هل الأحلام مجرد وسيلة لحدوث توازن في الوظائف النفسية من خلال التنفيس أو التنبيه أو التحذير أو تحقيق الأمنيات أو إشباع الرغبات، أم أن لها وظيفة أخرى أعلى وأرقى تتصل بأبعاد ومستويات الوجود بماضيه وحاضره ومستقبله، تتجلى هذه الوظيفة في حلم يستغرق عدة ثوان؟.
هل الأحلام دليل عملي على وجود عوالم أخرى موازية أو مواكبة أو بديلة للواقع الذي نعيشه، وهل يقوم المخ البشري بعمل "ميتافرس" إبداعي من عناصر مشتقة من الماضي والحاضر والمستقبل، ومن عوالم نعرفها وأخرى نجهلها؟.
هل نعيش فترة البرزخ في القبر وكأننا نحلم ثم ننتقل إلى الحياة الحقيقية الأخرى بعد البعث والحساب؟.
هل الأحلام مجرد نشاطات فسيولوجية في مراكز المخ تستحضر مادتها من رغباتنا وشهواتنا وأمنياتنا ومخاوفنا وأحداث حياتنا اليومية، أم أن فيها جزءا غيبيا له ثمة اتصال بعوالم أخرى لا نعرف كنهها ولكنها تتجلى لنا في النوم؟ ... الغيب هو كل ماغاب عن إدراكك الآني وعن عقلك الواعي، وغياب الشيء لا يعني انعدام وجوده، ولكن يعني احتجابه عنا، وقد تتكشف بعض الغيوب في مراحل زمنية معينة في حياة الإنسان بينما تبقى غيوب أخرى تتكشف بعد الموت أو بعد البعث .
ولما كانت قضية الغيب من القضايا المحورية في الأديان السماوية حيث يطلب من الإنسان أن يؤمن بإله لم يره، وجنة لم يرها، ونار لم يرها، وكرسي وعرش وملائكة وبعث ونشور وعالم الجن وكلها أشياء لا يلتقطها إدراكه البصري أو السمعي أو الشمي أو التذوقي أو اللمسي، لذلك كان لابد من بروفات لتكشف غيوب تؤكد فكرة أن الغيب ليس مرادفا للعدم، فكان مثلا أن الميكروبات والفيروسات كانت غيبا عنا لآلاف السنين حتى اكتشف الإنسان العدسات المكبرة والميكروسكوبات فتكشف له عالم هائل من الأحياء التي تؤثر في حياته ووجوده، بل قد تهدد وجوده نفسه كما هو الحال في الجائحات الميكروبية أو الفيروسية وآخرها جائحة كورونا.
وعلى مستوى الأصوات اكتشف الإنسان أن أذنه تلتقط من الكون الذي يعيش فيه حزمة محددة من الترددات الصوتية، وأن ثمة ترددات أعلى (Supersonic) أو أدنى (Subsonic) لا يلتقطها . وأدرك الإنسان أيضا حين اكتشف التلسكوبات العملاقة أن ثمة بلايين من المجرات والنجوم والكواكب والأقمار تهيم في الفضاء الكوني بنظام محكم منذ بلايين السنين دون أن تصطدم ببعضها، وكل يوم تتكشف أسرار لانهائية عن هذا الكون الممتد . كل هذه الأبعاد التي تكشّف بعضها وبقي أكثرها غائبا عن إدراكنا تؤكد أن ثمة غيب كوني يحيط بنا وتتكشف لنا بعض جوانبه لتكون دليلا على وجود مساحات هائلة مازالت غائبة ولا نعلم متى وكيف تتكشّف أو لا تتكشّف.
وبالتوازي هناك غيب نفسي يتمثل في مناطق اللاوعي الكامنة في نفس الإنسان من ذكريات ورغبات ومشاعر وأفكار تربض في مستويات عميقة في النفس ولا تتاح لعقلنا الواعي إلا بقدر محدود في الأحلام أو زلات اللسان أو خلال جلسات التنويم الإيحائي أو في الإبداعات الفنية . وإذا أخذنا الأحلام على وجه الخصوص فإننا نقضي 20-25% من وقت نومنا في الأحلام، قد نتذكر بعضها وأغلبها لانتذكره، والعلم لم يصل حتى هذه اللحظة إلى فهم مقنع لظاهرة الأحلام ومن أين تأتي مشاهد الأحلام، وهل هي ظاهرة بيولوجية صرفة، أم أن لها أبعادا روحية أو كونية أخرى، ولكن الواقع والحقيقي أن كل البشر يحلمون (حتى لو لم يتذكروا أحلامهم )، بمعنى أنهم يعيشون أثناء نومهم في عالم آخر وفي حالة أخرى غير حالة الوعي المعروفة لديهم، وأن هذه الحالة الأخرى تسير بقوانين مختلفة عن قوانين حياتهم المعتادة، وأن لا سيطرة لهم على هذا العالم الآخر من الصور والمشاهد والأحداث، وأن ثمة روابط مباشرة أو رمزية بين واقع حياتهم وتلك الأحلام على الأقل في جزء منها.
ونحن نمر بخبرة الموت والبعث في كل ليلة حسب مانفهم من الآية الكريمة : "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الزمر 42)، فكأن الروح تقبض عند الله أثناء النوم فيما يعرف بالموتة الصغرى، وتهيم في عالم غيبي لانعرف طبيعته، ثم تعود مرة أخرى عند اليقظة إذا كان في العمر بقية . والحياة في البرزخ أقرب ماتكون بالأحلام، حيث تعرض على الميت صورا مختلفة تتفق مع عمله في الدنيا، ثم يكون الجزاء الحقيقي في الآخرة بعد الحساب، وذلك نفهمه من قوله تعالى : "النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (غافر46)، فالنعيم أو العذاب في القبر يكون في صورة عرض لمشاهد الجنة أو النار، ثم يكون النعيم أو العذاب الحقيقي بعد الحساب يوم القيامة . إذن فالنوم تجربة مصغرة للموت، والأحلام تجربة مصغرة لعالم البرزخ، ودليل عملي على وجود عوالم أخرى يرتادها الإنسان.
وأخيرا كل ماسبق من شواهد الغيب الكوني وشواهد الغيب النفسي تسهل لنا قبول فكرة الغيب المطلق أو الغيب اللانهائي المتصل بحياة البرزخ والبعث والقيامة والجنة والنار والخلود، ليس هذا فقط بل إن تجلي مستويات الغيب التي نراها في حياتنا (سواء غيبا كونيا أو نفسيا) لهي حجة على كل إنسان في تأكيد وجود الغيب المطلق وإمكانية، بل وجوب، الإيمان به، ويصبح عدم الإيمان به أو تكذيبه أو تسفيهه نوع من الخيانة العظمى لوظيفة العقل ولحقيقة الوجود بمستوياته وأبعاه المدركة وغير المدركة، ولهذا استحق الكفر والإلحاد عقوبة الخيانة العظمى لأمانة العقل والإدراك .
واقرأ أيضاً:
الأمن القومي النفسي / هوس الحب (Erotomania)