أيُّّها القويُّ الفتيُّ ما أصابَكَ؟ ما الذي ذبَحَ عينيكَ وكيفَ هُزمَ جَبينكَ؟
كُنتَ حصاناً طليقاً واليومَ يَلهو على ظَهرِكَ الصِّبيانُ. فهل سَلوتَ أمسَكَ، يومَ كنتَ َ تتزَودُ بِما تَسقيهِ الغَمَامُ العَليَّةُ؟... لَم تَنسَكَ الرِّمَالُ يَومَ كُنتَ تَلعَبُ مُهراً وَكَم أعجَبتَ زَهرَ الصَّحَاري يَومَ صِرتَ جَامِحاً وجَميلاً.
اعتادَ مُهرُ الأمس ِشُموخَ الشَّمس ِ واستَقى مِن مَطلَع ِ النُجوم ِالعَزَّ وتَعَلَّم مِن رَحِبِ الفَضَاءِ دَرسَ الحُرِّيةِ. ولِذا... فإنهُ يَومَ أسِرَ ثارَ. سُجِنَ والنَّفسُ طَليقَة ٌفَلم يَكسِرها فارسٌ من الفُرسان ِ وكَم أسقَطَهُم دُمَى عَن ظَهرِهِ ورَفضَ السَّرجَ واللجَام. ظَلَّ الحِصانُ يَشربُ مِن مَاءِ السَّمَاءِ، لكن من خَلفِ عُلوِّ الأسياج ِ الجَديدةِ. وذَاعَ بينَ النَّاس ِخَبَرُهُ... فَجَاؤُوا ليَشهَدُوا غَضََبَهُ.
مَضَى زَمَنٌ وصَاحِبُ الحَظيرَةِ صَابرٌ... لعل الثائرَ يَهدأُ، وأعلنَ جَائزَةً لِمَن يُحسِنُ تَرويضَهُ حَتى كادَ اليأسُ مِن ذَلكَ يَرجَحُ ... فَلما يُرهِق ذَاكَ الأبِيُّ تَعَبُ الغُربَةِ ولا يَدُ الجُوع ِ ولا غَوَتهُ الخَيلُ المُدَرَّبَةُ بتَدليلِ أسيادِها من حَولِهِ. وظلت نَفسُهُ مُعَلقَةً بعطرِ نَسَائم ِالبَرِّيَةِ ذَاكرَةً "العزِّ الزَكيِّ" والحُرِّيَة.
مَا الذي حَدثَ إذَن؟ ما الذي أبدلَ صَهيلكَ صَمتاً؟ يا ليتكَ تُكلِّمُنا فقد هَزَّتنا هَزيمَتُكَ.
يُروى أنه في ليلةٍ عَتماءَ حَضَرَ رَجُلٌ في عَباءَةٍ مُزخرفةٍ مِن خَلفِ السُورِ ثم جَلسَ وبهدوءٍ قال:
"أيُّها الحِصانُ ما أحسَنكَ... ما أشجَعكَ، أنتَ وحدكَ هُنا والخَيلُ تستدفِئُ ببَعضِها في الحَظيرَةِ".
"أنا وَحدي أعرِفُ قَدرَكَ، أفهَمُكَ وأدرِكُ جَرأتكَ، دَعني إذَن أمُد يَدي إليكَ... دَعني ألمَسُ شَعرَكَ الغَريرَ وخُذ مِن يَدي هذا (السُكَرَ)"
نَفَرَ الحِصانُ وكأنَّهُ استقبَحَ أن يَأكُلَ مِن َيدِ بَشَرٍ. فابتسمَ الرَجُلُ وظلَّ في الجوارِ يَنظُرُ حتى انقضَى أولُ ليلٍ. بَعدَها أمسَت زيارَتُهُ بطُولِ الليلِ بادِئَةً مَعَ كل غُرُوبٍ. وأخَذ َيُحَدِّثُ ويَمدَحُ ويَتقرَبُ حتى استألفهُ الحِصانُ الذي صَارَ يَرقُبُ مَجيئَ مُؤنِسهِ.
مَرَّت على هذا الأيامُ حتى غَابَ صَاحبُ العَباءَةِ ليلةً ثمَّ غَابَ اثنتين وعَادَ مُسَائلاً:
"هَل استفقدتني يا صَاحِبي... هَل أحزَنكَ بُعدِي؟ أمَّا أنا فمِن بُعدِكَ تعِبتُ... فهل تدَعُني أدفِئُ يَدي عَلى صَدرِكَ فقد نَسيتُ عَباءَتي والليلُ يا صَاحبي بَردُ"
بهذا ترَكَ الحِصانُ اليَدَ المُرتجفَة َعلى رَأسِه ترتاحُ... وكانت هَذه الأولى.
تتابَعَت ليالٍ كُثرٌ عَلى تِلكَ الحَالِ، حتى جَاءَ الرَجُلُ يَوماً وقالَ: "يا صَديقي، يا أحسَنَ جَوادٍ.. ألا تُريدُ أن تلبَسَ ما يَليقُ بكَ؟ لقد جَلبتُ لكَ أجمَلَ سَرج ٍ ولِجاماًً فضياًّ، ألا فجَرِبهُ قليلاً"
غَضِبَ الحِصانُ لرُؤيَةِ السَرج ِوهَبَّت فِيهِ رُوحُ المُرُوج ِوعَادَتهُ ذِكرى الرِّحَابِ الفَسيحَة، فثارَ... إلا أنَّ ثورَتهُ لم تكُن بنَفس ِتأجُج ِالماضي. ومَرَّت ليالٍ من الحيرَةِ مُضنيَاتٍ طِوالٍ... زَارَهُ فيها أبو العَباءَة السَودَاءِ بالسرج ِ مُتجَرِئً وموقِناً بالنجَاحِ.
فجاءَ يومٌ هُزِمَت فيه نُفُوسٌ وطلعَ فجرٌ مُظلمٌ عَبوسٌ، اشتكًَت الرَّيحُ، وبَكتِ السَّماءُ ولو دَرَت، لكانت انشَقت لحظةَ ارتِضاءِ الحِصانِ يَدَ الرَجُلِ على رَأسِهِ أولَ مَرَّةٍ.
"إن من يتراجَعُ في أمرٍ مَبدئيٍّ يُستدرَجُ وتَستَجرِئُ عليهِ الدُنيا ويُهزَمُ فيما هو أكبرُ ويُصيبُه الهَوانُ".
واقرأ أيضا:
على هامش منظومة السحق!! / الوظيفة.. ظل الرئيس!!