أرسلت "نسرين" تقول:
لا تخذلونِ وقولوا لي رأيكم بسرعة يا مجانين؛
المشكلة أني منذ كنت في المرحلة الثانوية وأنا مجنونة بحب علم النفس وأجد متعة شديدة في التحليل النفسي، ويشهد لي كل من يعرفني بالقدرة على التحليل والغوص في أعماق من أمامي بل وتوقع ردود أفعاله، ويمكن أن أقول بلا تردد أنني دخلت كلية الطب من أجل أن أصبح طبيبة نفسية....... أمال فين المشكلة؟!!
المشكلة أن هناك الكثير من المتغيرات طرأت علي في السنين الأخيرة، أن زوجي غير مرتاح لهذا التخصص لأنه من وجهة نظره لا يناسب المرأة؛ لأنها يمكن أن تتعرض لبعض الحالات الخطرة. وبصراحة هو لا يجبرني على فعل شيء ضد رغبتي ولكن أنا حياتي الزوجية مستقرة والحمد لله ولا أريد منغصات
لاحظت أن نظرة المحيطين بي من أهلي وأقاربي لهذا التخصص غير مقبولة.
أنا شخصية حساسة بطبيعتها وأخشى أن يؤثر هذا علي.
من دراستي علمت أن معظم الحالات في هذا المجال مزمنة وتقريبا لا تشفى مما يفقدني كطبيبة متعة أن يجعلني الله سببا في شفاء المرضى.
أني تعرضت في فترة ما لبعض الصعوبات مما جعل قدرتي على تحمل التوترات أقل من ذي قبل، ومن المعروف أن هذا المجال عاوز أعصاب حديد.
على فكرة لازم آخذ قرارا بسرعة لأن حركة النيابات الاستثنائية نازلة الشهر القادم والطب النفسي نازل من ضمنها.
ملحوظة: زوجي سيقرأ الردود ومنتظرها معي، أرجوكم لا تخذلونِ وردوا على بأقصى سرعة.
22/4/2008
الابنة "نسرين"؛
نصيحة من أستاذ في الطب النفسي: ألا تتخصصي فيه إلا إذا كنت مستعدة للتضحية من أجل هذا التخصص، تضحية بالوقت، وتضحية بالجهد، وتضحية بالنوم أحيانا، وفي نفس الوقت محبة ومتعلقة بالعمل في هذا التخصص، بحيث لا تتصورين نفسك إلا كطبيبة نفسية ناجحة ومتميزة. وأرى أن زوجك متردد في اختيارك لهذا التخصص، وأنت لا تعيشين وحدك، أو من أجل رغباتك فقط، ولكن من المهم أن يراعي الشخص من يعيشون معه، وتحت سقف واحد، وأنا لا أدري إن كان لك أبناء وبنات أم لا، فإن كان لك أطفال صغار قبل أن تتخصصي فالمشكلة ستكون أكبر؛ لأنهم يحتاجون إلى مجهود كبير منك ورعاية مستمرة في طفولتهم.
ابنتي....
يُخطئ من يظن أن ممارسة الطب النفسي عمل سهل ولذيذ وممتع على طول الخط، فأحيانا أشعر بهذه المشاعر اللذيذة مع بعض المرضى النفسيين المُحببين إلى قلبي، ولكن عندما أُبتلى بمريض ثائر متهيج، أو مريض يرغب في الانتحار، أو مريض مدمن يتحايل علي -وقد يؤذيني بكلامه وتصرفاته- كي يحصل مني على وصفة تحتوي على أقراص منومة أو منشطة (وهذا قد يحدث في الأطفال أيضا وإن كان بصورة أقل من الراشدين)، أو مريض شاذ جنسيا يُصدِّع رأسي كي أعطيه مبررا لشذوذه وأنا كاره لذلك، وفي نفس الوقت لا أرغب ولا يصح مني أن أنهره، فعلى كل الأحوال هو من أهل الابتلاء!، وعليَّ إن لم أنفعه فلا أضره، وإن لم أسره فلا أغمه، وعندئذ يبلغ الكرب بي مبلغه، وقد أكره نفسي أحيانا، وقد أتضايق من اليوم كله، بل وأحيانا أشعر بالندم على عملي كطبيب نفسي!!.
كل هذه المشاعر قد يسببها لي مريض واحد في يوم ما، ولكن ما يمتعني ويلهمني الصبر والسلوان هو أنني أدرك أن ما أقوم به عمل جليل ولا أزكي نفسي؛ لأنني أعلم أن عدداً قليلاً فقط من البشر هم القادرون على القيام بمثل هذا العمل الذي أقوم به!، ليس فقط من ناحية المهارات المهنية النفسية ولكن كتركيب شخصية أيضاً، فشخصية الطبيب النفسي لابد أن تكون هادئة ومسئولة في نفس الوقت، شخصية تتمتع بقدر كبير من المرونة وفي نفس الوقت لديها قدر محترم من يقظة الضمير، شخصية مريحة ومحبوبة وفي نفس الوقت حازمة وقادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة والخطيرة والحرجة في الوقت المناسب، شخصية متعاطفة مع مشاكل الآخرين وبالذات مع مرضاه ولكن بتعقل وحكمة، وكما قال بعض أبنائي وبناتي من قبل شخصية الطبيب النفسي لابد أن تكون على قدر كبير من الثبات الانفعالي.
ابنتي....
لا يكفي أبدا قدرتي على تحليل الآخرين بمجرد كلامهم معي كي أكون طبيبة نفسية ناجحة ومتميزة، فلكي أكون طبيبة نفسية ناجحة ومتميزة علي َّ أن أدرس مناهج الاضطرابات النفسية وكل تخصصات الطب جيدا،ً بالإضافة إلى دراسة النظريات النفسية المختلفة التي ابتكرها علماء النفس والفلسفة والاجتماع؛ أي أنك ستدرسين أكثر من أربعة تخصصات في نفس الوقت كي تكوني طبيبة نفسية متميزة.
الطبيب النفسي المتميز لابد أن يكون على درجة كبيرة من الثقافة وفي كل المجالات: الفنية والكروية والسياسية والدينية واللغوية والاقتصادية والقانونية والتاريخ والجغرافيا والوراثة وعلم الأنساب لعائلات المنطقة التي يعمل فيها وغيرهم من مجالات الثقافة، كي يستطيع التواصل الجيد والفعال مع معظم مرضاه من أصحاب التخصصات والهوايات المختلفة.
ابنتي....
بعد هذا المجهود الجبار الذي يبذله الطبيب النفسي ليبني ويعد نفسه لمهمته الصعبة الملقاة على عاتقه ما هو المردود الذي يأخذه من مرضاه وأهليهم؟! أو من مجتمعه بصفة عامة؟!، لا أكذب عليك أحيانا وفي بعض المواقف تخافين أن تذكري تخصصك أمام بعض الناس، وذلك للوصمة الملتصقة بهذا التخصص، وأقصد بها وصمة "الجنون"، ولدي الذي لم يتخط العشر أعوام عيره بعض زملائه في المدرسة أن أباه طبيباً للمجانين!!!!، فقلت له قل لهم عندما تُجن أنت أو أبوك فسيعالجكما والدي، وأزيدك من الشعر بيتا فأحكي لك هذه القصة الظريفة اللطيفة:
ذهب زميل لي وهو -طبيب نفسي- من المنصورة معزوما في إحدى حفلات الزواج فنظر يمينا حيث أهل العريس فأشاح أكثر من نصفهم بوجوههم إلى الناحية الأخرى لأنه عالج أفرادا من أسرهم، وبالطبع هم خائفين أن يعرف أهل العروس أن بعضا من أفراد عائلاتهم تم علاجهم عند زميلي الطبيب النفسي، فتوجه زميلي ببصره إلى الجانب الأيسر من قاعة العرس حيث أهل العروس فأشاح أكثر من نصفهم بوجوههم إلى الناحية الأخرى خوفا أن يلاحظ أهل العريس أنه عالج أشخاصا من أسرهم، ويقول زميلي الطبيب النفسي تعليقا على هذا الموقف: "يومها كرهت اختياري للطب النفسي كتخصص أعمل فيه حتى الآن!".
ابنتي....
يظن الكثير من الناس أن الأطباء النفسيين يكسبون أموالا طائلة في بلادنا، وأقول الحمد لله: "الصيت ولا الغنى"، فمن يعمل بهذا التخصص في مصر مثلا مهما بذل من مجهود في عيادته ليل نهار لمدة أسبوع متواصل يستطيع أن يحصل على ما يحصل عليه جراح في أي تخصص دقيق كأجر لعملية جراحية واحدة لا يزيد وقتها عن ثلاث أو أربع ساعات!!!، وقد يكون وضع الأطباء النفسيين أفضل مادياً في دول الخليج العربي النفطية.
ابنتي....
لكل ما ذكرته لك وبصراحة بالغة قد تضايق البعض، عليك أن تختاري التخصص الطبي الذي ستعملين فيه طوال حياتك بحرص ودقة، وأدعوا الله لك أن يلهمك الرشد وحسن الاختيار، وأكرر وأقول أنه من المتع جداً الدراسة والقراءة في علم النفس والطب النفسي كهواية وكممارسة مع بعض المرضى المحببين إلى قلبك، ولكن عندما يأتيك مريضا مشاكسا ثقيل الظل وأحيانا مزعجاً فعندها ستقولين: يا دافع البلاء.
واقرأ أيضاً:
حكاية الم.ا.س والم.ا.س.ا: علاج الآثار الجنسية / كيف يعالج عقَّارٌ مادي معاناة نفسية؟ ×× / الأدوية النفسية كلها مخدرات تسبب الإدمان ×× / لا فائدة من العقاقير النفسية ××