*مقدمة:
الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (المائدة : 51 )}، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فمع إطلالة القرن العشرين، تمكنت الدول الغربية من نشر بذرة القومية في العالم العربي، وطُرح هذا الشعار على أنه الحل السحري لكل مشكلات العالم العربي، وعلى أنه الفرصة الذهبية للاستقلال عن الدولة العثمانية. وبالفعل فقد ركبت بعض البلدان العربية قطار القومية، فكانت النتيجة تعرض العالم العربي لأكبر حملة صليبية في تاريخه، وذهبت كل الوعود، والأكاذيب التي أُعطيت للعرب أدراج الرياح.
ومع ذلك فبمرور الوقت، خرجت القوات الصليبية من العالم العربي، ولكن بعد أن أشرفت على ولادة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، في عام 1948م. ولقد تصدى العرب لتلك المؤامرة الصليبية اليهودية، ولكن بنفس الشعارات التي رُفعت من قبل، فكانت النتيجة مزيدًا من الذل والهوان، حيث وقع بيت المقدس في عام 1967م تحت الاحتلال اليهودي الصهيوني.
أحبتي في الله، إن المسجد الأقصى هو عنوان المواجهة المقبلة، بين الأمة المسلمة، وأهل الكتاب، وهي مواجهة دينية عقدية بكل المقاييس، شئنا أم أبينا. لكن المحزن، أن تدخل الأمة المسلمة، هذه المواجهة، بشعارات قومية، في حين أن أعداءنا يُديرون الصراع بمنظور ديني عقدي، حرصوا كثيرًا على إخفائه، حتى نستمر بنفس الشعارات السابقة. والسؤال الذي يطرح نفسه، ما هو سر هذا التحالف الصليبي اليهودي، وهل هو زلة قدم، أو زلة لسان، أم نهج أصيل ثابت؟
* حركة الإصلاح الديني في أوربا:
لقد أدى الفساد الذي كانت تمر به الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي إلى تهيئة الأوضاع المناسبة لقيام حركة إصلاحية دينية، أطلقها أحد القساوسة الألمان في عام 1517م ويُدعى (مارتن لوثر)، حيث قام في هذه السنة بتعليق خمس وتسعين رسالة دينية على جدار الكنيسة في ألمانيا، وأرسل نسخًا من هذه الرسائل التي يحتج فيها على فساد الكنيسة إلى باقي الكنائس الأخرى. لقد كانت تلك الرسائل إعلانًا تاريخيًا عن بدء الحركة الإصلاحية البروتستانتية التي أحدثت انشطاراً في الكنيسة الكاثوليكية التي يتزعمها بابا الفاتيكان في روما.
وفي سنة 1520م أرسل (مارتن لوثر) خطابًا حادًا إلى البابا (ليو العاشر) جاء فيه: "إنك ترعى ما يُسمى بهيئة الكهنوت الرومانية التي لا تستطيع أنت ولا غيرك أن تنكر أنها أشد فسادًا من بابل وسدوم، وقد أظهرتُ احتقاري، وانتابني الغضب لأن الشعب المسيحي يُخدع تحت ستار اسمك، واسم الكنيسة المسيحية، لهذا قاومت، وسأظل أقاوم ما وُجد فيَّ عرق ينبض بروح الإيمان" (1).
وفي عام 1523م أصدر (مارتن لوثر) كتابًا بعنوان (عيسى وُلِدَ يهوديًا) قال فيه: "إن الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم، إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف الغرباء، ولذلك فإن علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل ما يسقط من فتات مائدة أسيادها" (2).
كذلك دعا (مارتن لوثر) إلى تفضيل الطقوس العبرية في العبادة على تعقيدات الطقوس الكاثوليكية، كما دعا إلى دراسة العبرية على أنها "كلام الله في الناس" ، ثم قام بترجمة التوراة إلى اللغة الألمانية (3).
كل ما سبق دفع الكنيسة الكاثوليكية إلى إصدار قرار الحرمان ضد (مارتن لوثر)، متهمة إياه بأنه من اليهود الذين تنصروا من أجل هدم الكنيسة (4).
هذا وقد أثبتت الأيام تحالف (مارتن لوثر) مع اليهود، حيث نشرت مجلة (كاثوليك جازيت) في عام 1936م وثيقة يهودية مهمة تبين دور اليهود في نشأة المذهب البروتستانتي، ومما جاء في تلك الوثيقة: "والآن دعونا نوضح لكم كيف مضينا في سـبيل الإسـراع بقصم الكنيسـة الكاثوليكيـة، فاسـتطعنا التسـرب إلى دخائلها الخصوصيـة، وأغوينا البعض من رعيتها [قسـاوسـتها] ليكونوا رواداً في حركتنا، ويعملون من أجلنا.. أمرنا عددًا من أبنائنا بالدخول في جسـم الكاثوليكيـة، مع تعليمات صريحـة بوجوب العمل الدقيق، والكفيل بتخريب الكنيسـة من قلبها، عن طريق اختلاق فضائح داخليـة، ونكون بذلك قد عملنا بنصيحـة أمير اليهود، الذي أوصانا بحكمـة بالغـة: دعوا بعض أبنائكم يكونون كهنـة ورعاة أبرشـيات [من أماكن العبادة عند النصارى]، فيهدمون كنائسـهم.
ومع الأسف الشديد، لم يُبرهن جميع اليهود من أبناء العهد عن إخلاصهم للمهمة الموكلة إليهم، فخان كثيرون العهد، لكن الآخرين حافظوا على عهدهم، ونفذوا مهماتهم بشرف وأمانة.
نحن أباء جميع الثورات التي قامت في العالم... ونستطيع التصريح اليوم بأننا نحن الذين خلقنا حركة الإصلاح الديني للمسيحية. (فكالفن) [هو أحد القساوسة الذين أدوا دورًا مشابهًا لدور (مارتن لوثر)] كان واحدًا من أولادنا، يهودي الأصل، أُمر بحمل الأمانة، بتشجيع المسؤولين اليهود، ودعم المال اليهودي، فنفذ مخطط الإصلاح الديني. كما أذعن (مارتن لوثر) لإيحاءات أصدقائه اليهود، وهنا أيضًا نجح برنامجه ضد الكنيسة الكاثوليكية، بإدارة المسؤولين اليهود وتمويلهم. ونحن نشكر البروتستانت على إخلاصهم لرغباتنا، برغم أن معظهم، وهم يخلصون الإيمان لدينهم، لا يعون مدى إخلاصهم لنا. إننا جد ممتنون للعون القيّم الذي قدموه لنا في حربنا ضد معاقل المدنية والمسيحية، استعدادًا لبلوغ مواقع السيطرة الكاملة في العالم." (5)
وفي عام 1544م نشر (مارتن لوثر) أفكاره الصهيونية عن "عودة" اليهود إلى فلسطين بحجة التخلص منهم، حيث ذكر في كتابه (اليهود وأكاذيبهم) ما نصه: "من الذي يحول دون اليهود وعودتهم إلى يهودا، لا أحد... إننا سنزودهم بكل ما يحتاجون لرحيلهم النهائي، لا لشيء إلا لنتخلص منهم، إنهم عبء ثقيل علينا." (6).
وهذا النص يُعد على درجة من الخطورة لأنها المرة الأولى التي يدعو فيها قس نصراني إلى "عودة" اليهود إلى فلسطين بجهد وتدخل من البشر، وعدم ترك ذلك إلى قدر الله تعالى، وهو ما كان يُؤمن به اليهود، حيث كانوا ينظرون إلى النبوءة المزعومة الواردة في "سفر التكوين" من توراتهم المحرّفة والمتعلقة بزعمهم "أن الله سبحانه وتعالى قد خاطب إبراهيم عليه السلام ووعده أنه سيُعطي فلسطين لنسله"، كانوا ينظرون إلى أن تحقيق تلك النبوءة متروك لقدر الله، وليس للبشر حق في التدخل لتحقيق هذه النبوءة.
وبذلك يكون (مارتن لوثر) أول من أطلق شرارة الصهيونية المسيحية والتي يُعد ظهورها سابقًا على ظهور الصهيونية اليهودية بعدة قرون. وبالمناسبة فإن الصهيونية حركة سياسية دينية تقوم على تدخل البشر في تحقيق النبوءة المزعومة عن "عودة" اليهود إلى فلسطين، وأما صهيون الذي اشتُقت منه تسمية هذه الحركة فهو: اسم جبل في القدس، وقيل إنه من أسماء القدس.
*كتاب الجذور التوراتية للسياسة الغربية
حركة الإصلاح الديني في أوروبا
تأليف: الدكتور خالد بن محمد الغيث
الهوامش:
(1) حمدان الحمدان، على أعتاب الألفية، ص 27.
(2) محمد السمّاك، الصهيونية المسيحية، ص34.
(3) حمدان الحمدان، مرجع سابق، ص28.
(4) المرجع السابق، ص29.
(5) محمد السمّاك، مرجع سابق ، ص11- 12.
(6) حمدان الحمدان، مرجع سابق، ص29.