رن المنبه الموضوع على المنضدة بنبرة منخفضة ورويداً رويداً تعالى صوته إلى أن أصبح شديد الإزعاج موتراً للأعصاب، امتدت أناملها إليه وأخرسته بحركة سريعة خوفاً من أن يوقظ صوته المزعج أهل المنزل، لم تشأ النهوض من سريرها فالشمس لم تشرق بعد ولكن ما باليد حيلة، فركت عينيها ووثبت من سريرها بحركة سريعة أعادت النشاط لجسدها المنهك. توجهت إلى المطبخ لتشرع في عملها اليومي، وبدأت في تنظيف الأرضية بسرعة فلا زال لديها الكثير من الأعمال الواجب إنجازها قبل أن تستيقظ سيدتها. تراءى لها وجه طفلها الضاحك منعكساً على الأرضية اللامعة، ولكنها سرعان ما طردت الصورة من تفكيرها فآخر ما تريده هو البكاء الآن.
كان هذا حالها كلما تذكرت طفلها الذي تركته منذ سنة في حضانة أمها بعدما طلقها زوجها وتركها تجابه قسوة الحياة وحدها بلا معيل أو حرفة تعينها. بين ليلة وضحاها أصبحت ملزمة بالعمل لتطعم طفلها وتطعم نفسها. جربت كل الأعمال من فلاحة وخياطة و...و... و...، ولكن لم يكفها أي من الرواتب التي تقاضتها في بلدها ليسد رمقها وابنها. وفي النهاية لم تجد بداً من السفر إلى إحدى دول النفط التي سمعت عنها روايات كثيرة من صديقاتها العائدات من هناك. دلتها إحداهن على الرجل الذي أحضر لها تأشيرة العمل، وذهبت من فورها إليه. كان رجلاً خمسينيًّا، غزى الشيب الشعيرات القليلة المتبقية في رأسه، ولكن الشيب لم يستطع التغلب على نظراته الطامعة بكل امرأة تدخل مكتبه.
امتلأ مكتبه بنساء مثلها "هدتهم" ظروف الحياة ولم يجدوا ملجأً آخر لهم، أحست لوهلة بأن هذا المكتب أشبه ما يكون بسوق نخاسة بمسمى جديد.
أتى دورها للتحدث مع صاحب المكتب، نظر إليها مليًّا ثم طلب منها تعبئة بعض الأوراق، كما طلب منها صورة لها وصورة لجواز سفرها. كانت رائحة التبغ تخرج من فمه مع كل كلمة يتفوه بها تشعرها بالإعياء، ولكنها تمالكت نفسها وفعلت كل ما طلبه منها، فإذا به يطلب منها مبلغاً من المال بدا لها كبيراً جدًّا ولكن لم يكن لديها خيار. (ما حيلة المحتاج أمام من يستغل حاجته؟) دار ذلك في خلدها وهي تبيع أثاثها وكل ما وقعت عليه يداها من متاع.
بعد عدة أسابيع ودعت والدتها وابنها بكثير من الأسى ونهر من الدموع. تركت موطنها بعبق هوائه وصفاء سمائه، تركت أمها وإخوتها، بل تركت فلذة كبدها وأي حزن يوازي حزنها على فرقاه.
انتبهت فجأة على صوت بكاء ابن مخدوميها، فهرعت إليه واحتضنته بين ذراعيها بمنتهى الحنان. كان هذا الطفل الوحيد حالياً لمخدوميها حيث إن سيدتها حامل في شهورها الأخيرة، وكان هذا الطفل هو عزاء الخادمة الوحيد في غربتها عن طفلها. كانت تحتضنه كلما تسلل الحنين إلى قلبها، وتقبله كلما لاح طيف ابنها في خيالها. لم تدري كم من الوقت مر عليها وهي تداعب الصغير إلى أن استيقظت أمه ورأتها جالسة على طرف سريره فصرخت بوجهها وأمرتها بتحضير الفطور لسيدها. لطالما أحست بأن سيدتها تغار منها على ابنها فلقد أضحى الطفل متعلقاً بها كثيراً ولا ينام إلا في حضنها بعد أن تغني له أغنيات تعبق برائحة موطنها.
أعدت الإفطار سريعاً وجهزت المائدة بينما جلس سيدها وسيدتها إلى المائدة. أمسكت إبريق الشاي وهمت بأن تصب فنجان شاي لسيدها وإذ بالإبريق ينزلق ويتهشم إلى مئات القطع على أرضية الغرفة. أصيبت بالهلع وانتظرت تعنيفاً من سيدها ولكنه فاجأها بابتسامة وقال لها بلطف: لا عليك، لم يكن ذنبك. (ليسا بهذا السوء) فكرت في ذلك وهي تجمع قطع الزجاج من على الأرضية، فسيدها ودود جدًّا ولم يكن يعنفها أبداً، أما سيدتها فكانت تسمح لها بأن تأكل ما تريد وكانت تعطيها من ملابسها وأحذيتها ولو لم تكن تغار منها على طفلها لما نهرتها يوماً. محظوظة هي مقارنة بخادمة الجيران، فالأخيرة كانت تشكي دوماً من المعاملة السيئة التي تلقاها كلما شاهدتها على سطح الجيران أثناء نشر الغسيل. شكت لها تلك الخادمة كثيراً من العنف الذي تبدو آثاره واضحة على وجهها، كما شكت لها حرمانها أياماً طويلة من العشاء وكثرة الصراخ والشتائم التي تتلقاها. (محظوظة! ربما، ولكني أموت اشتياقاً لولدي) تذكرت ابنها وفاضت عيناها بالدموع حتى بدا لها وكأنها تنظر من خلال سحابة بيضاء تغلف عينيها من كثرة الدموع التي اجتاحت مقلتيها.
ذهب سيدها إلى عمله وجلست سيدتها مع طفلها أمام التلفاز، بينما تابعت هي تنظيف المنزل، سمعت صوت قهقهة الصغير كلحن عذب يداعب أذنيها فاسترقت النظر على سيدتها وهي تلاعب ابنها بحنان الأم. كانت تقبله وتربت على رأسه بحنو بالغ، ثم مرغت رأسها في بطنه مدغدغة إياه لتنطلق ضحكاته في جنبات المنزل. أحست الخادمة بحرقة شديدة في قلبها ودوار في رأسها. آهٍ كم تشتاق لممارسة أمومتها وكم تشعر بالأسى على طفلها الذي حُرم وجود أمه بجواره. تبعد عنه آلاف الأميال وتفصلها عنه جبال وصحاري ومحيطات، هل كتب عليها أن تعيش العمر كله بعيدة عنه؟ هل سيكبر ابنها ويتغير شكله فلا تستطيع التعرف عليه؟ أم هل ستموت وحيدة في الغربة تناجي أمومتها المكلومة؟
في ذلك المساء كتبت لأمها رسالة توصيها فيها بابنها وتطلب منها أن ترسل لها صورة كبيرة له لتعلقها على جدار غرفتها الصغيرة. طوت الرسالة بعناية ووضعتها في الظرف مرفقة بحوالة مصرفية. نامت ليلتها هانئة تحلم بالملابس الجديدة التي ستشتريها أمها لطفلها، كما تخيلت الألعاب الجميلة التي سيطير بها ابنها فرحاً.
في الأسبوع التالي، دخل سيدها عليها بينما كانت تنظف غرفة الجلوس حاملاً بيده مظروفا، تعرفت على الطوابع التي يحملها الظرف فوراً وركضت إلى غرفتها لتقرأ أخبار أحبائها. فتحته على عجل، وفضت الورقة لتجد بضعة سطور مقتضبة من أختها تخبرها فيها أن طفلها مريض جدًّا وقد نقلوه إلى المستشفى ليجدوا أنه مصاب بالملاريا المنتشرة في ربوع وطنها.
جمدت في مكانها لحظات تحاول إعادة قراءة الرسالة عسى أن تكون فهمت المقصود خطأً ولكن بلا جدوى فالرسالة واضحة وضوح الشمس.
(طفلي مريض جدًّا أرجوك أحتاج لإجازة لأراه) خرجت الكلمات من فمها متحشرجة وهي تستعطف سيدها، ولكنه رفض رفضاً قاطعاً متعللاً بحمل زوجته وحاجتها الآن لمن يساعدها، وأنها تحتاج لبعض الوقت لتجد خادمة أخرى... (تستطيعين الاتصال بابنك على حسابي لتطمئني كما أنني سأرسل له بعض المال ليتعالج في أحسن المستشفيات، فقط انتظري بضعة شهور حتى تضع زوجتي مولودها، وأجد لها خادمة أخرى ثم سافري كما تريدين)، عقب سيدها بذلك بعدما توسلت إليه كثيراً أن يدعها تسافر في اليوم التالي، ولكنها أحست بأنه لن يفهمها أبداً فقد قدم مصلحته على أي شيء آخر، تمالكت نفسها وتمسكت برباطة جأشها وهي تقول: حسناً سأتصل به غداً.
دلفت إلى غرفتها في تلك الليلة، وجلست تراقب الساعة بهدوء بينما بدا عليها علامات التفكير العميق، بعد منتصف الليل تسللت إلى الباب الخارجي حاملة حقيبة صغيرة تحوي متاعها وأغلقت الباب وراءها بهدوء.
واقرأ أيضا:
5 قصص قصيرة جدًّا / قضية ذاتي