المفهوم المغلوط هنا ذو شقين أتناول كلا منهما على حدةٍ من أجل التبسيط:
فأولاً حكاية تدمير المخ هذه تحتاج إلى شرحٍ وافٍ لحكاية العلاج بالصدمات الكهربية Electroconvulsive Therapy من أولها وكيف اكتشفتْ وكيف تطورتْ وعلاقة ذلك كله ببداية اكتشاف الأدوية وبمصالح شركات الدواء. وحسب التأريخ الغربي فإنهُ في أواخر القرن الثامن عشر وبداياتِ القرن التاسع عشر ونتيجةً لتفاعل مفهومين بعيدين إلى حد ما هما:
المفهوم الأول هو ملاحظة الباحثين الفرنسيين أن نسبة المصابين بالصرع Epilepsy بين مرضى الفصام Schizophrenia أقل من نسبتهم في الناس العاديين، حيثُ افترض البعض آنذاك أن حدوث نوبات الصرع إنما يعالج الفصام؛ ومما هو جديرٌ بالذكر هنا أن المؤرخين الغربيين يغفلون:
أولا: وجود بردية فرعونية تظهر فيها صورة اثنين من الكهنة يمسك كل منهما بواحدة من سمك الرعاش) وهو نوع من الأسماك تصعق الواحدة منه من يلمسها(، ويضعها على جانب رأس رجل نائم.
ثانيا: كذلك يغفل الغربيون ما هو مدرجٌ في الجزء الأول من كتاب الحاوي للطبيب العربي الرازي في معرض حديثه عن المالينخوليا Melancholy إذ يقول بالحرف الواحد "وفي باب الصرع علاجٌ عجيبٌ لمرض الماليخوليا" ولعل إدراكنا لعبقرية الرازي يزيد إذا عرفنا أن الكهرباء لم تكن قد اكتشفت بعد في زمانه!، وبالتالي فإن الملاحظة سالفة الذكر لم تكن ملاحظة الأطباء الفرنسيين وإنما لحظها الرازي قبلهم بقرون تقارب العشرة.
أما المفهوم الثاني فكان أن تستخدم الإصابة بمرض ما لعلاج مرض آخر فمثلا كان مرضى الزهري قبل اكتشاف عقَّـار البنسلين يعالجون بأن يحقنوا بميكروب الملاريا!!
واستمر تفاعل الفكرتين معا حتى بدأت أولى المحاولات باستعمال مواد كيميائية تتسبب في حدوث تشنجات عابرة بعد حقنها في وريد المريض مثل زيت الكافور Camphor Oil أو عقَّار الكارديازول Cardiazole وكانت النتائج طيبة إلى الحد الذي شجع على التفكير في استخدام تيار كهربي يمر عبر المخ لإحداث نفس النتيجة مع تجنب مشاكل عقَّار الكارديازول أو غيره وفي عام 1938 قام طبيبان إيطاليان (Cerletti and Bini) بإمرار ِالتيَّار الكهربي المحكومِ في دماغِ واحدٍ من المرضى المشردين والذي كان في تهيجه يثير الخوف في نفوس الناس حول محطة القطار الرئيسية في روما، وكانت النتائج هذه المرة مذهلةً لقد شفيَ المريض الذي كانت روما كلها تعرفه وعرفته الأوساط الطبية في العالم الغربي بعد ذلك بسرعة كبيرة.
كل ما يحدثُ للمريض كان فقده للوعي وبالتالي الإحساس ثم يدخل في نوبةِ تشنجات مماثلة لنوبة الصرع الكبرى؛ ولكنَّ ما من شك في أن هذا موقف لا يحب أحد أن يرى فيه إنسانا؛ حتى وإن كانت النتيجة هي الشفاء؛ المهم أن أحد لم يكن يفكر في شكل الموقف في ذلك الوقت لأن وسيلة العلاج الوحيدة في الطب النفسي آنذاك كانت هذه الصدمات الكهربية وكان انتشارها كطريقة علاجية انتشاراً سريعا في كل أنحاء أوروبا وأمريكا وظهر بعد قليل أنَّ أكثر نتائجها وضوحا تكون في حالات الاكتئاب ولكنها كانت تستخدم في علاج كل المرضى من نزلاء المصحات النفسية لسبب بسيط هو أنه ليست هناك طرق علاج أخرى!
واستمرَّ الأمرُ على هذا المُنْوالِ حتى تمَّ اكتشافُ عقار الكلوربرومازين Chlorpromazine وهو أول مضادٍ للذهان يتم اكتشافه فأصبح هناك عقَّارٌ يمثل خيارًا آخر لعلاج حالات الذهان والتهيج الحاد وبعد ذلك بنحو عِقْدٍ من الزمانِ اكتشفَتْ عقَّاقير علاج الاكتئاب؛ وفي غضون ذلك كانت طريقة إجراءِ الصدمات الكهربية تتحسن بشكل كبيرٍ حيثُ أصبحت تعطى بعد تخدير المريض وإعطائه عقَّارًا باسطا للعضلات بواسطةِ طبيب التخدير وبالتالي لم تعد هناك تشنجات كبرى؛ وبالرغم من التحسن الذي طرأ على طريقة إجراءِ الجلسات كان التوجه العام في أوروبا وأمريكا توجُهًا ضِدَّ الجلسات الكهربية لما كان لها من سمعة سيئَةٍ وقتذاك!، وبمساعدةِ شركات الدواء خاصةً تلك المنتجة لمضادات الاكتئاب كان حجم الدعاية المضادة لاستعمال الصدمات الكهربية كبيرًا.
ونظرًا لأنه لم يكتشف حتى لحظة كتابة هذه السطور عقَّارُ اكتئابٍ واحد يقدم لنا ما تقدمه الصدمات الكهربية من سرعة في العلاج ومن قدرة أوسع على معالجة شريحة أكبر من المرضى فالمعروف أن كل أدوية الاكتئاب لا تبدأُ آثارها في الظهور قبل أسبوعين أو ثلاثةِ أسابيعَ على الأقل وهي مدَّة كبيرَة لا نستطيع تحمل انتظارها خاصة في مريض لديه رغبة في الانتحار! في الوقت الذي يتحسن فيه المريض الذي يعالج بالصدمات الكهربية خلال يومين إن لم يكن يوما واحدا!! كما أن احتمال عدم استجابة المريض لعقار اكتئاب معين أكبر بكثير من احتمال عدم استجابته للصدمات الكهربية! نظرًا لذلك كله انتبه الأطباء في الغرب إلى أن شركات الدواء تضحكُ عليهم، وأن فائدةَ العلاج بجلسات الكهرباء لا يمكنُ إغفالها.
فالتوجه الحالي في الدول الغربية أصبح مع العلاجِ بالصدمات وليس ضدها كما كان في الماضي وخاصة عندما تكون هناك حاجة لاستجابةٍ سريعة ومؤكَدَةٍ وعندما يكون الاكتئاب مصاحَبًا بالعديد من الأمراض المزمنة الأخرى بحيث يتناول المريض عقَّـارًا لعلاج ضغط الدمِّ وآخرَ لشرايين القلب وآخرَ للسكر وربما للكبد وهذا حال الغالبية من مرضانا فوق سن الأربعين في كل هذه الحالات يصبح استخدام عقَّارٍ لعلاج الاكتئاب مجلبةً للمشاكل بسبب التداخلات الدوائية ومشاكلها التي لا حصر لها بينما تعمل الصدمات الكهربية بشكل أكثر فاعلية وأقل إشكالية!
أما ما يفاجئ الناس بعد ذلك فهو أن عددَ من يموتون بسبب خلع أحد الأسنان عند طبيب الأسنان أكبر من عدد من يموتون بسبب الصدمات الكهربية أي أنَّ العدد أقل من 4 في المليون شخص!! كما أن تشريح أدمغة العديد من نزلاء المستشفيات النفسية المزمنين في الخمسينات في أوروبا لم يقدم دليلاً واحدا أو حتى إشارة إلى تلفٍ ولو صغير في أدمغة من كانوا يتلقون الصدمات مرتين أو ثلاثة مرات أسبوعيا لمدد تزيد على السنة أو أكثر!! أعتقد هنا أنني أوضحت أن حكاية تدمير المخِّ هذه لا أساس لها من الصحة خصوصا وأنَّ كل ما يحدث من أثرٍ جانبي للصدمات هو بعض النسيان للحظات السابقة لإجراء الصدمة وربما بعض اللحظات التالية لها ولا شيءَ آخر!
وَأمَّا الحكاية الثانية فهيَ حكاية التعود على جلسات الكهرباء والتي ترجع في الأساس إلى طبيعة المرض الذي تستخدم الصدمات في علاجه وهو الاكتئاب الدوري أو الاضطراب الوجداني فهذا مرض دوري بمعنى أنه يصيب الشخص في وقت ما من عمره ثم تزول كافة أعراضه بعد زمن معين يساعدنا العلاج في تقصيره، ويرجع المريض إلى حالته الطبيعية لمدة تختلف من شخص إلى آخر ثم تعاوده الأعراض مرَّةً أخرى ويحتاج للعلاج وهنا يظن بعض البسطاء أن المريض تعود على الصدمات بينما الأمر متعلق بطبيعة المرض!
واقرأ أيضًا:
اكتئاب شديد ورغبة في الموت: العلاج الكهربي / الكهرباء........علاج.......أم تعذيب / هدى والاكتئاب والعلاج بالكهرباء / علاج البارانويا بجلسات الكهرباء؟