اقتحم عليَّ الصيدلية، اقتنص لحظة خلوها من الزبائن.. ألقى السلام، واستأذنني وتنحى بي إلى الجانب الأيمن من (الكاونتر)، بعيدا عن المساعد الذي فهم من تلقاء نفسه ودخل معمل الصيدلية.
تئز في نفسي تساؤلات كطنين ذبابة لعينة: ما الأمر؟!
عم شعبان من وجهاء القرية وأثريائها، توفيت زوجته منذ قرابة العام، بماذا سيسِّر إليَّ إذن؟!
ما لي أراه يفعل مثلما يفعل أولئك أصحاب الحبة الزرقاء "يميل ناحيتي ويهمهم بكلمات، وعيناه تهرول في أرجاء المكان خشية أن يسمعه أحد".
فعلا لم تخب فراستي؛ طلبها مني.. استجمعت فلول جرأتي، التي هربت مني احتراما لبياض مفرقه وهيبته، وسألته: ألست أرملا يا عم شعبان؟!
أخبرني أنه تزوج من بنت بنوت منذ قرابة الشهر، وفي أمس الحاجة إلى الحبة الزرقاء لتعيده شابا وتطيل رقبته أمام عنفوان زوجته، ولا يشمت به أولاده، الذين أهملوه وزوجاتهم بعد وفاة أمهم، وكانوا وما زالوا ضد قرار زواجه وخصوصا من هذه البكر، التي تزوجها عندا فيهم لينجب -بإذن الله- منها أولادا يرثون معهم رغم أنفهم.
رثيت لحال الرجل، فقد أذكيت فيه نارا كامنة تحت رماد الغضب.. ومن كلامه معي ارتفعت الكلفة بيننا برغم فارق السن؛ سألته بمكر: كيف أوقعت هذه البكر الجميلة -بعد أن عرفني من هي- في شباكك؟!
أجاب: حواء تعشق بأذنيها.. إنها أذن كبيرة تسمع وقليلا ما تعي، هذا بالنسبة لكم أيها الشباب.. أما بالنسبة لنا نحن معشر الشياب، فهي تعشق بعينيها إذا رأت بريق الذهب؛ قرطا في أذنها وخواتم في أصابعها وغوايش في ساعديها.
لم أقاوم أو أحتج لعلمي أني أناطح السحاب، وأعتصر الهواء، وأصارع المحيط في الخبرة.. لملمت أطراف الحديث معه، وأحضرت له حبة على ذوقي وأوصيته بأن يأخذ نصفها فقط... أخذها مني وهو يلتفت يمنة ويسرة وأخرج حافظة نقوده ودسها في أحد جيوبها الداخلية، وخرج بعد أن ضغط على يدي وشكرني.
الساعة العاشرة مساء أغلقت الصيدلية وعدت إلى البيت، تناولت وجبة عشاء خفيفة وأويت بالبجامة إلى فراشي.. أيقظني رنين الجوال الساعة الواحدة صباحا على صوت يستغيث بي: "الحقني يا دكتور، أنا عمك شعبان، أنا بموت".
خرجت مسرعا ببجامة النوم أسابق الريح.. ما أن وصلت وقبل أن أحتار أي باب أطرق.. فتحت زوجته الباب -أظنها كانت ترتقب وصولي من العين السحرية- ترتدي روبا أحمر والزينة ما زالت على شفتيها ووجنتيها، تبكي أو تتباكى، وأثر الكحل في جفنيها لم تجرفه الدموع بعد. ترتعد من الخوف، مرتبكة.
سألتها: ماذا حدث؟
أجابت وهي تشير إلى غرفة بابها مفتوح: فجأة، أمسك بصدره وهو يتأوه، وأمسك بالهاتف واتصل بك ثم دخل في إغماءة.
دخلت الغرفة فإذ به مرمي على السرير فاقد للوعي، نبضه ضعيف جدا، وبجانبه على خزينة الأحذية غلاف القرص الأزرق فارغ.. أخذه كاملا.
صِحت فيها: يجب أن ينقل إلى المستشفى في أسرع وقت ممكن.
صرخت بأعلى صوتها: يا لهوي، يا لهوي.. وأخذت تلطم على وجهها.
تهافت علينا أولاده واحدا تلو الآخر وزوجاتهم على صراخها مفزوعين.. وعندما رأوا زوجة أبيهم بملابس النوم وأنا بالبجامة امتلأت نظراتهم إلينا بالشك والاتهام.. لم يتمالك أحدهم نفسه وقال والشرر يتطاير من عينيه: ماذا فعلتم بأبي يا مجرمين؟
رد أكبرهم: الآن ننقذ أبانا، أما أنتما فحسابكما فيما بعد.
وبينما هم يحملون أبيهم إلى المستشفى تسللت من بينهم هاربا..
وها أنا ما زلت مختبئا في انتظار إفاقة أبيهم لينقذني من هذا المأزق الذي ورطني فيه.
واقرأ أيضًا:
مجتمع يربينا على الإدمان ولا مجتمع الفياجرا؟ / الفياجرا والنساء : الحبة الزرقاء