مسكين يا حازم .. مسكين يا ابني ربنا ينجيك من الكرب الكبير ده
منذ أن عرفت هذا الخبر وأنا أدعو الله ليلا ونهارا يا حازم أن ينجيك من هذا الكرب، أن يكون لك ابن مِن مَن هي على غير ملتنا ولا عرفنا وارد، ولكن يكون مشكوك في نسب الطفل، هذا ما لم أكن أتخيله أبدا يا حازم، متستاهلش كل ده يا ابني، اللهم نجيه.
لا أعلم يا بني أهذا عملك ونظير حياتك!؟ أم هو عملي أنا فيكم!؟ هل كتب الله علي أن أعيش هذا السيناريو وفيك أنت بالذات يا حازم الغالي عقابا لي على ما اقترفته في حقكم أنتم أبنائي وأسرتي، وهل أقترفت في حقكم أنتم ما اقترفته؟ أم في حق والدتكم؟ وهل ما فعلته كان نتاج عملها معي ومعاملتها لي أم أنني أنا الجاني؟ فليعلم الله أني لم أعد أفكر في هذا الموضوع منذ أن أنعم الله علي بـ حسن وفرح أبناء وليد، أحفادي الغاليين، وقررت أن أرضى بدور الظالم بلا تفكير ولا تأنيب وأن أعاود العيش مع والدتكم في المنزل، حتى ولو عاش كل منا في طابقه الخاص، غية أن أتمتع برؤية أحفادي ورؤيتكم وأنتم تكبرون ويصبح لكم عائلات، كل خميس أو كل جمعة،حسب جدولكم ومشغولياتكم، أصبح شعوري بيومي الخميس والجمعة كشعور طالب بليد لا يحب في المدرسة سوى إجازته الأسبوعية منها.
سبحان الله، مكلوم أنا الآن في حازم ابني الأوسط الغالي، وعلى أغلب الظن مثلما أخبرني أن حسابات الطبيب تحدد أنه الأب بنسبة 75%، يا رب حكمتك، أعتقد أن الشك سيظل يراودني حتى وإن تأكد حازم من نسب الولد، وحتى لو جاء الولد إلى مصر وعاش معنا، يا رب لو كان هذا الطفل حفيدي طمأني يا رب واجعله شبيها لابني وشبيها لنا حتى يطمئن قلبى، يا رب لا تكلمني أكثر من ذلك بحفيد ذو نسب مشكوك، سبحان الله، حازم البراوي الذي لا يطيقني يلجأ لي أنا بالذات في هذا المأزق ويطلب العون، حكمتك يا رب، ربما جعلته يلتجأ لي لأشهد ما أقترفته يداي في تنشأة أبنائي، ربما حازم ليس مكلوما كما هي كلمتي، ربما سينسى ويتعايش فور بيان الحقيقة وظهور نتيجة التحليل ويتقبل فكرة هذا الابن الذي جاء بلا زيجة، وأظل أنا أشك في نسب حفيدي ذلك الذي جاء بلا أدنى تخطيط.
ما الذي فعلته في حياتك يا راضي لتمر بمثل هذا الموقف وأنت على مشارف السبعين من عمرك!؟ لم تكن زوجا مخلصا، بالطبع لا يحتاج الموضوع إلى أدنى إنكار، لم أكن مخلصا لك يا نازك لأنك لم تكوني مخلصة لي بمشاعرك قط، أكثر ما أهتتمت به يا نازك أن تجعلينى أبدو مثلما تريدين أنتِ، طريقة كلامي لم تكن تعجبك، تتهكمين على أسلوب الشوارع البلدي الذي لا يناسب حياتك الجديدة، تختارين لي كل ملابسي حتى وإن لم تكن تعجبني، حتى النادي والرياضة التي أمارسها حتى الآن أنت التي اخترتها لي متعللة أن "كل الأسر الراقية بتلعب جولف، طايرة إيه وشغل عيال إيه اللى هتلعبها، الطايرة دى تسيبها لولادك"، وأخترت الجولف، وأخترتِ أنت أشكال وألوان ملابسي وفقا لزوقك واختيارك، أنحسرت عن أصدقائي من باب الشعرية حيث نشأ والداي لأن "مستواهم مش عاجبك والعيال مينفعش تطلع عليهم"، تصنعت في طريقة كلامي أمام كل مجتمعاتنا المشتركة حتى أنول الرضى، صرت أتقن كل ما تحبيني القيام به، جمعت المال الوفير من أجلك، ومن أجلي أيضا بالطبع ومن أجل أبنائنا، دخلت في التجارة بمختلف أنواعها، وشراكة أقاربك أصحاب الصيت في عالم الأعمال، خسرت أموال كثيرة، ولكني ربحت أموال أكثر، صرت نصف رجل أعمال بفضل معارفك وأقربائك، نصف أرستقراطي، بفضل توجيهاتك، نصف نفسي ونصف طبيعتي حتى أرضيكي، ولكنك لم ترضي أبدا، كنت أرى منك التزمر والنفور على عدم اكتمال صورتي كما ترغبين فيها أكثر ما أرى منك الرضا عن محاولاتي الدؤبة، صارت المحاولات كلها لا تكفيكي ولا تسعدني ولا تزيد كل منا سوى إعراضا عن بعضنا البعض، أنت معرضة عني، وأنا أكثر إعراضا منك عن نفسي، حتى جاءت هيام.
جاءت هي بالسيناريو التقليدي للمرأة الصغيرة اللعوب التي تطمع في عز وجاه رجل كبير على مشارف الخمسينات، لم ترون فيها أنتم إلا هذا السيناريو، ولكني كنت أرى فيها استراحة محارب آن الأوان أن يخلع عن نفسه عبء زى الحرب الذي تصنع أنه يحسن ارتدائه طوال حياته، ولكنه في الحقيقة لم يكن محارب، ولم تكن البذلة تليق به أبدا، فكان لابد أن يخلعها وجيزا حتى يعيش.
أتت هيام ومعها الحياة التي افتقدتها طوال سنوات ريعان رجولتي، كانت طامعة في جاه رجل غني يكبرها بعشرين سنة أو أقل قليلا، كانت حالمة بدنيا مريحة تعيشها بعد أن لطخت الظروف أيام شبابها وجمالها الفتاك، ذلك السلاح التي أحسنت هي امتلاكه واستخدامه على النحو الأمثل.
من أعماق نفسي أسامح هيام، وأرى أن ما حصلت عليه مني كان حقا لها على تجرية زواج سري بلا فرح ولا أهل ولا إعلان من رجل كبير، فلتنعم هيام بما أخذته، حلال عليها تلك اللعوب، التي أبت أن تلعب أى من ألعابها معي سوى في الحلال، حتى أوقعت بي ووجدت نفسي في صحبة امرأة ثلاثينية يبدو أنها زوجتى. كنت أستفيق من هذا التأمل بين الحين والآخر وهي مستلقاه بجوارى بقمصانها الزاهية متعددة الألوان، ورائحتها التي تشبه رائحة الحلوى في أفران باب الشعرية، ممسكة بهاتفها تبعث برسائل صوتية دائما لصديقاتها أو جيرانها أو زملائها القدامى في العمل، أتأمل صوتها ومخارجها للحروف، هي حقا تشبه أفران وحارات وشوارع باب الشعرية، أبتسم من تأملها، وأبتسم من نفسي لأنني لم أعد أحدد هل أنا مرتاح لجو الحارة الذي تُشعرني هيام به! أم أنني أتقنت أسلوب نازك في نقد كل ما هو غير راقي ويجمل طابع شعبي! ولكنها كانت تعجبني هيام، وأكثر ما يعجبني فيها أنها ومنذ عرفتها لا تدع لي أي فرصة في التفكير بمنطق أو عقلانية أو طرح الأسئلة على نفسي، كانت فقط تعطيني إجابات لأسئلة لم أسألها ولا تخطر على بالي، ولكني كنت أستحسن كل إجاباتها النموذجية في كل شيء.
أتت هيام من منطقة شعبية، من أسرة مفككة نسبيا وبالطبع فقيرة، في منتصف عشريناتها وجدت نفسها مسؤولة بالكامل عن أسرة من أخوين رجال وأخت ثالثة جميعهم يصغرونها، بالإضافة إلى أمها التي كانت تعشقها هيام كثيرا، وكان ذلك يعجبني فيها، تنصل منهم أبوها كما يفعل آباء هذه الطبقة عادة، ألتحقت هيام بالكثير من الأعمال، كلها شريفة، ولكن تكاثُر الزمن والظروف عليها جعلها تلتوي في أساليبها وتفكيرها، ذلك الالتواء الذي تحقق معه مثل هذه النساء أهدافهن بأقل الخسائر وأكبر المكاسب في نفس ذات الوقت.
عملت هيام في محل الحلاقة الرجالي العريق الذي كنت أذهب إليه، والذي اختارته أيضا نازك، يميز هيام أنها تستطيع التصنع للدرجة التي تجعلها مناسبة لوظيفة بسيطة ولكن في مكان مرموق مثل ذلك الكوافير الرجالي، كانت تعمل في الاستقبال، ابتسامة عريضة خلابة في انتظاري وفي انتظار جميع الزبائن، تستقبل تليفونات الحجز بكل بشاشة ودبلوماسية جذابة، تنقلك بين المواعيد المتاحة على حسب جدول المحل وليس جدول الزبون، وتتقبل أنت ذلك بكامل الرضا بسبب الدبلوماسية والضحكة الرنانة في الهاتف التي تشوق قلوب الرجال مثلي في الخمسينات، بدأ الأمر أن طلبت ذات مرة تليفونها الشخصي حتى تخبرني بالمواعيد المتاحة وتحجز لي مسبقا تسهيلا علي، وسرعان ما وجدت نفسي أحدثها بالساعات تليفونيا، بدأنا الحديث عادة بأنها تثق بي وتحمل لي معزة خاصة، وبهذه الثقة حكت لي عن ظروفها الأسرية، واجتهادها مع أسرتها وحبها لأمها، واستمعت أنا لهذه الحكايات بإعجاب وتلهف كل يوم لسماع المزيد، كانت تهتم برأيى وتمجًد في كل تصرف أفعله لها، وتمتن لأي تعاطف معنوي أو مادي مني عليها، ذلك الامتنان الذي يجعل الرجل يشعر أنه صاحب أكبر قيمة في حياة المرأة التي تتبعه، وذلك شعور لو تعلمون عظيم.
في مرحلة متطورة من مهاتفاتنا، طلبتُ رؤيتها وحدنا، وكثرت الخروجات، أطلعتها على أفخم المطاعم ونوادي السهرات، واشتريت لها ملابس تليق بقوامها المنحوت، تطورت حكايات هيام التي كانت تثق بي وبرأيي إلى غوايات من هيام لي، لم أكن أبدا مثاليا، وكثرت علاقاتي العابرة في مختلف مراحل حياتي الزوجية، أعتقد أنني كنت رجل أكثر التزاما وأنا عازب، حاولت مع هيام أن أجعل العلاقة عابرة كما فعلتها مع غيرها على مدار عمري، ولكنها كانت أبية ملتوية في نفس ذات الوقت تحب الحلال ولكنها تدفع الرجل معها دفعا لكي لا يتوقف عن التفكير فيها وأن يحب ما تحبه هي حتى ينولها، فاخترت الحلال كطريق لهيام.
استمر الموضوع سرا قرابة العام، أعطيها ما تريد لها ولأسرتها، وهي تعطيني ما لم أجده في نازك، الحق أنها كانت مخلصة لي، وكانت تنوي الاستمرار معي، كانت طماعة ولكني أسامحها، أسامحها بالقدر الذي جعلتني فيه أتصالح مع نفسي التي كنت أعرضت عنها تماما أيام نازك.
مع تزامن طلب هيام للخلفة وأن من حقها أن تصير أما، تزامن ذلك اكتشاف نازك لأمر زواجي السري وانقلاب أبنائي وعائلتي ومعارفي جميعهم علي، في معمة هذ الانقلاب لم أجد من يهدأ من روعي سوى هيام بشعبيتها وحنيتها علي -حتى وإن كانت زائفة- وكذلك بعض من أصدقائي الرجال الأرستقراطيين مثلي الذين يبدو عليهم أنهم يعانون مثل معاناتي أو معاناة أخرى، المضحك في الأمر أن بعض من رجال هذه الطبقة حدثوني عن حسدهم لي وغيرتهم مما فعلت بلا حرج، كأن هذا حالنا جميعا الرجال من مختلف الطبقات، نحب القصص السرية الملتوية حتى وإن تصنعنا دائما بالترفع.
أسفرت خلافات عائلية كبيرة لمدة ستة أشهر عن تدخل أطراف عائلة نازك، محاولين أن يتداركوا ما فعلت، مصدرين فرمانات بأن أنهي علاقتي بهيام تلك وأن تقبل نازك فكرة عدم الطلاق لاعتبارات الشكل الاجتماعي وكذلك لاعتبار أهم وهو شراكتي المتداخلة في الأعمال مع أقاربها وذويها وحساباتنا المالية المشتركة، شراكة معقدة لا انفكاك منها.
ولاعتبارات المظهرية والشكل الأرستقراطى التي حرصت عليه نازك في حياتنا أكثر من أى شيء، ولأنني لا أملك من أمري أن أعيش بلا رؤية أبنائي، حتى وإن كنت أعتقد أني أعيش حاليا بلا حبهم، فوافقت على كل شروط نازك وعائلة نازك، طلقت هيام بالتراضي معها، بعد أن كتبت لها ولذويها أيضا كل ما احتاجت إليه من مال، وأرسلتها للتوظيف في أحد شركات معارفي المهمين، وتركتها في رضى عن ما جمعت من مال وأهداف، وتركتني هي بلا صخب ولا ضجيج، كانت سعيدة بما حصلت عليه مني في اتساق مع نفسها، فهذا كان الغرض منذ أن تعارفنا حتى وإن تغاضيت أنا عن ذلك وتجاهلته، وكنت أنا راضي بتلك السنة معها التي صالحتني على نفسي وحقيقتها حتى وإن لم تكن تقصد هي ذلك، ولكنها سمحت لى بالحرية والثقة والتعظيم أن أرى نفسي كما أحب أن أراها وأكون عليها.
أما أنا ونازك، قسمنا الفيلا ذات الطابقين، تقنط هي في الدور العلوي، وأنا في الأرضي، كالغرباء، وأمام الناس والنسايب نحن عائلة، وفي آخر اليوم هي في عالمها وأنا في عالمي، وأعتقد أني سعيد في عالمي هذا أكثر حتى من سعادتي في أي وقت مضى، أكثر من سعادتي مع هيام نفسها أو مثيلات هيام العابرين.
عشرون عام تقريبا على هذا الوضع، حتى صرت أتأمل نازك كلما رأيتها في التجمعات العائلية كما أتأمل الغرباء، أراقب كبر ملامح وتجاعيد وجهها شهر وراء شهر، سنة وراء سنة، أفتقدها أحيانا، ولكني لا أفتقدها على هذه الصورة، أفتقد صورتها في الجامعة، أيام الحب الأولى، وتحدي العالم لنكون معا، والمشاعر المتأججة دائما، ولقاءتنا خلسة في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، إيمانها التام بي وبمستقبلي العريض، تمسكها بي وتحديها لعرف عائلتها بأنها لن تتزوج إلا طبيب أو مهندس من عائلة مرموقة كمثل عائلتهم.
ولكنها اختارتني أنا، راضي ذو الأصل المتوسط والعائلة العريقة نسبا ولكنها متواضعة ماديا، خريج التجارة الدؤوب ذو المستقبل المشرق بفضل ذكائه ورؤيته الواضحة للمستقبل كما كانت توصفني هي قديما، الذي تقلد وظيفة كبيرة في شركة خاصة وقت أن كان التعيين في شركة خاصة درب من الجنون في ظل أمان الوظيفة الحكومية، والذي أصبح شريكا في هذه الشركة بعد أعوام قليلة من عمله بها، أشتاق إلى نازك التي كانت تؤكد دائما أنها في "مأمن طالما هي معي، وأنها تثق أنني لن أخذلها أبدا".
أشتاق إلى تلك الشابة الصغيرة التي سافرت لعمتها في الأسكندرية دون أن تخبر أسرتها معترضة على عدم موافقة أهلها على زواجها مني، حتى رضخوا وأتموا الزيجة، وعشنا الحلم، وأنجبنا وليد وحازم ثم كريم، ولكن تلاشى الحلم أمام تطلعات نازك عن رجلها المثالي الذي لم أحسن أبدا أن أكون هو، وأمام استهتاري أنا وعدم احتوائي لزوجتي التي تحدت العالم من أجلي. فلتنعم هيام بما حصلت عليه مني، ولتنعم نازك بالدور العلوي وصورة الأسرة المثالية، ولأنعم أنا دائما باعترافي لنفسي بحقيقتها وقصورها قبل إحسانها، وليكن ما يكن.
ولينجيك الله يا حازم من هذا الكرب، فأنا على عهدي بك يا الله منذ قرابة العشرين عاما، بألا أعصيك مثل تلك المعاصي مجددا، فلتنجيه يا الله من أجل عهدي بك الذي التزمت به أمامك.
واقرأ أيضًا:
قصص قصيرة جدا(35-107) /قصص قصيرة جدا : دليل دامغ