كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحا حين وصل د.محمود – ذلك العشريني – صاحب الملامح الجادة إلى العيادة الخارجية في مستشفى الصحة النفسية بالعباسية، كعادته يحمل حقيبته الجلد التي تعج بتقارير وكتب طبية تئنّ مما تعانيه من الازدحام داخل تلك الحقيبة، لكنه لا يبالى فالحقيبة تمنحه نصف شعوره بالثقة بالنفس وتمنحه نظارته الطبية المميزة النصف الآخر، أخذ يشق طريقه بصعوبة وسط الحشود العشوائية التي كانت تعج بها ردهة المشفى، هو متوسط القامة نحيل البدن يميل إلى السمرة ولا تميزه عن غيره في شيء سوى بنظارة طبية أنيقة يضغطها على أنفه بسبّابته في حركة عصبية تلقائية كلما توتر بسبب الزحام أو لأي سبب آخر وحين اقترب من الباب رسم ابتسامة مصطنعة ليُحيي مس زينب –ممرضة العيادة- ضخمة الجثة دائمة التجهم والتي لم تبذل مجهودا يُذكر كي تبسط وجهها لتبادله التحية كأنها تخشى أن يعايرها الناس إن تبسمت عن طريق الخطأ!!
كانت هيئة زينب وصوتها المجلجل الذي يزلزل أرجاء المشفى كفيلان بردع تلك الحشود التي تحاول عادة اقتحام العيادة لتسبق غيرها في الكشف، ألقى د.محمود حقيبته على مكتبه ليتفرغ لتحية طبيبين شابين استلما العمل اليوم في العيادة ليتدربا على يديه، عرفّا نفسهما هيثم وشريف، هيثم يميل إلى الشقرة والوسامة بينما يميل زميله إلى البدانة والقصر، لجأ شريف إلى تصفح مواقع التواصل الاجتماعي في هاتفه لقتل الملل بعد ما أمضى الوقت الطويل في انتظار وصول د.محمود، بينما تصفح هيثم كتابا طبيا عن مرض الفصام وحين دخل د.محمود نحّى كل منهما ما بيده وأقبل بجدية للترحيب بمحمود والذي أخذ يدردش معهما عن سنة تخرجهما، وسنوات الدراسة وسر اختيار كل منهما لتخصص الطب النفسي، في حين انشغلت مس زينب بمتابعة الثلاثة في ضيق وتبرم ثم صاحت فجأة بصبر نافذ وصوت جهوري: د.محمود لا وقت للأحاديث فكما ترى الردهة تعج بالناس وقد يقتحمون الغرفة ويضربوننا جميعا، حين يسمعون صوت الضحك والنكات.
تبادل الشابان النظرات المستنكرة لجرأة مس زينب على مخاطبة د.محمود على هذا النحو، بينما تنحنح د.محمود في حرج ثم أشار لمس زينب كي تنادي اسم أول مريض في القائمة في حين نظرا هيثم وشريف نحو محمود بخيبة أمل تلميذ كان يبجّل أستاذه قبل أن يشاهد أحد الطلاب يصفعه للتو!!
زينب بصوتها الجهوري: آية سيد محمود، أخذت زينب تردد الاسم ثلاث مرات حتى انشقت الأرض فجأة عن فتاة سمراء تبدو في الثامنة عشر ويبدو من ملابسها رقّة حالها، كانت تتوارى خلف شاب ثلاثيني يرتدي جلبابا رثا، يشكو لله حاله وقد أخذ الشاب يجرّها لتدخل معه بينما ظلت ترتجف وقد تشبثت بظهره وبدأت تختلس النظر نحو الجالسين في رعب وأخذت تتوسل إلى ذلك الشاب قائلة: إني آسفة، خذني إلى المنزل ولن أزعجك مرة أخرى فقط خذني من هنا.
سأله محمود: ومن تكون؟
الشاب في أسف: أنا زوجها، بل كنت زوجها فقد طلقتها منذ أسبوع.
رفع محمود حاجبه في اندههاش: وما الأمر إذن؟
بدأ الشاب في سرد حكايته منكّس الرأس: لقد تزوجتها منذ عامين وقد روت لي الكثير عن المعاملة السيئة على يد والدها وزوجته، حتى أن زوجة أبيها قد لسعتها بالمكواة عدة مرات على مرأى ومسمع من الأب الذي لم يحرك ساكنا ثم نهض الشاب وكشف عن جزء من ذراع الفتاة والذي بدا عليه آثار اللسع، ثم نظر نحوها بأسى وحزن وأردف قائلا: لقد عاشت المسكينة طفولة مروعة وتعذبت كثيرا ولكن ما ذنبي أنا وطفلي الرضيع لندفع الثمن؟، لقد فوجئت بها تحاول خنقه منذ أسبوعين وحين عاتبتها ادعّت أنني كاذب وأنها لم تفعل شيئا ثم باعت كل أثاث شقة الزوجية واختفت عدة أيام وعادت لتتوسل لي كي أسامحها، لقد طلقتها بعدما فاض بي الكيل. ثم هتف في ضيق: من قد يحتمل ما احتملته أنا؟ لا شأن لي بها منذ الآن سأدعها لأبيها الذي ينتظر بالخارج، دخل فجأة رجل أسمر في الخمسينات تكاد تشبه ملامحه ملامح الفتاة، فعلم الجميع أنه أبيها، وحين رآه الزوج أسرع في الخروج من غرفة الفحص في حين ارتمى الأب على الكرسي الذي تركه الزوج لتوه، أخذت الفتاة ترتجف وترتعش ثم أجهشت في البكاء.
د. محمود: أنت والدها؟
هز الرجل رأسه بالموافقة دون أن ينطق بكلمة.
د.محمود: لقد تسببت لها في أذى بالغ ويبدو أنها مصابة بداء الفصام، لقد عانت كثيرا منك أنت وزوجتك والآن يجب أن أحجزها في عنبر الحريم لتظل تحت الملاحظة الطبية لبعض الوقت، وستتحسن حالتها مع بدء العلاج ولكن حين تخرج سيكون عليك التكفير عن ذنبك في حقها.
ظل الرجل صامتا طوال الوقت، ثم هز رأسه موافقة وخرج من غرفة الفحص تاركا ابنته ترتعش من الخوف.
طلب د. محمود من مس زينب الرابضة بجوار الباب والتي لم تفوت فائتة من الحوار، وتفاعلت معه بمصمصة الشفاه أن تستدعي الزوج وممرضة أخرى ليأخذوا الفتاة إلى عنبر الحريم.
تشبثت الفتاة بالزوج كرضيع يتشبث بأمه كي لا تفارقه فسحبها الزوج بالقوة مع الممرضة إلى الخارج.
وهنا انفجرت مس زينب: انظروا لهذا الزوج القاسي، لقد تزوجها وهو يعلم بمعاناتها وها هو يتخلص منها بدلا من أن يقف إلى جوارها، من لتلك المسكينة؟!!
هتف دهيثم في اندفاع: بل اللوم كله يقع على عاتق زوجة الأب القاسية التي ظلت تعذبها دون أن تخشى الله في يتيمة مثلها.
نظروا جميعا نحو شريف الذي تثاءب ولم ينطق بكلمة واحدة وحين استشعر الحرج قال بصوت خافت: أراهم جميعا مذنبين، فما كان للأب أن يسمح لزوجته بتعذيب تلك الفتاة المسكينة وما كان للزوج أن يتخلى عنها بتلك الطريقة.
قاطعهم محمود الذي تحدث بنبرة هادئة: الدرس الأول لكما، لا ينبغي علينا أن نصدر أية أحكام على المرضى أو ذويهم، كل ما علينا فعله هو تقديم يد العون لمرضانا متى طلبوا منا ذلك فنحن لانعلم بما مروا به لنحكم عليهم.
وفي غفلة من مس زينب اقتحم فجأة غرفة الفحص شاب ثلاثيني فارع الطول ذو شارب عريض أخذ يترنح وينظر نحو الجميع بنظرات زائغة ثم ارتمى فجأة على كرسي خال وأجهش بالبكاء بطريقة درامية فأشار د.محمود لمس زينب المتحفزة لطرده بأن تنتظر، ففعلت واكتفت بالتحديق نحوه بنظرات نارية وحين توقف الشاب عن البكاء سأله محمود في رفق: ما الأمر إذن؟
هتف الشاب بصوت متهدج: الخائنة تركتني بعدما منحتها المال والحب وكل شيء ثم توقف عن الحديث وأخذ يلتقط أنفاسه المتلاحقة.
د.محمود بهدوء: ومن هي؟
الشاب وقد مسح دموعه: زوجتي، بل زوجتي السابقة فقد غادرت المنزل وطلبت مني الطلاق منذ شهر حين ساءت أحوالي المالية وضاعت ثروتي، لم تقف إلى جواري كأي زوجة أصيلة رغم ما كانت تدّعيه من الحب حين كنت ثريا، ليتها تموت، اللعنة عليها وعلى كل النساء ثم صرخ في هيستيريا، لا بل ليتها تعود فأنا أعشقها، أعشقها حد الجنون.
لفت نظر د.محمود حركة غريبة صادرة من د. هيثم إلى جواره والذي أخذ يفرك يديه في عصبية ظاهرة ثم أخذ يتلفت عن يمينه وشماله، إلا إن محمود غض الطرف وأكمل حديثه إلى الشاب.
محمود بنبرة ودودة: لكننا لم نتعرف حتى الآن، أنا محمود فما هو اسمك؟
الشاب بصوت خافت: حسين، حسين صبري.
د.محمود في لطف: بإمكانك أن تعدّني صديقا لك منذ الآن ثم مال بجسمه تجاه الشاب، أريدك أن تصدقني القول: هل تتعاطي المخدرات؟
- هز الشاب رأسه بالموافقة قائلا: أتعاطي الأفيون
أردف دمحمود: وهل ترغب في التوقف؟ بإمكاني مساعدتك إن لم تمانع.
هاج الشاب فجأة وصاح: لا أريد التوقف ولا أريد مساعدتك، اللعنة عليكم جميعا ثم كف عن صياحه وقال بنبرة متوسلة: آسف بل أريد مساعدتك أتوسل إليك أن تساعدني وفجأة أخرج شفرة حادة من جيبه وقطع بها شرايين رسغه الأيمن وسط صدمة الحاضرين، فصرخ محمود مناديا حارس الأمن الذي استدعى على الفور عربة إسعاف ونقلت ذلك الشاب على الفور.
وحينها ألقى هيثم برأسه على المكتب وأجهش بالبكاء فطلب د.محمود من الحاضرين جميعا مغادرة الغرفة وحين توقف هيثم واسترخى، خاطبه د.محمود بنبرة حانية: يبدو لي أن الأمر يتخطى مجرد تعاطف إنساني مع ذلك الشاب، إنني على استعداد للمساعدة إن شئت أن تتحدث.
رفع هيثم رأسه ومسح دموعه ثم كشف عن رسغه الأيسر فلمح د.محمود جرحا بعرض الرسغ كله ثم نظر إلى هيثم في شفقة وربّت على كتفه وقال يبدو أنك قد مررت بتجربة مماثلة.
هز هيثم رأسه قائلا في أسي: مر شهر واحد فقط على ذلك الأمر، كانت زميلتي في الكلية وكنت على وشك خطبتها وفجأة ظهر ذلك الثري، فابتعدتْ دون إبداء أي سبب وتركتني أتالم وحدي، وكانت المفاجأة حين علمت بخطبتها، فلم أحتمل الصدمة وقررت إنهاء حياتي، فلا يوجد في ذلك العالم ماهو أقسي من خيانة الشخص الذي منحته قلبك وأخلصت له، أليس كذلك يا دكتور؟
ربّت د.محمود على كتفه قائلا: أمامك المستقبل كله ياهيثم وحتما ستلتقي من تستحق أن تمنحها قلبك الثمين وأما الماضي فلابد له من قبر يُدفن فيه دون أن نكلف أنفسنا عناء زيارته، نمرّ جميعنا بلحظات عصيبة ومؤلمة، قد تتبدل أحوالنا بعدها، فهناك من يتحطم للأبد وهناك من يزداد قوة ويبدو لي أنك اتجهت إلى الخيار الثاني وازددتَ قوة وصلابة بدليل وجودك هنا الآن، ابتسم هيثم نحوه وأشرق وجهه قليلا، فبادره محمود: يسعدني أن نصبح أصدقاء منذ الآن يا هيثم.
عانقه هيثم أجابه هيثم: بل يسعدني أنا يا دكتور.
واقرأ أيضا:
رفات حبك / لمـاذا؟!