مشط شعره بيده؛ إذ لم يكن لديه مشط، وقال لنفسه: تبدو جيدا... هبط السلم الحديدي يغمره شعور بالازدراء للطبيعة والأشجار.
... بدا مكتئبا... لكنه تصنع المرح وهو يركب الأتوبيس العمومي.
قابلته عينان قاسيتان... تدوران في محجرهما كرغيف محروق... تمتم تحية الصباح بلكنة ذليلة، لم ترد العينان... حدق فيهما بلا معنى، ثم انتزع مقلتيه وغرسهما ببطء في جسد فتاة ناعمة مثل قبلة، جميلة ذات شعر قصير... وهو يحب الشعر القصير... يرى فيه شيئا من الولدنة... وهو يحب الأولاد الصغار المرحين... الأشقياء المتعبين.
وراحت عيناه تتجولان بتعب نهم بين تضاريس الجسد المنثنية بإغراء ملتصق بالمقعد المهتز بتمايل مثير.
ذكره تمايل المقعد بمقعد الطفولة في مدرسته الابتدائية... مقعد صغير جميل يتسع لشخصين، كتب عليه أسماء البلدان التي حلم بالذهاب إليها بخط طفولي متعرج... تزينه رسومات لأشجار وورود كبيرة، كبر البيت... كان مقعدا خشبيا مصقولا بعناية وجميلا... وأيضا مهتزا... يتأرجح للأمام والخلف بخفه تغوي الأطفال، تذكر طفلا، جميلا صغيرا، ينظر بوجل لوجه الأستاذ الدائري الكريه... أسنان منخورة صفراء... عينان خشنتان محدقتان، صوت أبح قاس، مسلط عليه، الطفل الرقيق يجد نفسه يتضاءل وينكمش.
قال له الأستاذ لا تتأرجح مثل عاهرة في ملهى، كان صغيرا جدا ولم يعرف ما هو الملهى أبدا، حاول أن يسأل أمه ولكنها أخذته بحنكة إلى جانب الغرفة وأعطته عشرة قروش وقالت اشتر لك شيبسا... وذهب واشترى شيبسا وأكله... ولكنه عاد يسأل عن الملهى وعن العاهرة.
آه يا روان لو تعرفين كم أمضيت في الملاهي، وكم ارتعشت مثل ورقة مبتلة تعربد بها الريح في شارع مسدود قذر.
لو تعلمين كم أدمنت الإخلاص لعينيك والوقوف بباب الصبر أياما وأحلاما مبعثرة، مجنونة، بحرقة من يحاول الانتحار.
كم أهنت واعتدت الاستبداد والضياع في شوارع المدينة ليلا والتدخين في الحمامات.
كم سقطت مصروعا وسط الناس الحمقى الذين اعتادوا إيلامي ونعتي بالمدمن ومعتاد السكر.
ولكني أقسمت لهم بأني لم أسكر إلا بعينيك، وتساءلت بمرح لماذا يتغزل العرب بعيون حبيباتهم على الدوام.
تذكرين يوم رأونا معا، قال الأستاذ: ها أنت تتأرجح مع عاهرة وتدخن في الحمام سأخبر (أبوك).
قلت لك: لقد جلسنا على خازوق كبير وجميل.
وأضفت: ونافذ..!
وضحكنا كثيرا حول النفاذ.
ولم أضحك أبدا حين دفع أبي الخازوق حتى رئتي، كان حادا وباردا، وسمعت ضحكة لا أعرف من أين أتت.
يومها تشردقت بالدم، تقيأت طعامي وبقيت جائعا.
ومنذ ذلك اليوم لم أشبع يا صديقتي الوحيدة الحزينة، بحثت عنك... وعن شيء آكله طويلا، طويلا جدا... ولم أجد شيئا.
وهنا بدأت أعتاد القبح، والبصاق في حلق الشوارع، والصلاه لآلهة أنثوية.
حتى التقينا أخيرا في حانة مسكونة بوجع الحب الأعظم ومعتادي الانتحار، وجلسنا على مقعد صغير يتسع لشخصين، وتمايلنا، تأرجحنا مستدعين مقعد المدرسة البائس بفرحة بريئة وضحكه ذات جمود طفولي أرعن، غارقين في بحر من الهمسات الرديئة الصنع وكلمات نصف ممطوطة حتى قلت لي:
- لازم أمشي.
- لأ.
ومشيت... ولم أراك بعدها أبدا.
ولم أحب تمايلات المقاعد.. ولا التأرجح عليها، وهذا المقعد أمام عيني مثل خازوق حاد يزداد تأرجحه بسرعة.
والفتاة ذات الشعر القصير تجد لذة في التأرجح كطفل غير سوي، هل تمارس طفولتها باللاوعي الكامن في عقلها وتستعيد سنين الفرحة الصغرى؟
تبدو من الخلف كامرأة التقيت بها في وجود ضحل ومسل، أعرفها وتعرف في الألم والحزن الشريد الذي يمزق أضلاعي.
قلت لنفسي إنك معتوه واهم فكل التي أعرفها من النساء روان وكل اللواتي همست بصوت خفيض لهن وأنا أتأرجح معهن بفرحة الطفولة المنسية وغبطة مسلية، كن جميعهن روان.
ولم أرَ روان منذ ذلك الأمد البارد، القاسي، ممتنعا ولو ليوم واحد عن تقبيل النساء والبصاق في طرف الشوارع.
تضايقت جدا من اهتزاز مقعدها وأردت أن أخبرها بلطف حقيقي أن تكف عن ذلك.
هدأ الأتوبيس سرعته وتوقف، انتقلت برشاقة إلى المقعد المجاور لها والتفت.
تفاجأت.
حين أدارت وجهها... كانت روان.
واقرأ أيضا:
هَزيمَةُ.. حِصَان / الأغصان العارية