كنت أبدو أشبه بمن يعبث بـ "الريموت كونترول"، متنقلاً بعصبية، أظن أنها لا تُفارق ملايين العرب هذه الأيام، جائلاً بين شاشات الفضائيات المختلفة، حين فاجئتني محطةٌ عرفت فيما بعد أنها مصرية غير حكومية، بأنشودة قديمة حزينة لكنها تنضح بالإباء والتحدي، كنا درجنا ونحن أطفال على سماعها وتردادها في تلك العقود الموسومة بعنفوان المد القومي، تلك التي تصادف أن نشئنا وتربينا فيها، وبدا لنا اليوم وقد أصبحنا كهولاً، لا سيما في هذه العقود الأخيرة الموسومة بالانحدار، أنها وقد غبرت وولّت وظنّ البعض أنها بلا رجعة، أو على الأقل، يصعب استعادة عنفوانها الآفل وأن ما حملت أيامها من أحلام قد شردت هذه الأيام من فضاءاتنا الحزينة...
الأنشودة التي داهمتني مفاجأتها، تُعيدنا إلى شعر علي محمود طه، وتُذكرنا بموقف أمةٍ من نكبتها في فلسطين وقد بدأت للتو، وجاءتنا بصوت موسيقار العرب الكبير محمد عبد الوهاب... كانت قصيدة: أخي جاوز الظالمون المدى...
استمعت إلى الأنشودة بنوع من الخشوع استولدته هذه العودة المفاجئة لي إلى فضاء عقود الأحلام التي غيّبتها الإنحدارات حتى أنعشتها مجدداً للتو الدماء الغزاوية العنيدة المنتصرة... وما بين تلك وهذه، قضيت برهةً من التأمل، ثم لم ألبث أن شدّني الواقع المرير إلى مفارقات حاضرنا الذي اختلطت فيه المفاهيم، وتخبّطت به نقائض المواقف، وتهالكت في مشهده هوازل الإرادات، وهجرت المصطلحات في كنفه مضامينها لترطن إيحاءاتها بمعانٍ لا علاقة لها بتلك المضامين المحرّفة المغتالة...
لاحظوا: المدافع في جبهة محرقة غزة هدأت لكنها لم تتوقف، والمذبحة المحرقة التي كانوا يُديرونها هناك أوكلت أمر استكمال استهدافاتها، التي أفشلها صمود غزة البطولي المنتصر، إلى مذبحةٍ أو محرقةٍ سياسية ستكون أشد هولاً لو نجحت، حيث تكالب العدو القريب وأربابه الأبعدون ومن والاهم من بني قومنا في بدء محاولة إدارتها، ليس ضد غزة المدماة المدمرة فحسب وإنما فلسطين المغتصبة برمتها، قضيةً ووجوداً، أو مقاومةً وشعباً، أرضاً ومنافياً، وحيث هذا هو الحال...
تأملوا: التهدئة، بمعنى مهادنة العدو، غدت تعني قبول الشروط الصهيونية، أو بلغةٍ أخرى الإملاءات الأمريكية، وإن شئت المساعي الأوروبية. والمصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية ليست سوى فرض قبول التسوية التي لا يمكن ترجمتها إلا إلى الاستسلام لشروط التصفية للحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف في الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني، أو التخلي عن الحلم الفلسطيني بالتخلي عن جدلية العلاقة بين الإنسان ودياره أو تراب الأجداد، أو ما يعني في الجوهر الهوية والوجود الوطني. والوحدة الوطنية يُريدونها أن تُبنى على إيقاف المقاومة والاعتراف بالعدو، والقبول بما صنع اغتصابه من وقائع، وكل ما وقّع ذات ليل من خلف الشعب الفلسطيني والأمة العربية عليه من اتفاقات كارثية مذلّة أوصلت الفلسطينيين إلى ما وصلوا إليه من حال هي مدعاة سرور الأعداء ولا تسرّ صديقاً أو منصفاً...
وهكذا، فإعادة الأعمار عندهم القبول بما تقدم، ووقف "التهريب" إحكام الحصار على الشعب ونزع سلاح مقاومته للاحتلال، والرقابة الدولية أطلسة هذا الحصار بمشاركة بعض العرب، وهذه الأطلسة حماية العدو وملئ فراغ القوة التي كشفت غزة وقبلها لبنان عن عجزه عن ملئه... وصولاً إلى محاولة إنقاذ هيبة الهيمنة الغربية التي كشف المقاومون اللبنانيون والفلسطينيون والعراقيون والأفغان عن تآكلها وبداية أفولها وسطَّروا مؤشرات إنقشاعها عن هذه المنطقة المنكوبة بتجلياتها الكارثية المؤذية...
ولا ننسى أيضاً، هدفهم إنقاذ أنظمة تواليهم من هبّة وجدان شعوبها، هذه الشعوب التي استهولت فداحة القبول بحلول حماية الاحتلال وإضافة مظالم مستجدة تحبل بكل ما يُذكي لهيب الصراع... وكشفت ملحمة غزة تحديداً، أن القضية ليست معابراً، ولا حكاية "تهريب"، أو مواصلة مسلسل تهدءات، ومحاولة أنسنة مجزرة لحجب استهدافاتها، وإنما، هي "أخي جاوز الظالمون المدى"...
والأهم: وليسوا بغيرِ صليلَ السيوفِ يُجيبون صوتاً لنا أو صدى!
لقد قال مطلع القصيدة، هذه التي عادت لتذكرنا بأبجديات الصراع وبدايات النكبة المستمرة لستين حولاً إن لم نقل قرناً... قاله بالتركية هذه المرة، الزعيم التركي رئيس الوزراء رجب الطيب أردوغان في (دافوس) السويسرية، الذي انسحب من هذا المحفل الصهيوني الهوى إثر مشادة مشهودة مع الداهية الأشرّ (شيمون بيريز)، وبعد أن قال له أنكم قد حولتم "غزة إلى سـجن كبير في الهواء الطلق" و"تقتلون الأطفال عند الشـاطئ"، وغادر إلى بلاده احتجاجاً على منعه من الرد على سيل الأكاذيب من قِبل من وصفه بأنه "كان يكذب في كلمته والتاريخ يعيد نفسه"، معلناً: "بالنسبة لي انتهى (دافوس) ولن أعود مجدداً"، و"أنا أعيب على من يصفقون لهذه المظالم"! التي يُحاول (بيريز) بوقاحة منقطعة النظير تبريرها أو نفيها وتمويهها وحتى تسويقها فيما وصفها أردوغان بـ "اجتماعات دافوس غير العادلة"، مذكراً المصفقين للمجرم من الحضور: "أنا رأس مرن ولكني لست خروفاً وديعاً!"
لم يكن أردوغان، أو السيدة أمينة قرينته التي أجهشت بالبكاء لوقاحة (بيرز) واصفة مزاعم سفاح قانا بأنها "كلها أكاذيب"، سوى انعكاس لوجدان أحفاد العثمانيين الذين استقبلوا في مطار أستانبول زعيمهم العائد من (دافوس) بما يليق بمحمد الفاتح...
أردوغان لم يكمل القصيدة ماراً بالبيت القائل:
وليسوا بغير صليل السيوف...
تاركاً هذا لغزة وحدها التي أوصلت صداه إلى مسامع أمتها فرددته معها، لكنما كان أردوغان ربما أكثر عروبة وإنسانية من كثير مما يصفهم (بيريز) بالمعتدلين العرب الذين دافع عنهم وأشاد بهم في منتدى (دافوس) الذي انتهى بالنسبة لأردوغان...
غضبة أردوغان ورفضه للإهانة، وما أبكى السيدة أمينة، وبالتالي ما دفع الأتراك إلى استقبال رئيس وزرائهم العائد إلى غير رجعة إلى (دافوس) الصهاينة بما يليق بسلاطين بني عثمان، كلها أمور بدت أنها قد أحرجت بعض الشيء الأمين العام للجامعة العربية، الذي كان من المفترض أن يمنعه منصبه، كممثل لكل العرب معتدلين وممانعين، من عدم الجلوس إلى جانب القاتل (بيريز)، والذي وقف ليُصافح أردوغان "العربي الغاضب" شاداً على يده، لكنما سرعان ما عاد للقعود في مقعد لا يتسم بصدق ما تستوجبه اللحظة إلى جانب (بيريز)، مستجيباً لإشارة من يد (بان كي مون) تدعوه للجلوس...!
دماء غزة، أعادت الاعتبار لعدالة قضية ثبت أنها أكبر منهم ومنا، وأكدت على حق مقاومة المحتلين المشروعة كخيار لا سواه... صححت مسار النضال، وثبتت قدرة الشعوب المستضعفة على بلوغ الانتصار صموداً مهما اختلت موازين القوى بما لا يُقاس لصالح أعدائها... نبهت أمة من غيبوبتها القسرية... شطبت ما يُقارب القرن من أثقال مواريث الأتاتوركية وأعادت الأتراك إلى بيئتهم وجذورهم وهويتهم... هزّت ضمائر عالم تكلست... وجعلت العرب والمسلمين وأحرار العالم ينشدون مع القناة المصرية غير الحكومية:
أخي جاوز الظالمون المدى!
اقرأ أيضاً:
انتهى الدرس "التركي ـ الأردوغاني"!!