطريقة لكنه على علم ووعي بما هو موجود حوله في الحياة.
وبشكل عام، الأشخاص الذين يعتقدون أنهم أكفاء عادة ما يكونون أقل كفاءة من أولئك الذين يعتقدون أنهم ليسوا أكفاء، وفق ما يسمى بتأثير دانينغ-كروجر Dunning-Kruger وهو انحياز معرفي يشير إلى ميل الأشخاص غير المؤهلين للمبالغة في تقدير مهاراتهم.
ويرتبط هذا الانحياز نحو الذات بمفهوم صار شائعا في دراسات علم النفس الإيجابي وهو مفهوم الأوهام الإيجابية positive illusions. الذي قدمته شيلي تايلور وبراون (Taylor & Brown, 1994)
2- تحيز الإدراك المتأخر Hindsight Bias:
وفي إطار الحديث عن إدعاء الحكمة، يمكن أن نجد الحكمة تحدث من تراكم الخبرات والمواقف والتفاعلات، وجزء من هذه الخبرة المرتبطة بالحكمة تحدث من التأمل بعد المواقف وتدبرها والاستفادة منها، لكن ربما نجد من يدعي الحكمة بأثر رجعي، بأنه كان يعلم ماذا سيحدث أو يقدم تقييما للأحداث بعد حدوثها وظهور نتائجها ويصدر أحكاما صائبة على ما حدث لكن بعد ظهور النتائج.
ولذلك هناك فارق مهم بين استعادة الماضي وهو مجرد النظر إلى الماضي. وبين الإدراك المتأخر وهو منظور حول الماضي تم فيه اكتساب الفهم وهو ما لم يكن متاحًا للشخص في وقتها. وبين الحكمة متمثلة في القدرة على التقييم وإصدار الحكم في وقت الحدث وسياقه. أما الحكمة بأثر رجعي تتضمن تقييمًا جديدًا للوقت الفائت أو الحدث الماضي.
ربما لم تكن تدرك الأمر بتفاصيله كما تدركه الآن؟ لذلك يمكنك التأمل في الماضي والتدبر فيه، ويمكنك أن تدرك شيئا لم تكن تدركه بوضوح حينها؟ لكن هل تقيم إدراكك الحالي مقارنة بإدراك السابق أم تدعي حكمتك الآن بأنها كانت سابقة؟ أم من الممكن أن نتأمل الحدث بدلا من أن ندعي الحكمة بعد وقع الحدث؟
الحكمة بأثر رجعي أو تحيز الإدراك المتأخر نتائجه 100% صحيحة ويسمى بتأثير "يعرف كل شيء طوال الوقت" knew-it-all-along effect أو الحكمة بعد فوات الأوان حيث يدعي الشخص أنه قال قبل ذلك أن هذا سيحدث أو كان يعرف ما سيحدث قبل أن يحدث أو أن ما حدث كان لابد أن يحدث أو أنه تنبأ حرفيا بذلك.
مثال بسيط يحدث في حياتنا يعبر عن هذا التحيز، قبل امتحان ما يمكن ان نقول "أنا حاسس أن الموضوع ده ممكن يكون موضع سؤال" أما بعد الامتحان فتكون قوة التأكيد مختلفة: "أنا كنت متأكد أن الموضوع دا هيجي في الامتحان"
وهذا الأمر ليس سهلا وبسيطا لنتجاوزه، لأنه يدخل في عدة مجالات وربما نواحي قانونية وجنائية وأمور تتعلق باتخاذ القرار والسياسات وقرارات الحروب والمعارك والتشخيصات الطبية والمنافسة الرياضية ويبدأ تحيز الإدراك المتأخر باعتبار أن القرار السابق أو التقييم للماضي خاطئ.
تأمل معي المشهد:
مشهد 1:
مريضة تقاضي طبيبا لخطأ في ممارسته العيادية بعد أن فشل في الكشف عن ورم في الأشعة السابقة (التي تبدو جيدة للعين دون مساعدة). في المحكمة، يقدم طبيب ثان شهادته على أساس الأشعة الأحدث (التي تكشف عن نمو واضح للورم). ويدفع الطبيب الثاني بأن الطبيب الأول كان يجب أن يكون قادرًا على رؤية الورم في الأشعة السينية السابقة.
مشهد 2:
يقوم المدير بتعيين موظف جديد على أساس شهاداته وسيرته الذاتية. بعد عدة أشهر من الأداء الباهت للموظفة، بدأ المدير يندم على قراره. بعد عام، يتم إنهاء الموظف. تقوم الإدارة العليا بالتحقيق في قرار المدير والكشف عن عدة قرارات و"علامات التحذير" التي كان يجب على المدير ملاحظتها قبل التوظيف. يتلقى المدير تقييمًا سنويًا ضعيفًا على أساس قرار التوظيف الفردي هذا.
ما المشترك بين هاتين الحالتين؟ كلاهما ينطوي عملية تقييم وإصدار حكم وهو مكون أساسي من مكونات الحكمة، وكلاهما يتضمن تقييم التقييم السابق، وكذلك على اللوم، حيث يتم اعتبار شخص واحد مسؤولاً عن السماح بحدوث وضع غير مرغوب فيه. كلتا الحالتين أيضا ينطوي على التخمين الثاني، أي استخدام الحقائق المتاحة حاليًا لإصدار حكم على شخص كان لديه وصول فقط إلى قدر محدودة من المعلومات في وقت اتخاذ القرار الرئيس. باختصار، كلتا الحالتين تنطوي على تحيز في الإدراك المتأخر.
ووفقا للفهم السابق يُعرَّف تحيز الإدراك المتأخر على أنه الاعتقاد بأن الحدث يمكن التنبؤ به بشكل أكبر بعد أن يصبح معروفًا عما كان عليه قبل أن يصبح معروفًا. (Arkes, et al., 1988)
المراجع
- Erikson, E.H. (1959). Identity and the life cycle: selected papers. International Universities Press.
- Staudinger, U. M., Lopez, D. F., & Baltes, P. B. (1997). The psychometric location of wisdom-related performance: Intelligence, personality, and more?. Personality and Social Psychology Bulletin, 23(11), 1200-1214
- Siegel, R. (2013). Wisdom in psychotherapy: Can we afford it. Psychotherapy Networker. Retrieved from http://www. psychotherapynetworker. org/magazine/currentissue/item/2093-wisdom-in-psychotherapy.
- Taylor, S. E., & Brown, J. D. (1994). Positive illusions and well-being revisited: separating fact from fiction.
ويتبع >>>>>>: في سيكولوجية الحكمة: ادعاء الحكمة بأثر رجعي (2)
واقرأ أيضًا:
جائحة كورونا طبيعة الحدث وآثاره النفسية السلبية والإيجابية / التحول من ضغوط ما بعد الصدمة إلى نمو ما بعد الصدمة (1-4)