مثل كثير من أبناء جيلي أعاني ولعًا مزمنًا بالكاتب البريطاني "سومرست موم" الذي كان العثور على رواية لم أقرأها حدثا يستحق الاحتفال به لما يتمتع به من أسلوب مشوق وفهم عميق للضعف الإنساني، وحاول الناقد الكبير رشاد رشدي كل ما في وسعه ليصرفنا عن حبه -بدعوى أنه لا يتبع قواعد القصة القصيرة- لكني -بصراحة- ظللت محبا لكتاباته مقبلا عليها وتعلمت على يديه الدرس الأول، وهو أن يكون هدف الكاتب هو القارئ العادي وليس الناقد المتخصص الذي لن يستطيع إرضاءه في كل الأحوال. ولأني أنتمي بذوقي ووجداني إلى الماضي الجميل فقد شعرت بالأسف من جهل الأجيال الجديدة به ففكرت في القيام بعرض روايته "الخطيئة السابعة".
جميلة وحمقاء
"كيتي" هي الشخصية الرئيسية في هذه الرواية، مجرد فتاة حمقاء، تافهة العقل، سطحية التفكير لا تهتم إلا بالمراقصة والمسرح والتنس، لكن هذا لم يمنع دكتور "وولتر لفين" من الوقوع في غرامها رغم نضجه وقوة شخصيته وعمله الدءوب كباحث بكتريولوجي في مستعمرات إنجلترا بهونج كونج.
لم يكن من الطراز الذي يروق للنساء بصمته الطويل وعدم قدرته على الإطراء وبالتأكيد لا يرضي طموحها خصوصا وقد ملأت أمها رأسها بأنها -بسبب جمالها الباهر- ستتزوج حتما من شاب عريق المحتد، رفيع المكانة، مرموق المركز، لكن السنين مضت بها حتى بلغت 27 دون أن تظفر بالعريس المأمول حتى فوجئت بخطبة أختها الكبرى -متواضعة الجمال- من لورد شاب، وتجنبا للإحراج فقد قبلت -على غير رغبة منها- بعرض دكتور وولتر لفين بالزواج على أمل السفر معه فورا للمستعمرات الصينية لتتهرب من حضور زفاف أختها الكبرى.
نذالة العشيق
كان زوجها الصموت المعذب يعرف بخيانتها ولكنه لم يواجهها مباشرة بذلك وإنما أخبرها -في تحفظ- أنه تطوع بالعمل كطبيب في مدينة موبوءة بالكوليرا، وفهمت أنه يريد أن يتخلص من عذابه بالانتحار غير المباشر، لكن المفاجأة أنه طلب منها الذهاب معه وإلا فإنه سيتخذ الإجراءات القانونية لإثبات جريمة الزنا.
كان صوته قاسيا هي التي لم تألف منه غير أعذب الحديث وأرقه. صارحته وهي تبكي أنها تحب عشيقها من جماع قلبها وهي شديدة الثقة أنه يتمنى طلاق زوجته ليتزوجها. لم يفقد زوجها أعصابه -على الطريقة الإنجليزية الباردة- وكان سخيا في عرضه: إذا تعهد "تاونسند" بالطلاق من زوجته والزواج بها فإنه على استعداد أن يتركها تطلب الطلاق منه دون ضجة أو فضيحة، وحينما واجهت عرضه الكريم بالامتنان انفجر في ضحك مؤلم وقال إنها غبية حمقاء لا تفهم معادن الرجال.
وبالفعل تحققت نبوءته، لقد تنصل العشيق منها كما يحدث في أمثال هذه المواقف، يصعب على الرجل أن يحترم خائنة، والحقيقة أنه بالفعل يحب زوجته، وفكرة طلاقها لم تكن واردة بالنسبة إليه، هذا ما اكتشفته "كيتي" بنفسها بعد مواجهة فاصلة مؤلمة مع عشيقها المتمرس في أمثال هذه المواقف، راحت تستنجد بشهامته قائلة إن زوجها سيأخذها معه لتموت في المدينة الموبوءة، لكنه قال في بساطة إنها تبالغ في تجسيم الخطر والمهم ألا تأكل شيئا إلا بعد أن يغلي على النار!!. وهكذا تبدت لكيتي حقيقته -التي يعرفها الجميع سواها- تافه أناني جبان لا يتردد في التضحية بها للنجاة بنفسه، كاذب مدع مغرور مخادع.. لكن المؤلم أنها لم تزل تحبه بكل ذرة في كيانها دون تحليل ولا تعليل.
وهكذا عادت لزوجها -وقد بلغت من الشقاء حدا جعلها ترحب بعرض هوانها عليه- تعلنه موافقتها على مرافقته للمدينة الموبوءة، وتكشفت لها مناطق مجهولة في شخصية زوجها بإرادته الحديدية ومقدرته العجيبة على الجلد والاحتمال حينما أراد لها أن تكتشف بنفسها حقيقة هذا العشيق.
سنن كونية
طيلة الرحلة كانت تبكي وأشد ما كان يؤلمها أنها لم تستطع قط انتزاع حب الخائن من قلبها وكانت جد متأهبة أن تترامى على صدره وتقبع بين أحضانه لو أشار إليها إشارة الرضا، وإنها لتشتاق إلى وجهه الملوح بحرارة الجو وفمه الدقيق وأسنانه البيضاء المنتظمة ونظراته المفعمة بالجاذبية التي تذيب روحها. كانت تعلم أن زوجها الصموت الغامض قد قرر عقابا لها فريدا من نوعه: الموت بالكوليرا، لقد تبخر الحب العظيم الذي كان يكنه لها تماما وبدا زاهدا فيها أشد الزهد وأحست بالرعدة حينما فكرت أن زوجها قد يكون مضطرب العقل إلى حد ما.
الخيانة الزوجية موجودة في كل مكان وزمان ولكنها لم تكن تمر بسهولة وإنما كانت تتسبب في تدمير إنسان وتغيير حياة. في المدينة الموبوءة كانت المأساة فوق كل تصور وراحت النعوش تتوالى والموت يحصد الجميع، وتبين لها معدن زوجها الأصيل -وكأنها تكتشفه لأول مرة- فقد راح يحارب الوباء بلا هوادة ويغامر بحياته عشرين مرة في اليوم الواحد، يعالج المرضى ويشرف على تطهير المدينة ويحاول تنقية مياه الشرب من الميكروبات دون أن يبالي -لحظة- بسلامته الشخصية حتى لهجت الألسنة بحمده، وحلفت الراهبات بحياته، وأعاد الثقة لحاكم المدينة بإمكانية إنقاذها من الوباء.
وبدأت تشعر ببطولته وتكف عن كرهه -لأن إنسانا مثله لا يمكن أن يكون موضع كراهية أحد- وتتعجب وهي تتأمل ملامحه الحادة التي تنم عن الحزم والعزيمة -ولا تخلو أيضا من الوسامة- لماذا لم تستطع أبدا أن تحبه؟. لقد تغيرت "كيتي" كثيرا وكان أشد ما يدمي قلبها أن يشقى مثل هذا الرجل العظيم بخيانة زوجة تافهة حمقاء مثلها. ولم تعد تطمع في غفرانه أو استعادة حبه بل أن يكون أقل شقاء وتعاسة لا أكثر.
شهيد الحب
كان يعلم عيوبها منذ اللحظة الأولى ولكنه أحبها ولم يستطع أن يسيطر على عواطفه أو يبتعد عن طريقها، كان مفتونا بها بصرف النظر عن مشاعرها نحوه ولهذا سعد حينما سمحت له بحبه، وبلغت سعادته ذروتها حينما وافقت على الزواج به.
لم يحاول أبدا أن يضايقها أو يثير ضجرها، وكان يبتعد عنها كلما أحس أنها تضيق بعواطفه، وكل ما هو من حقوق الرجل على زوجته كان يتقبله كمنحة وهبة؛ فلما صدمته خيانتها رفض أن يغفر لها ولنفسه. وفجأة تكتشف "كيتي" أنها حامل فيسألها زوجها -شاحبا- عما إذا كان هو الأب لكنها تأبي خداعه -وهو في مقدورها- وتقول إنها لا تدري، وتنهمر في البكاء وقد لاحظت مبلغ هزاله حتى إن ملابسه صارت متهدلة عليه وكأنها معلقة على مشجب.
ويصمم هو على إعادتها لهونج كونج خوفا على حياة الجنين ولأنها صارت أكثر عرضة للعدوى لكن النهاية جاءت أسرع، سقط زوجها صريعا بنفس الداء الذي أنقذ الآلاف منه، أسرعت إليه لتجده يحتضر شاحبا مغمض العينين فأدركت أنها فقدت الإنسان الوحيد الذي يعبأ بها في الحياة والهبة التي منحتها لها السماء، ولكنها في تلك اللحظة أبت أن تفكر في نفسها بقدر ما قررت أن تفكر فيه، لو أنه صارحها بصفحه وغفرانه لمات في سلام مع نفسه ومع الحياة.
انحنت عليه وهتفت قائلة بكل عواطفها:
- إنني أبتهل إليك لتصفح عني وتغفر لي، إنني نادمة على كل ما اقترفته في حقك من أخطاء، وسأظل طيلة حياتي أجتر هذا الندم من أجلك.
ولم يقل شيئا ولم يبد أنه يسمعها وخيل إليها أن روحه أخذت تنساب من جسمه، وأخيرا هتفت بكل ذرة من عواطفها بالكلمة التي لم تقلها أبدا: حين سمع الكلمة تقلص وجهه وظهر الاشمئزاز على ملامحه وانحدرت دمعتان على خديه، فهتفت وهي تنتحب:
- يا حبيبي.. يا أحب الناس إلي.. يا من سأعيش على ذكراه مدى الحياة.. إن كنت قد أحببتني حقا -وأنا أعرف أنك أحببتني رغم تفاهتي وسوقيتي وأخطائي وحماقتي- فاغفر لي وأصفح عني.. إن الله يغفر الذنوب لمن يشاء فكيف لا تغفر لي ذنبي مهما عظم.
واختلجت شفتاه وأدركت أنه يريد أن يقول شيئا، وبدا لها أنها لن تشعر بأية سعادة في الحياة ما لم تظفر بغفرانه وأن تجعله يمضي إلى العالم الآخر قرير العين مطمئن النفس. وتحركت شفتاه وقال في خفوت: دعوني أمضي في سلام.
ثم همد جسده تماما، ندت عن صدرها زفرة عميقة وانحدرت الدموع على وجنتيها، ثم انحنت وطبعت قبلة خفيفة على شفتيه.
ويبقى الأمل
والذي حدث لها بعدها كان مؤلما وصادما، لكنه ليس بالغريب عن عالم "سومرست موم" الأدبي الذي يتعامل مع الضعف البشري بواقعية وصراحة دون أن يغفل إمكانية تصحيحه.. لقد عادت كيتي إلى هونج كونج ليكون في استقبالها عشيقها السابق -بصفته الرسمية كنائب للحاكم- وزوجته العطوفة المشفقة التي أصرت على استضافتها في بيتها رغم محاولاتها المستميتة للرفض، وكما توقعت بدأ "تاونسند" يحاول إغواءها من جديد دون أن يعلم كم صارت تكرهه وتحتقره، حتى انفرد بها في غيبة زوجته فوجدت نفسها كالمنومة ترتعد بين ذراعيه مرة أخرى، وفيما يشبه الغيبوبة شاع الوهن في أوصالها وهيئ إليها أن عظامها بدأت تذوب أما حزنها على زوجها فقد تحول إلى رثاء لنفسها وقد أدركت أنها أشبه بعبد مفتون لا يملك أحد خلاصه. بعدها بدا راضيا عن نفسه وسألها:
- أما زلت تعتقدين أنني كلب قذر؟، فأطرقت برأسها، وقالت:
- نعم، ولكن لا أقل عنك قذارة.
وحينما انفردت بنفسها راحت ترمق وجهها في المرآة وتهتف في مرارة:
ثم أخفت وجهها وراحت تبكي بحرارة، إنها لا تدري ماذا دهاها!!، نزوة دنيئة من نزوات الغريزة.. إنه على حق في رفضه الزواج منها.. وهو على حق أن التي تخون زوجها مرة لا تتورع عن خيانة عشيقها بعد الزواج مرات.. بل إن البغي أشرف منها لأنها تبيع جسدها من أجل لقمة العيش، أما هي التي حسبت نفسها قوية مسيطرة على نزواتها فهي أسوأ من البغي، للأسف لم تتحرر من جاذبيته الجنسية، إنها ضعيفة ضعيفة، لا فائدة منها ولا رجاء.
وبرغم الخطيئة يبقى الأمل في التصحيح.
في الصباح التالي كانت قد اتخذت قرارها بمغادرة عالمها الملوث فورا والعودة إلى بريطانيا وقد عقدت عزمها أن تفعل كل شيء من أجل استرداد احترامها لنفسها والانطلاق إلى الجانب الجميل من الحياة الخالي من القشور، وتصمم أن تكرس حياتها لجنينها التي تتمنى أن يكون أنثى لتربيها تربية فاضلة بعيدة عن الأخطاء التي ارتكبتها، بعيدة عن الخطيئة السابعة المدمرة لكل سعادة في حياة.. لتجعل منها أنموذجا للزوجة الفاضلة الجديرة بحب زوجها وتضحياته وتنعم بالكرامة والأمن والسلام.
واقرأ أيضا:
أحمــد.. ومنى / هذا هو الرجل العاقل