يتساءل العراقيون ببراءة واستغراب، هل يمكن أن يتورط من احترقت جبهته من كثرة الصلاة، بالسرقة؟ وهل من الممكن أن يتورط من شب على ثقافة الدين وتحت منابر الخطباء، بالفساد المالي والإداري؟.
لقد حكمت العراق تيارات أيديولوجية مختلفة، كان من أبرزها التياران القومي واليساري، وكلها أفسدتها السلطة، فبعد أن كانت هذه التيارات ترفع شعارات (إنسانية) حلوة وجميلة تستهوي القلوب، إذا بها تسقط في امتحان السلطة إلى الحضيض.
وفي كل مرة تبدأ القصة عندما ينطلق الصراع عنيفا بين القيم والمثل النبيلة التي يتربى عليها (المؤدلجون) وهم خارج السلطة، في المعارضة مثلا، وبين الواقع الجديد الذي تفرضه متطلبات السلطة، ولأن الأخيرة أشد تأثيرا في النفوس، لذلك تنتصر متطلبات الواقع على القيم والمثل، التي يبدأ (المؤدلج) يشعر إزاءها وكأنها تنظيرات ومثاليات لا يمكن تطبيقها أو الالتزام بها على أرض الواقع، بعد أن كان يعتبرها أساس نضاله الأيديولوجي والسياسي ضد الزمر المنحرفة وضد مصاصي دماء الشعوب، وضد قوى الإمبريالية والصهيونية وما إلى ذلك من الشعارات.
كل هذا كان إلى ما قبل التاسع من نيسان عام 2003، إذ لم يكن التيار الديني قد تورط بمثل هذا الصراع بين المثل والقيم التي ربى عليه أبناءه وأنصاره، وبين واقع السلطة.
ولذلك كنا نفخر بأن التيار الديني أنظف كل التيارات (المؤدلجة) غافلين عن حقيقة السبب في ذلك، ألا وهو عدم تورطه، حتى ذلك الحين، باختبار السلطة، فالحكمة تقول {عند الامتحان يكرم المرء أو يهان}.
كنا نظن بأن مجرد الادعاء يكفي لإثبات الشيء، ولم ندر ما كان يخبئه لنا الزمن، حتى إذا تصدى هذا التيار للسلطة بعد سقوط الصنم في بغداد، إذا بنا نشهد تساقط أوراق التوت عن عورته، الأمر الذي ذكرني بقصة ظريفة جدا حدثت لأخوين شقيقين، قرر الأول أن يهجر المدينة وضجيجها ليلجأ إلى الجبال منقطعا إلى الله تعالى يعبده ويتضرع إليه وحده لا شريك له، فيما بقي الثاني يعيش حياة المدينة في محل الصياغة الذي يمتلكه في وسط السوق.
بعد مدة، وصل الأول إلى درجة اليقين بالله تعالى، فأكرمه ربه بكرامة عجيبة، فكان يضع الماء في سلة من دون أن ينسكب من ثقوبها، فقرر أن يبعث بهذه الكرامة الإلهية إلى شقيقه في المدينة ليفخر بها عند الناس.
وصلت الكرامة للثاني، الذي آثر أن يعلقها في محله ليراها الناس، مفتخرا بما آل إليه حال أخيه من الإيمان والتقوى ومخافة الله عز وجل، فيما قرر في ذات الوقت أن يهدي شقيقه الكرامة التي أكرمه بها الله عز وجل، والمتمثلة بقطعة من القطن في وسطها جمرة من النار، فلا الجمرة تنطفئ ولا القطنة تحترق.
عندما وصلت الهدية إلى الأول، استغرب من هذه الكرامة، وتساءل مع نفسه، ترى، ما الذي فعله شقيقه وهو في وسط السوق وفي محل الصياغة الذي لا تمر عليه للتبضع إلا النساء وجلهن من الحسناوات الفاتنات؟ فما الذي فعله شقيقه ليكرمه الله تعالى بهذه الكرامة، ويساويه فيها معه، وهو المنقطع عن الدنيا والبعيد عن تحديات الحياة وإغراءاتها؟.
قرر أن يذهب إلى المدينة ليزور شقيقه في محله ليراقبه عن كثب لمعرفة حقيقة (التقوى) التي وصل إليها والتي أهلته لأن يرزقه ربه هذه الكرامة العظيمة، أسوة به.
عندما وصل إلى محل شقيقه، وقف جانبا يراقبه ليرى كيف يتعامل مع الزبائن، وجلهم من النساء، فرأى أنه لا يرفع عينيه بوجه الزبائن ويغض بصره عن مفاتن النساء ولا يتلصص بنظره ليتفرس وجه هذه أو صدر الأخرى أو مفاتن الثالثة.
في هذه الأثناء، انتبه الرجل (المتقي) المتفرغ لعبادة الله تعالى في الجبال البعيدة، إلى الزبائن وإذا به وسط مجموعة من النساء الفاتنات، اللاتي جئن إلى المحل للتبضع، فراحت عينه تخونه متلصصا على هذه ومتفرسا صدر الأخرى ومندهشا بجمال الثالثة، وهكذا.
في هذه الأثناء، بدأت كرامته (السلة التي تحفظ الماء من دون أن ينسكب منها والذي كان شقيقه قد علقها في المحل) يتسرب منها الماء قطرة فقطرة، إيذانا من الله تعالى بسلب الكرامة منه.
حينها وقف الرجل على فلسفة (التقوى) وحقيقة (الإيمان) ولماذا ساوى الله تعالى بينه (وهو المنقطع إلى الله عز وجل) وبين شقيقه الذي يعمل في محل الصياغة مستعدا لمواجهة التحديات، فعرف أن سر (التقوى) يظهر عند الامتحان، وليس في الجبال والصحاري القفار، ولذلك ففي لحظة التحدي سقط في الامتحان، فسلب ربه منه الكرامة.
هذه القصة تلخص فلسفة القول المأثور (عند الامتحان، يكرم المرء أو يهان) وهو القول الذي يكشف، عادة، عن حقيقة التيارات (المؤدلجة) وما إذا كانت قادرة على التمسك بقيمها ومثلها النبيلة، ليس وهي تعيش في الجبال بعيدا عن تحديات السلطة، أبدا، فإن في مثل هذه الحالة لا يوجد تحد واختبار، ولذلك لا يمكن الحكم مع أو ضد، وإنما عندما تنزل من قمم الجبال إلى وادي السلطة، فكيف ستكون؟.
لذلك، أعتقد أن على الشعب العراقي اليوم وبعد أن جرب كل المؤدلجين، أن ينتبه جيدا، ليس إلى صلاة المسؤول أو جبهته السوداء أو قيامه في الليل، أو حديثه (الديني) المنمق، أو خطاباته التي تستهوي العقول والقلوب وتبهر المستمع والمشاهد، أبدا، وإنما إلى تعامله مع الموقع، فإن الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كانوا ينعتون بـ (أصحاب الجباه السود) لكثرة صلاتهم، وإن من قتل الحسين السبط عليه السلام في عاشوراء في كربلاء عام 61 للهجرة، كانوا من الحفاظ والقراء، أي من حفاظ القرآن الكريم وقرائه.
ولكل ذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قوله المشهور {الدين المعاملة} فهو لم يقل الدين الصلاة أو الدين الصيام، أبدا، لأن كل ذلك علاقة بين العبد وربه، وإذا كان فيها منفعة فهي له، أما المعاملة فهي العلاقة بين العبد وأخيه العبد، وإلى هذا المعنى يشير قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) {المسلم من سلم الناس من يديه ولسانه} أي أن المسلم هو الإنسان الذي لا يتضرر منه الناس، وإلا، ماذا ينتفع العراقيون بصلاة الوزير إذا لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ وهما هنا الفساد المالي والإداري؟ وماذا ينتفع الناس بجبهة الوزير (المحروقة) إذا كانت تبرر له السرقة وتفلسف له التعدي على حقوق الناس؟.
لقد قال لي مرة وزير من التيار الديني، أنه وزميل له ينتمي إلى نفس التيار يتوضآن قبل أن يذهبا إلى وزارتيهما، ليباشرا عملهما على وضوء.
وقتها أحسنت الظن بهذا الوزير، ففسرت كلامه بطريقة إيجابية، فاعتبرت ذلك قوة في الدين وشدة في التقوى ومخافة الله تعالى، أما اليوم، وبعد أن تبين أن زميله متورط بالفساد، فقد أعدت تفسير قوله، فتبين لي أنه كان يقصد بأن زميله يتوضأ قبل الشروع بالعمل في وزاراته، ليشرعن سرقاته، فالوضوء يحلل المال المسروق، طبعا على حد فهم السيد الوزير، وبكلمة أخرى، فإنني فهمت الآن من كلام الوزير أن زميله كان يتوضأ قبل أن يسرق.
آخر سألته عن موقع التربية (الدينية) التي نشأ عليها المسؤولون من التيار الديني منذ صباهم عندما انخرطوا في الأحزاب الدينية، وما إذا كانت تلك التربية غير كافية لردعهم عن التورط بالمال العام والفساد الإداري، الذي نسمع عنه؟ فرد علي بالقول:
تلك كانت التربية النظرية، إنها الكلام، والكلام، كما تعرف، قال لي، ليس عليه ضريبة، أما اليوم فنحن في قاعة امتحان كبيرة جدا اسمها العراق، وأنا، أضاف، لست متيقنا من إمكانية أن يجتاز التيار الديني مرحلة الاختبار بجدارة، أو أنه سيسقط كما سقط من سبقه من التيارات (المؤدلجة) التي تعاقبت على حكم العراق.
أعود للإجابة على سؤال العراقيين الذي توجت به المقال، لأقول:
بعد أن ثبت لنا بالدليل القاطع، تورط (التيار الديني) أو المتلبس بالدين، كالقاعدة وطالبان والعديد من التنظيمات (الدينية) في العراق وغير العراق، تورطها بالقتل والتدمير وعمليات التفجير بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، هل يمكن أن نستبعد تورطها بعمليات الفساد المالي والإداري؟ بالتأكيد لا، لأنها، وللأسف الشديد، توظف الدين لممارسة الانحراف، وهي لا تتورع حتى عن توظيف النصوص القرآنية لشرعنة سرقاتها وكل أنواع الفساد الإداري، ولماذا لا تفعل ذلك، بعد أن وظفت الدين وآيات القران الكريم لتحليل دم الناس وإهداره بالقتل والذبح؟.
لقد طلب أحد الناس الصفح من أحد العلماء المجتهدين، على ما كان يغتابه في الأيام الماضية، فرد عليه الفقيه بالإيجاب بلا تردد، فسأله من حوله، ألم يكن من الأفضل أن تتريث قليلا لتعرف حقيقة الرجل؟ فقال لهم، أنا أبرئ ذمة كل من يغتابني، إلا (المؤمن) منهم، استغرب الحضور من قوله، وسألوه، لماذا يا مولانا، فقال، لأن الناس العاديين يغتابونني بجهل، أما (المؤمن) فإنه يفسّقني (بتشديد السين) أولا، ثم يورد الحديث الوارد عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) (لا غيبة على فاسق) ثم يغتابني، وهو بذلك لا يعتبر حديثه عني غيبة لأنه فسقني قبل أن يغتابني.
ولذلك أعتقد أن سقوط (التيار الديني) في امتحان السلطة سيكون أكثر مدويا من سقوط أي تيار آخر سبقه إلى قاعة الامتحان، لأنه سيسقط وهو متلفعٌ بعباءة الدين، ولهذا فإن عليه أن ينتبه إلى نفسه لأنه سيلحق الضرر بدين الناس وتدينهم، فقد يتسبب بردة فعل عند الكثيرين من الناس الذين يحاولون معرفة الحق بالرجال، فيما أوصانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن نعرف الحق لنعرف رجاله.
ومن أجل الوقوف بوجه التدهور الأخلاقي، فأنا أعتقد أن على التيار الديني أن يبادر فورا إلى تطهير صفوفه من الفاسدين، وأن يعاقبهم حزبيا قبل أن يحاسبهم القضاء، وأن يعيد منهم كل فلس سرقوه قبل أن يجبرهم القضاء على ذلك.
أما إذا أراد أن يتستر على اللصوص، أو يبرر للمفسدين، فإنه إلى الهاوية بالتأكيد، فدعاء الأيتام والأرامل لا يرحم، وإن الله {لا يخدع عن جنته} كما في المأثور، فلقد كان أمير المؤمنين عليه السلام أول المراقبين وأشد المحاسبين لولاته وعماله، فكان ما أن يشم من أحدهم رائحة فساد أو لصوصية أو ظلم يسارع فورا إلى عزله وإبعاده عن موقع المسؤولية، لماذا؟ لأنه كان يشعر بأنه مسؤول عن كل ظلامة تلحق بمواطن قبل مسؤولية العامل أو الوالي، بل إنه كان أشد وطأ على المحسوب منهم عليه، فلم يكن ليتساهل معه أو يتباطأ في محاسبته أو يبرر له فعله أو يخفيه عن القضاء، مثلا.
أما هو شخصيا، فقد كان عليه السلام يتمتع بحساسية مفرطة من الظلم والتعدي على حقوق الناس، وعلى بيت المال، ولقد دون لنا التاريخ الكثير الكثير من القصص عنه عليه السلام بهذا الشأن، منها قصته مع أخيه عقيل، وموقفه من الجماعة التي عاتبته على التسوية في العطاء، وطلبت منه أن يميز بينهم وبين سائر المسلمين في العطاء من بيت المال، فرد عليه السلام عليهم بقوله المشهور {أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أم نجم في السماء نجما، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟ ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم، وكان لغيره ودهم، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشر خليل وألأم خدين} وصدق أمير المؤمنين عليه السلام عندما قال {أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع}.
بل إنه عليه السلام كان يدعو إلى قتال من ينتحل انتماءه إليه إذا أخطأ أو ارتكب جريمة أو غش أو اعتدى على حقوق الناس أو مد يده إلى بيت المال بغير حق، فكان يقول عليه السلام في وصف كل ذلك {إلا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه، ولو كان تحت عمامتي هذه}.
لقد كان عليه السلام يتبرأ من الظلم بكل طريقة، في القول والعمل، في الشهود وفي المغيب، في السر وفي العلن، فكان يقول {والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أو أجر في الأغلال مصفدا، أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلا قفولها، ويطول في الثرى حلولها} ويضيف {والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ولنعيم يفنى، ولذة لا تبقى، نعوذ بالله من سبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين}.
هذا هو نموذج التيار الديني، وهذا هو الأسوة لمن أراد أن يدعي انتماءه إلى التيار الديني، أما أن يدعي انتماءه للدين أو لعلي ثم يسرق أو يعتدي أو يبرر للص، فإن كل ذلك ليس من الدين وليس من نهج علي في شيء.
وبالمناسبة، فلقد كان بإمكان الإمام أن يجد ألف حجة وحجة لتبرير الظلم، حاشاه من ذلك، فالدين كان طوع بنانه، ونصوص القرآن محفوظة في صدره، بل إنه هو القرآن الناطق، كما يفعل اليوم الكثير ممن يدعي الانتماء إلى الدين، ولكن، وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) {لا يخدع الله عن جنته} فالتورية قد تخدع صاحبها ولكنها لا تخدع الله البتة.
أما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقد كان أشد من ذلك وهو القائل {لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} فما بال الأحزاب (الدينية) تدافع عن فاسد في صفوفها أو متلبس بجريمة من وزرائها، أتظن أنها بذلك تبرئ ساحتها؟ أم أن مبادرتها لتطهير صفوفها من مثل هذه العناصر هو الذي يبرئ ساحتها؟ ألا تتذكر قول أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول فيه {فحاسب نفسك لنفسك} بمعنى أن مبادرتها لمحاسبة نفسها يعود بالنفع على نفسها أولا وقبل أي واحد آخر، هذا إذا كانت تبحث عما يصون سمعتها وماء وجهها ويعيد لها اعتبارها عند الناس بعد كل هذه الفضائح.
يجب عليها أن تثبت للرأي العام العراقي أنها أحرص حتى من القضاء على حقوق البلاد والعباد، وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يقول {إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه، وإن نقصه وكرثه، من الباطل وإن جر إليه فائدة وزاده}.
أما الناس، فتقع عليهم مسؤولية الرقابة الدقيقة، من دون أن تركن لتدين المسؤول أو ثقافته أو انتماءه، فالعبرة، كما قلنا، بطريقة التعامل مع الموقع، وليس بالدين أو الزي أو التاريخ أو الانتماء، أبدا.
12 حزيران 2009
اقرأ أيضاً:
العراق بين مواكب الموت وصمت القبور(2) / هرطقات عراقي في زمن اللاعودة