تراثُك يخصِّبك وتراثُ غيرِك يعقِّمك!
العنوانُ ساقَ لنا نتيجة كبيرة، أليس كذلك؟! هي مقنعة لكثيرين، وربما صادمة أو غامضة لكثيرين أيضاً. حسناً، سوف أتعاطى مع هذه النتيجة بقالب تحليلي مبسط، يتجافى: التعقيد والتكلف؛ ليكون قالباً متفهماً من قِبل الجميع. ودعونا إذ ذاك نفتتح هذا النص الرشيق بباقة من المقدمات الكلية الجلية
(تنظيرية عامة):
1 - كل إنسانٍ له تراث ما.
2 - كل تراثٍ ينبع من رؤية ولغة ويمتلئ برموز ثقافية محددة.
3 - كل عقلٍ يتفهم ويتفاعل مع التراث الذي يشاطره الرؤية واللغة والرموز بشكل أنجع.
4 - كل عقلٍ متفهم ومتفاعل مع تراثه قادرٌ على أن يبدع جديداً.
هذه مقدمات محورية، ولكنها لا تكفي لكي نستنتج منها شيئاً متماسكاً، ولذا فسوف أضيف إليها باقة من التوصيفات الجلية (تطبيقية خاصة):
1 - الفكر العربي الإسلامي فَقَدَ الثقةَ الذاتية والبوصلةَ الملهمة في القرون الأخيرة.
2 - الفكر الغربي استعاد ثقته وبوصلته في هذه القرون.
3 - الفكر المهزوز التائه اكتسحته الرموز الثقافية للآخر وشوشته رؤيته الكلية.
4 - الفكر المهزوز التائه أصبح ضامراً ضعيفاً تابعاً.
إن النتيجة المترتبة على المعطيات السابقة، يمكن سبكها بعدة صياغات متكاملة، ولعلنا نكتفي بهذه الأربع:
1 - ضرورة استعادة ثقتنا بمرجعيتنا ورؤيتنا: الآنفة الثقافية.
2 - ضرورة استعادة الثقة بعقولنا وقدراتنا: الانتقال من تفكير الآذان إلى تفكير الأذهان.
3 - ضرورة ممارسة التقشير للآخر وتجاوزه: تراثك يخصّبك وتراث غيرك يعقّمك.
4 - ضرورة العودة إلى التراث وجعله منصة للإبداع مع الاغتراف الرشيد من الآخر.
هل هذه الرباعيات متماسكة ومقنعة؟! ليس من الملائم مناقشة كل الإشكاليات التي قد تكون واردة عند بعضهم في نص عام صغير كهذا، ولذا، فسوف أيمم وجهي مباشرة صوب التقاطات أرى أنها تحمل قدراً من البرهنة المقنعة على ما سبق تقريره، ولتكن في هذين العنوانين:
الآخر قشَّرنا، فلم لا نُقشِره؟!
حين ترومُ بناءَ جدارِك، فتنزِع طوبةً من جدار غيرِك، فهل تطيقُ وضعَ هذه الطوبةِ في جدارك؛ دون تخليصها من النتواءت، وتنقيتها مما يشوبها أو يُقلِقُ تَموضعَها في جدارِك؟ من أهم الملامح التاريخية والدروس المستفادة في الفكر الفلسفي العام، أن الغربيين عمدوا إلى تقشير الفكر اليوناني مما علق به من الفكر العربي الإسلامي، وظفروا باللب «الغربي» وفق منظورهم الخاص، وثمَّروه وكاثروه بالتفلسف والإبداع عبر آليات الدرس والبحث والابتكار والتقنية في مؤسساتهم الجامعية والبحثية والفكرية والإنتاجية. هل يشي ذلك ببحث جواني عن تفلسف نقي؟ لقد صنع الإغريقُ قبلَهم الشيءَ ذاتَه في ربيعهم الفلسفي، وهي الفترة المسماة بـ «الهيلينية»، حيث خلَّصوا فلسفتهم من الكثير من الأبعاد ذات الصلة بالشرق القديم، ومن ذلك جوانبها السحرية وما يتعلق بالعمل المباشر، لكونهم كانوا يعتقدون أن النظر أو التنظير أو التفكير بالكليات هو من شأن السادة وأن الجانب العملي هو من شأن العبيد، مما أضمر المنهج التجريبي لديهم.
الممارسة الغربية وقبلها الأغريقية فيما يخص «تقشير الآخر»، وتنحية فكره والتخلص منه، يؤكد أن الفلسفة الغربية وقبلها اليونانية تؤمن بـ الخصوصية لا الكونية، بوصفها القاعدة التأسيسية للإبداع، وذلك أن التفلسف نابع من الرؤية الكلية للإله والكون والحياة والعلم والإنتاج، وهذه الرؤية يشكلها الدين بالدرجة الأولى، وتلونها الثقافة بعاداتها وإرثها وتقاليدها ومزاجها الخاص بالدرجة الثانية، وكل هذه الأبعاد مصنوعة من هيكل الخصوصية ولحمها وشحمها وعضلاتها ومفاصلها.
لم يكن تقشير الآخر وممارسة التفلسف النقي حكراً على الإرث الإغريقي والغربي، فقد سبقتْ إليه الفلسفات الآسيوية الموغلة في القدم كالهندوسية والجاينية والبوذية والكونفوشيوسة والداويَّة، حيث جعلتْ من تفلسفها منصة للمؤاخاة بين الديني والفلسفي من جهة، وبين النظرية والممارسة من جهة ثانية، مع تركيزها على بناء المنظومة الحجاجية وفق هذه المؤاخاة، على أنها تميل إلى التبصر المعمق في الواقع وفهمه بوصفها مرشداً للحياة، مستبعدة أي أطر دينية أو فلسفية تتعارض معها. وفي إطار تقشير الآخر في العصر الحاضر، يمكن النظر في التجربة الروسية الجرئية اللافتة، بقيادة المنظّر/الفيلسوف الروسي المثير للجدل الاسكندر دووغين (للمزيد حول فكرة تقشير الآخر، انظر كتابي: كينونة ناقصة، ط2، 2023).
إذن، الغربُ مارسَ تقشيراً للفكر العربي الإسلامي حينما استفاق في قرونه المظلمة (=القرون الوسطى)، بل إنه تجرأ على طمس الإسهامات العلمية والفلسفية الكبرى لهذا الفكر، فلم ينسب الأفكار إلى أصحابها، وهذا أمر له أدلته وشواهده، فلِم لا نمارس نحن تقشيراً معاصراً لهذا الغرب الذي يكتسحنا بمئات بل آلاف المفاهيم، ويتخمنا بعشرات المناهج وطرائق التحليل والتفكير والاستنتاج والتخطيط والعمل في سائر العلوم والمجالات؟!
بربكم أجيبوني بكل مسؤولية: هل يستطيع أحدنا أن يبدع شيئاً ذا بال، وقد ملأ كأسه بهذا الكم الهادر من الأفكار؟! الواقع يقرر بأن تفكيرنا يغلب عليه بشكل طاغ «تفكير الآذان»، حيث نترجم الكثير من النصوص الغربية ونتاجه، وتلوك ألسنتنا الأفكار والمفاهيم الغربية، ونطبق بإخلاص شديد المناهج والمقاربات الغربية. هذه حقيقة لا أتصور أنه يصمد دليل على نسفها أو حتى النيل منها. ومن يكون في نفسه شيء منها، أقول له متحدياً: كم عدد المفاهيم -أيها الصديق- التي ابتكرناها في حقولنا المعرفية المختلفة؟ وهل وضعنا مناهج بحثية جديدة؟! نحن -في أكثر اشتغالاتنا، حتى لا أعمم- مجرد رجع صدى، وهذا أمر مؤلم جداً، بيد أنه ليس قدراً محتوماً، على الأقل لمن يفكر ويمارس نقداً ذاتياً فيما أحسب. وهذا ما ينقلنا إلى عرض طرف من تجربتي في النقد الذاتي والتصحيح الذاتي، فلتنظروا فيها بتجرد وتأمل.
التراث مِهماز التنظير والإبداع
من وحي تجربتي الطويلة في قراءة النِتاج الفكري والفلسفي الغربي في فترة تلامس 35 سنة، أُقرُّ بأنني لم أفد كثيراً من كثرة القراءة في هذا النتاج، ولاحظ أنني قلت:«كثيرا»، «كثرة»، فالقراءة بقدر ما مهمة ومفيدة أيضاً للبعض، غير أن الفائدة الكبرى التي ظفرتُ بها، تكمن في القراءة في التراث العربي الإسلامي. قد يقول أحدكم: لا تُلقي الكلامَ على عواهنه: فما دليلك على هذا الزعم؟ الكلام حول هذا يطول ويطول، والدليل ذو طبيعة «تجريبية»، ولذا فإنني أُلمح على عجل بأنني -مثلاً- قرأتُ باهتمام شديد -ضمن مجموعة قراءة مع عدد من الأصدقاء المعرفيين النابهين في مدينتي بريدة- نصوصاً فلسفية غربية بكامل قضها وقضيضها كنقد العقل المحض لكانط، فكرة الفينومينولوجيا لهوسرل، الكينونة والزمان لهيدجر، الكينونة والعدم لسارتر، منطق البحث (الكشف) العلمي لبوبر وشطراً من كتابه الآخر: المشكلان الأساسيان في نظرية المعرفة، بِنية الثورات العلمية لتوماس كون، فضلاً عن مئات الكتب الأخرى في مباحث وجودية وإبستمولوجية وأخلاقية ومباحث فلسفية أخرى، فلم أكتب نصاً فلسفياً صغيراً، فضلاً عن كتاب فلسفي؛ بناء على هذه القراءات العسيرة المتطاولة. وحينما عدتُ إلى القراءة المتأنية في التراث العربي الإسلامي، وجدتني أنعتق من: «تفكير الآذان» إلى: «تفكير الأذهان»، ومن ضيق المصطلح الأعجمي إلى شساعة المصطلح بلغتي الأم، حيث أنتجتُ أول نصوصي الفلسفية بعد فترة لم تطل من تلك القراءات التراثية، وهو كتاب: ابن تيمية فيلسوف الفطرة – نحو كبسلة الفيلسوف (2021)، ثم تلاه مباشرة نصي الثاني: كينونة ناقصة – أحد عشر سؤالاً في قراءة الفلسفة (2022)، وكذلك بحث الحد المائز بين الدين والفلسفة والعلم (2022) للمجلة السعودية الفلسفية المحكَّمة، وذلك بعد قراءة معمقة لعدد من النصوص التراثية كتهافت الفلاسفة للغزالي، تهافت التهافت لابن رشد، درء تعارض العقل والنقل والرد على المنطقيين لابن تيمية. ثم أنتجتُ نصاً لغوياً بقالب متفلسف (2023)، بعد قراءةِ دلائل الإعجاز للجرجاني وشطرٍ من كتابه الآخر: أسرار البلاغة، حيث وضعتُ كتاباً مع الدكتور معاذ الدخيِّل يتمحور حول فكرة «الانبناء اللغوي»، عِوض «البناء اللغوي»، حيث ألهمني هذا الجرجاني العملاق بأن اللغة هي انبناء جواني لا بناء برانياً، ثم كتبتُ بحثاً فلسفياً لمؤتمر فسلفي في المغرب بعنوان: العلوم الإسلامية والإنسانية: من الفصإلى الوصل: نحو بلورة مرشاد التكامل الاندماجي. وأخيراً، وضعت كتاباً في مناهج البحث بعنوان: البحث النماذجي (2023)، حيث ألهمني التراث العربي الإسلامي بفكرة أن «المعرفة مارثون متعدد المراحل»، فكل عالِم أو فيلسوف أو باحث يركض في مضمار معرفي؛ بأقصى ما يطيق من جهد وسرعة وإتقان، ليستكشف ما يمكنه استكشافه، ثم يأتي تلامذته النابهون من بعده، فيستلمون الشارة منه، وينطلقون في المضمار المعرفي ذاته، باذلين من الجهد والاستكشاف ما عساه يُظفرهم بنصيبهم من كنوز المعرفة وطرائد الحقيقة. لقد كانت مثل هذه الفلسفة راسخة في حضارات إنسانية عديدة، ولعل الحضارة العربية الإسلامية من أهم تلك الحضارات، حيث طورت المعرفة بتراكم متواصل وقدمتْ شواهد لافتة وملهمة، مما جعلني أطور منهجية طرحها أستاذي القدير عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- في مجال بناء النماذج التفسيرية، وهو أول كتاب من نوعه في الأدبيات المنهجية بعموم.
هذا، وإنه لمن الواجب عليَّ التنبيه هاهنا إلى أنه ليس مهما إطلاقاً التعريف بأعمالي الخاصة لذاتها، فهي ليست ذات بال على الإطلاق في هذا السياق، وإنما أوردتها فقط من باب التدليل «التجريبي» على الفكرة التي أومأتُ إليها، والتي بِتُ أعدُّها قاعدةً معرفيةً، والتي وضعتها في هذه الشذرة: «تراثك يُخصِّبك، وتراث غيرك يعقِّمك!». ومن يشكك فيما قلتُه وعايشتُه وأنتجتُه، فعليه أن يخوض «التجربة» بنفسه، ولعله إذ ذاك أن يشاركنا نتائجها، أياً كانت، داعمة أو داحضة، فنحن بحاجة إلى التناقد الصادق المسوؤل لكي نتقدم، ولهذا فإنني بكل المحبة، أقول للأصدقاء من المفكرين والمثقفين والباحثين والكتّاب: أقبلوا ما قد قرأتم أو ردوا عليه بالتحليل والبرهان والشواهد، فقد أضنانا والله التيه، وأمضّنا الجمود، وأذلنا كثيراً الضعف، ورحم الله امرأ التمس لنا طريقنا قاصداً للنهوض من جديد. والله أعلم وأحكم.
واقرأ أيضا:
مبادرة كبرى لتعليم اللغة العربية / هل التعليم العام لا يزال حيا؟