السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بداية أود أن اشكر القائمين في هذا الموقع، فجزاكم الله خيرا على ما قدمتموه وجعله في ميزان حسناتكم، وإني لمتابعة قديمة لكم ولنصائحكم وكم استفدت منها، ولكن في الآونة الأخيرة قل إقبالي على الموقع لظروف الدراسة وضغطها.
أنا فتاة ذات 18 ربيعا، من إحدى الدول الخليجية، أعيش حياة متمكنة وفارهة في ظل أسرة تبدو في أوج قمتها من السعادة، ولكن ليت كل المناظر حقيقية كما نراها، حالتنا المادية متوسطة، ولكننا نعيش برفاهية متمكنة، مشكلتي احترت في طرحها آلاف المرات، ولكن بعد مد وجزر اتفق قلبي وعقلي بكتابتها لكم، لعلي أرى بوارق الأمل في عتمة الظلمة، ولكني سأبرز أولا محطات من حياة أبي وأمي وأخي الأكبر وأختي الكبرى من عائلتي لصلتي الكبيرة بهم، ولتوضيح موقفهم وموقفي منهم، أما ما تبقى من أخوتي فهم صغار ولم يشتد عودهم بعد ولا أعرف ماذا تخبئ لنا الحياة في جعبتهم.
أبي رجل أصوله ليست من الدولة الخليجية التي ولدنا ونسكن فيها، وإنما دولة أخرى خليجية أيضاً، ومجاورة لها، ولكني لست بصدد الولوج في حياته السابقة، إنما في أفعال أثرت في حياتنا، من يراه يظنه رجلا يافعا لا رجلا ناضجًا، بسبب جماله فهو يتصف بالجمال والحيوية والنشاط، أبي متزوج من أمي منذ عشرين سنة، هذه السنون قضاها في خيانة أمي سنة تلو السنة، ومنذ نعومة أظافرنا عرفنا هذا الواقع وتعايشنا عليه، في المقابل أمي كانت تنتحب بصمت ولم تطلب مساعدة أحد ما، ولظنها بأن أي مشكلة بين الزوج وزوجته لا تحل إلا بينهما، ولكن تنتهي أي مشكلة بينهما حول هذا الموضوع بالضرب المبرح لأمي.
أبي رجل لا يصلي أبدًا ولم يتعايش في بيئة مليئة بالإيمان، حيث إنه لا أحد من إخوانه أو أمه وأبيه يصلي.. باستثناء واحد من أخوته فقط، لم يتربَ على وجود وازع ديني يحكمه أو يرشده؛ فلم تكن لديه مشكلة في خيانة أمي لعشرين سنة كاملة، إنسان شرقي، غيور على فتياته وزوجته كثيرا، في المقابل فهو أب كريم جدا، عطوف، حنون وأيضا طيب جدًا لا يرفض لنا طلبًا، يجبرنا أن نتكلم معه باحترام ونقدم له أمارات الطاعة والامتثال، وأن لا ترفع من بيننا الكلفة، حاجز بناه على مر السنين، وعندما أراد التقرب منا -نحن أبناؤه- وجد الصدود في وجهه، لربما بسبب عدم تعودنا عليه، وخوفنا منه، وكان يجب أن يأخذ ذلك في الحسبان منذ البدء فنحن نهابه كثيرًا، حتى إن فتح باب الحوار معه في موضوع ما يكون بمثابة مرسوم أميري يجب أن تنتقى حروفه بدقة متناهية، وهذا لأنه من ذوي "الطبع الحامي" جدا، وأعصابه أقرب إلى أن تكون ملتهبة من حارة، فاقتصرت علاقتنا معه -نحن أبناؤه- خلا الابن البكر على مستلزماتنا، وأخذ الإذن في أمر ما فقط والتكلم في بعض الأمور السطحية، وأحيانا في بعض المشاكل أو الأمور. ولكنه مكافح جدا لنا فقد ارتبط بزواجه من أمي بسبعة أبناء، وعندما اشتد عودنا نحن الكبار كافح أكثر، ولكنه في المقابل يلوم أمي بربطها له بقبيلة كاملة كما يسمينا، وأنه اكتفى من الأبناء ولا يريد المزيد على غرار أمي والتي في نظرها بأن المزيد من الأبناء يكبل الأب ويقيده، وفي نظري أن المزيد من الأبناء زاد أعباء الأسرة كثيرا وزاد المشاكل بين أمي وأبي إضافة إلى خيانات أبي المتوالية سنة بعد سنة.
أما أمي فهي امرأة كالنحلة النشيطة التي تعمل بلا كلل، وأفضالها علينا لا يمكن نسيانها أبدا، تزوجت من أبي وهي ذات 19 ربيعًا بعد قصة حب، إنسانة جميلة جدًا قلبًا وقالبًا، وكثيرًا ما تردد أنها تسرعت بزواجها في هذا العمر الصغير، وكما أسلفت لكم سابقًا أنها انضوت تحت ألوية التكتم جراء خيانات أبي المتكررة، وتلوت كحمل ذبيح كلما أسبرت في غور أبي ووجمت لوجود نساء كثر غيرها، ولهذا فقد كرّت السبحات وأنجبت سبعة أبناء، ففي الوقت الذي كانت فيه مثخنة بالجراح ظنت أنها ستقيد أبي بإنجابها العديد والعديد من الأبناء.
في بداية زواجهما كثيرًا ما كانت تقضي يومها كله عند أسرتها، وهذا خطأ تفعله كثير من النساء، مما جعل أبي يبحث عن ما يبدد به وحشته، فالفراغ خنقه، وزوجته وأبناؤه في أحضان أسرة زوجته لأيام، فتوالت الخيانات، وأضحى بيتنا كالبيت المهجور بلا جدران، فقد همدت الزوجة فجأة، وأفجعها مصابها، ولم تكن تملك ما تشد به أزرها، فهرعت مقطوعة الأنفاس لتنقذ ما تبقى من زواجها مع من أحبت، ولكن ما أجج لوعتها وزاد حسرتها، ونكأ جروحًا لم تندمل هو أبي، فلم يتوارى عن تكرار أفعاله الشنعاء بلا هوادة، مع ضربه المبرح لأمي، حتى أصبحت زوجته خائرة القوى، محطمة العزيمة، تجتاحها موجات الكآبة، الصدمات تخرسها، تبث حزنها ولوعتها لنفسها، حتى كان وقع المصائب أشد الأثر عليها وعلينا، فدفعنا ثمن خيانات أبي بطريقة غير مباشرة من أمي، عايشنا واقع وجود نساء غير أمي في حياة أبي وكم نقلنا ما رأينا لأمي ونحن صغار ولم نكن نعرف ماذا سيخبئ لنا القدر؟ حتى إنني طردت أنا وأخي البكر من قبل أبي من البيت مرة وبقينا لمدة أسبوعين في بيت جدتي لأمي وأوهمناهم بكذبة واهنة لا تمت لسبب طردنا بصلة كما أوصتنا أمي، ولكن السبب الحقيقي كان أني أخبرت أمي بتفاصيل محادثة هاتفية مع أبي وإحدى النساء، أما أخي فلأنه حفظ الرقم الهاتفي لإحدى النساء عن ظهر قلب ونقلها لأمي والتي بدورها فجرت مشكلة كبيرة.
وفي الآونة الأخير اكتشفت أمي أنه يخونها بالرسائل النصية SMS مع نساء أخريات فأصبحت كالمفتش الليلي الذي يفتش هاتف أبي الخلوي فجرًا، وتحقق في كل شاردة وواردة عن تحركاته، حتى ظننا أن مناقشاتنا لا تكون إلا عن أبي ماذا فعل؟ ومن يحادث؟ وأين ذهب؟ ومتى استخدم الهاتف؟ وكم كانت الساعة؟ ومن المتصل؟ ماذا قال؟ وماذا رد أبي عليه؟؟؟ وهكذا عشنا حياة متقبلة بين أب خائن وأم لم تتعافَ من الصدمات إلى الآن؛ فعاش كل منا حياة منفردة بخصوصياته، حاملا في قلبه الكثير والكثير من الهموم التي كان أبي السبب فيها، فيما كانت أمي تظن أن متطلباتنا اليومية والمادية هي الضرورية أما المعنوية منها فلا وجود لها، في هذه النقطة أعتب على أمي كثيرا، كم أتذكر أنني عندما أذهب لمحادثتها تنهي النقاش سريعا لتعود لتدريس أخي الصغير، وأحيان أخرى كانت ترجعني خائبة مرددة أنه يجب تأجيل الحديث لوقت لاحق، ساعتها أحيانا كنت أنفجر فيها مرددة أن يجب عليها سماعنا وسماع همومنا وعلى الأقل تخصيص جزء بسيط من الوقت ولو ساعة لنا للمحادثة والمناقشة في أمورنا، لكنها كادت أنها لا تملك الوقت لمحادثتنا وتفضل أن تدرس أخوتي عوضا عن ذلك، وأنه يجب علينا مراعاتها في ذلك، ولكن نحن من يراعينا في ما نحس به وما تعترينا من مشاعر؟
في المقابل أخذ إخوتي العبارات واللعنات والكلمات النابية التي ينطق بها لسان أمي وتبادلوها فيما بينهم حتى لم يعد مصطلح الاحترام موجودًا فيما بينهم وبين أمهم، ويكاد لا يوجد ما يسمى احترام وتقدير في حواراتهم ومناوشاتهم اليومية.
أما ما لم أذكره بعد عن أمي فهي امرأة أقرب إلى التدين وهي النقيض لشخص أبي، التالي هو أخي الأكبر ( الابن البكر) ذو الـ21 ربيعا، فهو ذا الابن الوسيم الذي لا يرفض له طلب، الذي يجوب أرجاء المعمورة بسيارته الفارهة دون كلل، والذي يكاد يكون نسخة طبق الأصل من طبع أبيه الحامي والحار، فهو يعتبر نفسه رجلا وسيد نفسه، وكثيرا ما يتناقش بعنف مع أبي في أمور قام بها سرًا و أبي يمنعه منها كالتدخين، وما إن يعرف أبي حتى تقوم الدنيا ولا تقعد. في المقابل فهو ابن مطيع، ولكن أخلاقه ليست راقية مع أمه، فتارة يصرخ في وجها وتارة يخرسها وتارة يتشاجر معها وكل ذلك ينصب في المقام الأول في مشكلة يعنى أبي بها، فابنه محامٍ عنه في غيابه، ولكن في ظني عبثًا أن تصطلح تصرفاته إلا أن يهتدي والده، فهو يسير على منهج الأب، لا يصلي ولا يعرف طريقًا للإيمان، وفي صحبة للفتيات دائمًا. ولكنه في المقابل ابن طيب جدا ذو روح فكاهية كوميدية لا يحب أن يزعج نفسه بمشاكل الناس وشديد الغيرة على أخواته الفتيات.
والتالية هي أختي الأكبر مني ذات الـ19 ربيعًا، إنسانة لا أعرف ما هو تكوينها فتارة هي مرحة جدا وكوميدية، وتارة هي طيبة جدا، وتارة أخرى تراها هجومية وعدائية عنيفة، وتارة أخيرة أنانية، تفكر في نفسها بالدرجة الأولى ولا يهمها أحد، طالما الضرر لن يمسها، وكثيرًا ما نتشاجر لاختلاف شخصيتينا، شتان بيننا، فأنا شرق وهي غرب، وكثيرًا ما "نتعانف" على أمور بسيطة ولكنها تخرج عن السيطرة، فأرى الجانب المظلم من شخصيتها فهي عدائية عنيفة من الدرجة الأولى، وللوهلة الأولى لن يصدق المرء أنها هي تلك الفتاة الناعمة نفسها، هي شخصية كسولة كثيرًا، فما أن تقوم بأي مجهود ولو بسيط فإنها ستشكو من ذلك ليومين متتاليين، وظروفنا ساعدتها لتكون تلك الكسولة التي طلباتها مجابة وهي ممدة في غرفتها، كأنها أميرة لا تقوم بشيء ولا تدري عن شيء، جل اهتماماتها هو نفسها، فلا تمل من الحملقة والتطلع في هيئتها بالمرآة بوتيرة يومية، أيضا هي محافظة على مقتنياتها بالدرجة الأولى؛ فتراها تتحقق من كل ذرة تحركت من مكانها تخصها فتقوم الدنيا ولا تقعدها.
المتبقية هي أنا، فأنا إنسانة طموحة بالدرجة الأولى وقارئة من الطراز الأول، إنسانة متميزة متفردة بذاتي، لست في صدد الإشادة بما أنا ومن أكون ولكنها بشهادة من حولي والمحيطين بي أجمعهم، أحب القراءة حبا جما وأحب التطوع في أعمال الخير، ورثت جمال أمي منها بأكمله حتى صرت نسخة مطابقة ومصغرة لها، ذكية في الدراسة ومتفوقة فيها منذ الصغر، حادة الطباع أحيانا، ومرة الكلام أحيان أخرى، ولكني أحب إخوتي وأمي وأبي ولم أمل من إصلاح ذات شأنهم يوما ولن أمل، في بداية مراهقتي حدثت حادثة غيرت مجرى حياتي لتقلبها لحياة أخرى، تقبلت مجريات الحياة الجديدة بتفاصيلها وتعاريجها، ومنها تطورت وصرت على ما أنا عليه اليوم، وهي كالتالي:
في بداية السنة الدراسية في بداية مراهقتي انتقلت صديقتي المقربة مني لمدرسة أخرى، وكم كان وقع الصدمة علي هائلا وجبارا، فقد وجمت وبكيت لعدة أيام لأن انتقالها ما معناه أن علاقتنا لن تكون كالسابق، في حين أن بعض الفتيات تقربن مني في محاولة لمصادقتي، في بادئ الأمر لم أتقبل ذلك منهن، ولكني صادقتهن، كنَّ من ذوات السمعة السيئة والأفعال الشنيعة، تعرفت عن طريق إحداهن وهي الرأس المدبر على فتى يكبرني بثلاث سنين، وقابلته يوميا بعد خروجي من المدرسة بإشرافها، وفي إحدى المرات تخلفت عن المدرسة وذهبت معها وبرفقة بعض الفتيات اللواتي لم أعرف أسمائهن حتى، إلى الجلوس بالقرب من المدرسة والحديث المطول، لربما رآنا أحد المارة وأخبر المدرسة بذلك، هنا كانت الصاعقة كنت أشطرهن والوحيدة المتفوقة بينهن وذهلت إدارة المدرسة من تصرفي، وأخبرت بالطبع أولياء أمورنا، وكم كان الحدث غريبا جدا وذهل أهلي مني، وشارفت إدارة المدرسة على فصلي عن الدراسة ولكن بقدرة الله عدت إليها.
انتشر صيت الحادثة في أرجاء المدرسة وكم عاتبني الكثير ونصحني الأكثر، ولكني عدت لمرافقة تلك الفتاة واستكمال معرفتي بالفتى، لا أعرف لماذا ولكني متأكدة أنني كنت محتاجة في تلك السن الصغيرة واليافعة جدا أن أكون قريبة من شخص ما ينصحني ويهديني دون أن يعاتبني، كل ما أتذكره أن أمي وأبي كانوا يحذرونني من مرافقة رفقة سيئة وعدم جرها لي للشباب، ولكن لا أتذكر أن أحدا منهم قد جلس معي جلسة حوار وناقشني بالأمر، لربما هم أحد الأسباب الرئيسية في اقترافي لما فعلت، ولكني في النهاية المسبب الرئيسي لهذه المشكلة والملامة الوحيدة هي أنا، فأنا نفسي من جر على نفسه المتاعب والويلات.
كرت السبحة وعرف أهلي أنني عدت لمهاتفة الفتى نفسه وعوقبت بحبسي شهرا كاملا في غرفتي لا أخرج منها إلا للمدرسة، رافقت الفتاة حتى نهاية السنة الدراسية ولكن السنة لم تنتهي ببوارق خير إنما اشتكت بعض الطالبات في الصف الدراسي منا والإدارة اتخذت موقفها باستدعاء أولياء الأمور، وقد كانت إدارة المدرسة المتعاونة الوحيدة معي لأني المتفوقة الوحيدة من بين من تم استدعاء أولياء أمورهن، يومها عندما عدت للمنزل بعد حضور أمي للمدرسة فوجئت من ردة فعل أبي، فقد سبني وشتمني وهال علي الكثير والكثير من السباب، وأتذكر أنه قال حرفيا: "إنني متبرئ منك وسأتمنى ليوم الدين أن لا يوفقك الله حيثما ذهبت".
عندها عقدت العزم بقطع صلتي النهائية بتلك الفتاة، ولكم أستغرب اليوم من نفسي بمرافقة فتاة منحطة أخلاقيا كتلك، في تلك الفترة كانت هناك فتاة تعرفني وتحاول التقرب مني، هي مشهورة بأخلاقها العالية والراقية وتفوقها الدراسي، ولكم كانت تنصحني وتنصحني بالكثير والكثير ولم تمل حتى أصبحت صديقتها، وكم كانت سعيدة في أنها السبب في تغيري للأحسن، صداقتي معها لازالت مستمرة حتى اليوم، بعد حادثة المدرسة شطب أبي اسمي من قائمة أبنائه، فقد تجاهلني تجاهلا كليا، وكأنني إحدى الخدم اللواتي يعملن لدينا، أعيش حياتي في المنزل أثناء خروجه، ولكن ما إن يعود حتى ألازم غرفتي، كان عقابي هذه المرة هو احتقاري، وكأنني لست موجودة، في بادئ الأمر كنت ألازم الغرفة، ولكن مع مرور الأيام صرت أكثر شجاعة بالتكلم والمناقشة مع أمي وإخوتي أمامه، لمدة عام ونصف، لم أكن موجودة في المنزل، شطبوني من بينهم، ونبذوني، كلهم الملامون في الحالة النفسية التي عايشتها طوال عام ونصف، كلهم المذنبون، كان أخي الأكبر يحتقر وجودي ويشارك أبي في تجاهلي، حتى إنني لازلت أتذكر إحدى الحادثات والتي حطمت كياني عندما اشترى أبي آيس كريم، اشتروا حتى لخدم المنزل ما عداي، وأتذكر يومها أن أحد إخوتي الصغار كان نائما وأمرت أمي أخي الأكبر بإعطاء نصيبه لي، ولكنه قال سأرى ماذا يقول أبي، وكأنني لست موجودة على قائمتهم، أبديت لأمي أنني لست بمزاج جيد لأكل آيس كريم وإنني متعبة وأفضل الخلود للنوم، أعرف أنها لم تصدقني، وتعرف أنني هربت منهم ولكن الموقف كان أكثر من طاقتي، وأكبر من احتمالي، هذا الموقف تعجز ذاكرتي عن نسيانه، هو الأصعب بالنسبة لي فقد رأيت إثباتًا حقيقيًّا لما أشعر به.
أما أختي الكبرى فكان لها الدور الأكبر في تهميشي طوال العام والنصف، فكانت دائما تقول لي إنني المنبوذة في المنزل، ويجب علي أن لا أخرج معهم عند خروجهم، وإن أبي لا يمقت أحد في هذا العالم كما يمقتني، وكنت أصدقها حتى بانت لي حقيقة أخرى، في أحد المرات سمعت محادثة بين أمي وأبي حول أحد المواضيع وتكلم أبي عن ما يخصني بشكل عادي جدا، ولكن أختي بعد أن انتهى الحوار أتتني لتخبرني أن أبي يكرهني ولا يحبني وبدأت في تلفيق الحكايات حول كره أبي لي، ولكن هذه المرة لم أصدقها لأنني سمعت المحادثة كاملة ولم أسمع حرفا مما تقوله أختي، واجهتها بالحقيقة فنكرتها، ولكنها لا تزال تخبرني ذلك دائما، لم أعد أسمعها فيما تقوله حول هذا الموضوع وكنت أتجاهل كلامها، ولكن نارا تسعر في داخلي وكنت أتمنى أن تواتيني الشجاعة لأواجه أمي بما تفعله أختي من تحطيم نفسي ومعنوي لي وتهميش ذاتي، ولكن لم تأتني الشجاعة يوما لفتح هذا الموضوع.
عشت عاما ونصف في حالة نفسية يرثى لها، أضحك معهم، أتناوش معهم، ولكن أعرف في داخلي أن كل ذلك ليس حقيقيًّا، أغدق أبي طوال تلك الفترة أختي الكبرى بالهدايا، وكانت دائما تمتدح نفسها بأنها المفضلة بالنسبة لأبي، وأنها المحبوبة في المنزل، كنت أعرف في سري أن كل تلك الهدايا تأتيها ليشعروني بالامتهان والإذلال، ولكني صمدت ولم أستسلم لما فعلوه بي، كنت دائما مستمعة لا تتكلم، لا تسمع، لا ترى. طوال تلك الفترة شكوت سوء حالي مع أسرتي لصديقتي التي أخبرتكم عنها، كانت حسن المعين والمعاون، نصحتني، وأرشدتني، وخففت عني، وكم بكيت لها بحرقة لأنني لم أعد أطيق المنزل ولا أسرتي وأن كل ما يحدث فوق احتمالي، ولكنها خففت عني، وحاولت بشدة أن توضح لي أن هذه الحالة ليست نهاية العالم، وأن لدي الحياة بطولها وبعرضها لأن أصلح حالي مع أسرتي، ولكن لم يكن هناك أي بصيص أمل لدي في هذا الموضوع، ولكن أملت وأملت طويلا جدا، حتى أذن لي أبي بمعاودة مصالحته والتأسف له، يومها لم أنم الليل، ظللت أحلم وأحلم، وأتمنى الكثير الكثير، وانتظرت الصباح حتى أبشر صديقتي بأن أبي صالحني أخيرا، سخرت مني أختي كثيرا وحاولت إحباطي ولكني ولأول مرة صرخت فيها، وطلبت منها عدم التدخل في هذا الموضوع نهائيا.
طويت صفحة هذا الموضوع في المنزل ولكنها ظلت مفتوحة في قلبي، كل ما فعلوه يصعب علي نسيانه، يصعب علي نسيان الليالي اللواتي قضيتها في البكاء بحرقة، يصعب علي نسيان أنني كنت أضحك وأنا أشتعل من داخلي، يصعب علي تقبل فكرة معاداة أخوتي لي من دون سبب، ولمجرد أن أبي احتقر وجودي، يصعب علي تقبل فكرة أن من آذاني نفسيا هم أهلي نفسهم، ما عدا أمي فقد كانت في تلك المحنة تؤازرني وتحاول فرضي في المنزل عليهم شاءوا أم أبوا.
كل ما فعلوا في تلك الفترة وكل ما ذقته أعطاني دفعة معنوية ودافعًا قويًا لأتمسك بأحلامي وآمالي، وأتشبث بـ"الطموح اللامحدود" اليوم بعد خمس سنوات من تلك الحادثة، صرت أكثر نضجا وأشرقت نفسي، تفوقت في مجال الحاسب الآلي، حتى إنني في المدرسة كنت المفضلة بالنسبة لمعلمات الحاسوب، بكل السبل والوسائل حاولت تصحيح فكرة أهلي عني، وكسب ثقتهم، ولكن ما إن أبدأ في الحلم، حتى أسقط على وجهي من وقع صدمة الواقع، ولكن لم أستسلم لشيء، دخولي عالم الحاسوب ونبوغي فيه جعل مني إنسانة متصالبة، غير يائسة، صبورة وقنوعة، حاولت المشي قدما في طريق أجهل حتى تفاصيله، ولكني تحليت بالشجاعة والإقدام، وجاهدت في سبيل تصحيح صورتي أمام منظور أبي، ولكن يبدو أني كنت أسعى في الخواء، وفي كل مرة أتيقن من ذلك أكثر من سابقتها.
في إحدى ليالي عطلة الصيف، وأنا منشغلة بتعلم بعض دروس البرمجة من أحد المواقع، دخلت شاتا بطلب من صديقة تعرفت عليها من الإنترنت، وجرتنا الأحاديث لأن أتحدث عن منتدى قديم جدا شاركت فيه في أول بداياتي بالإنترنت، انتهى الحوار وودعتها على أمل اللقاء بها في وقت لاحق، في اليوم التالي دخلت في الصباح الباكر لأجد أحد المراقبين في الشات يحييني بحرارة وعمق، لم أبدِ أي تصرف، فاجأني سؤاله بأنه يعرف المنتدى الذي تكلمت عنه بالأمس مع صديقتي، لم أعره أي اهتمام، وماذا أفعل إذا كنت تعرف المنتدى نفسه؟
نحن في عالم الإنترنت والصدفة عملة شائعة جدا؟ ولكنه أصر على معرفة هويتي في ذلك المنتدى، أخبرته ذلك بعد مراوغات طويلة، فما رأيت منه إلا الفرح والتحايا وانهال علي بالأسئلة وأين كنت طوال تلك السنوات؟ في حين كنت بدوري في قمة التعجب والاستغراب، فمنذ قليل يحيني غريب لا أعرفه بحرارة وعمق وكأنه يعرفني، طلبت منه معرفة هويته في ذلك المنتدى، حاول أن يجعل ذلك لغزا، وبدأ هو يعطيني مفاتيحه، ويحاول استذكاري ببعض الأمور، ولكني عجزت عن تذكر هويته، فبادر بإخباري، وكم كانت صدمة كبيرة! أيعقل هذا! بعد كل هذه السنين والتي تركنا جميعا فيها هذا المنتدى ألتقي بأحد الأعضاء المميزين والمحترمين جدا، أخبرني بأن هذا الشات إضافة إلى المنتدى تعود ملكيتهما لابن خالته والذي كان أيضا أحد الأعضاء المميزين معنا في المنتدى، تجاذبنا أطراف الحديث، واضطررت أن أودعه ولكنه فاجأني بأن رجاني للدخول مرة أخرى وأنه سيحضر لي مفاجأة كبيرة لن أتوقعها، وعدته بالدخول في المساء، ولكن لظروفي لم أستطع الدخول حتى يوم آخر، وما إن دخلت بعد يوم لأجد الترحيب كبير جدا ومن كل الأفراد المتواجدين بالشات وينادونني بالاسم الذي استخدمته في ذلك المنتدى السابق والقديم، تفاجأت... من أين يعرفني كل هؤلاء؟ ومتى تسنى لي الوقت لأن أعرفهم؟ وبدأ كل واحد منهم بالتعريف عن نفسه باستخدام هويته في ذاك المنتدى، يا لصدف القدر؟ كنت فرحة جدا بلقائي كل هؤلاء الأناس الطيبة والذين تعلمت على يدهم ما أنا اليوم أعلمه لغيري؟ كم أشكرهم من صميم قلبي.
ظللت أقضي وقتي في الصباح من كل يوم معهم، نتحادث في كل الأمور، أعجبني بتميز رأي وفكر الشخص نفسه الذي التقيته أول مرة وعرفني على جميع الأصدقاء القدامى، وبدأ هو أيضا يميل إلي، ولكني صددته كما صددت أي أحد حاول الاقتراب مني، وعاملته معاملة عادية ولم يبدر مني أي تصرف يجعله يظن أنه مميز في نظري، هو من السعودية ويدرس في مدينة أخرى غير مسقط رأسه مع ابن خالته وصديق له، بدوري لم أعطه أي تفاصيل عني، حاول التلميح أكثر من مرة بأنه معجب بأخلاقي وفكرة أنني انخرط معهم باحترام ولكني فضلت صده وبقوة حتى لا يميل إلي.
بدأت الدراسة وعدنا لمقاعدها، انقطعت أول الأسابيع ولكني صرت اشتاق إليهم ولمحادثتهم، كانوا يثقفونني دائما، ويعاملونني كالأخت الصغيرة المدللة، كنت أفضل محادثتهم على الدراسة، ولأنني أستغل ذكائي دائما فكنت أعرف مسبقا بأنني ومع قليل من المراجعة سأحصل على العلامة الكلية، كما أحصل عليها مع كثير من المراجعة، وطبعا في ذاك الوقت كنت أفضل القليل منها وقضاء الوقت المتبقي في محادثتهم، في تلك الأثناء حاول صديق ذاك الشاب بملاطفتي والتكلم بنعومة معي، ولكني صددته ولكن ظل على رأيه وأخبرني أننا في البداية نريد مجرد صداقة عادية، أخبرته بأنني سأفكر، ولكني لم أتكلم معه في هذا الموضوع مرة أخرى، وهو لم يتجرأ على السؤال.
طويت صفحة هذا الاتفاق إلى الأبد، لأنني لم ولن أفكر في صداقة كهذه، ولكني ظللت على محادثة الشاب نفسه لأوقات كثيرة، لا أعرف ما الذي كان يجمعني به ولكنني ارتحت له كثيرا وتعلمت منه الكثير، وحاولت إصلاحه في أمور الدين، وكم سررت لإقناعي له بالإقلاع عن التدخين، وسرتني أكثر عزيمته، لم يكن يقص علي يومياته، ولم أساله فيها يوما، وكذلك بالنسبة له معي، كنا نتحدث طويلا في أمور شتى بعيدة كل البعد عن الحب أو الغرام أو عن مشاكلنا وهمومنا، ولكن في ذات مساء استأذنني أن أعطيه فرصة التفكير في علاقتي به، أخبرته بأن ما يجمعني به سوى حروف، وأن بيننا آلاف المسافات التي تفصلنا بالمسافة والمادة والمستوى الاجتماعي، في تلك الليلة تأكد أن هناك الكثير من الأمور التي تفرقنا لا تجمعنا، فأنا متيقنة بأن أهلي ليسوا من الناس الذين يحبون المغامرة في علاقة شاب مثله مجهول الهوية مع ابنتهم.
استمر الحال معه حتى صرت لا أفارق شاشة الحاسوب، وفي إحدى المرات استأذنني أن أخبره بعض الأمور عني، والتي هو يجهلها، أخبرته بعدة أمور عامة إضافة إلى كوني غير متحجبة وأنني فتاة "سبورت" كما نقولها بالعامية، يومها لمست تغيرا في أسلوبه معي، أخبرني بأن علاقتنا كان يمكن أن تكون في النور، ولكنه من أسرة محافظة كما هو الحال في المجتمع السعودي، ولا يقبل هذا المجتمع أن يتزوج بفتاة مثلي، وإن أراد فتاة مثلي فعليه أن يضحي بأهله من أجلي، وهو لن يضحي بأهله من أجل الزواج، ولكن إن كنت أنا مستعدة للتضحية بأهلي ولبس الحجاب فهو حاضر وبإمرتي، لم أعر كلامه أي اهتمام، فهو مجرد صديق وأخ يعز علي، كنت أضحك في سري على كلامه، ومن قال بأننا سنتزوج؟ كان ذلك تفكيري يومها، ولكن الواقع كان شيئا مختلفا تماما، فأنا منجذبة انجذابًا كليًّا لهذا الشاب، وهو أيضا، كان في كل عطلة نهاية أسبوع يسافر لأهله في مدينتهم، ولكن ما أن تعمقت علاقتنا حتى كان يفضل التحدث معي على السفر إليهم، مع الوقت صار يشغل هو كل تفكيري، حتى إنني ناديت أحد إخوتي سهوا باسمه في إحدى المرات، ولكن أخي لم يعر ذلك انتباها فقد كنت شبه نائمة.
تعلقت بعالم ذلك الشاب، لم أكن أقضي وقتا كبير من يومي إلا معه، كنت يوميا أحادثه إلى ما بعد منتصف الليل، وأحيانا إلى الفجر، وبعدها أستيقظ للمدرسة، وما إن أعود منها حتى أنام حتى المساء وعندما أستيقظ أعود لمحادثته، كنت أحفظ جدول محاضراته في الجامعة عن ظهر قلب، فكنت أعرف متى سيكون متواجدا ومتى لا، لذلك أضبط المنبه على ذلك. ستتساءلون أين الدراسة من اهتمامك يومها؟ سأخبركم بأنني من فئة الناس الذين ما إن يركزوا أثناء الشرح في المدرسة حتى يحفظوا ذلك، فلا أتذكر أنني كنت أدرس بتاتا جل ما أفعله هو حل الواجبات إن كانت مطلوبة، ولكن مع ذلك كانت العلامات الممتازة لا تفارقني، حفظت سر علاقتنا لنفسي، لم أبح به حتى لخيالي، في إحدى الليالي اعترف لي بأنه أحبني، كنت أبادله نفس المشاعر ولكني كنت في صراع داخلي ما بين عقلي وقلبي، فلم أكن أفكر في البوح بذلك.
كان دائم السؤال عن إلى أي مدى يريد لعلاقتنا أن تصل؟ كنت أتهرب من الإجابة، لا أعرف لماذا ولكنني كنت صغيرة يومها في الخامسة عشر من عمري، كنت دائما أفكر بعقلانية ولا زلت، لذلك لم أصل في علاقتي معه للتهور من أجل الحب، فهذه الحياة وإن حوت من الحب الشيء الكبير، إلا أنها تحتوي على أشياء أكثر أهمية وذات معنى أيضا.
حاول ملاطفتي في هذا الموضوع لفترة طويلة ولكنني صددته كثيرا في ذلك، كنت متيقنة في داخلي بأنه ونعم الصديق الذي انجذبت إليه في فترة كنت بأمس الحاجة لأحد ما، ولكن في الواقع كنت مشتتة ما بين أن أحبه أو أن أبتعد عنه، في إحدى الليالي سمحت له بالبوح بكل ما يختلجه قلبه وعقله من مشاعر كنت مجرد قارئة لا متحدثة، في الحقيقة كان قلبي تتسارع دقاته، وكان عقلي يعجز عن التفكير فيما لو طلب مني الرد عليه، يومها أحسست إحساسًا لم أحسه من قبل في حياتي، خفت، وأحببت، أحيانا كنت أقنع نفسي بأن هذا الشخص لم يكن حبا وإنما كان انجذابا، انقطعت يومان عنه للتفكير في علاقتنا وما ستؤول عليه، صدماتي في الحياة علمتني أن لا أثق بإحساسي ولا أنجرف وراء عواطفي، توصلت لنتيجة وهي أن أقطع علاقتي به، لم أعد لمحادثته بتاتا، هجرت الكمبيوتر لمدة شهرين، ومن حسن حظي أنها كانت فترة امتحانات نهائية، لذلك كان هناك ما يشغل وقتي ألا وهي الدراسة، تغيرت نظرتي لكل شيء، بكيت كثيرا ربما من الألم أو الشوق أو الرهبة أو الخوف أو الفرحة، لا أعرف ما هو الإحساس الذي كان ينتابني، ولكني كنت متيقنة بأنها فترة من حياتي وسأتخطاها كما تخطيت ما سبقها.
بعد 3 شهور تصادف أن رأيته في "الماسنجر"، كان اللقاء الأول منذ شهور، لم يحاول التقرب مني كعادته، ولم أر الشوق في كلماته، لكنني أحسسته كالغريق الذي رأى طوق النجاة على حين غرة، ولكنني لم أتأثر كنت مصممة في قرارة نفسي أن نهاية علاقتي به ليس بالضرورة أن يعني نهاية صداقتنا فقد تنتهي المحبة ولكن يبقى الاحترام والتقدير، كانت أسئلته عامة جدا عن أخباري وأخباره وسفرنا في عطلة الصيف، كلمته وكأنه شخص عادي لا يعني لي شيئا، في اليوم التالي رأيته في نفس توقيت اليوم السابق بالضبط، حادثته وتكلمت معه، الفرق هنا أن محطات السكون كانت كثيرة نظرا لأننا نتوخى الحذر في كلامنا مع بعضنا، قال جملة رتبت أولوياتي من جديد: "مالنا يومين راجعين لبعض" وعدته بالدخول أيضا في اليوم التالي، ولكن تلك الجملة كان لها الوقع الأكبر في نفسي، من قال أننا رجعنا لبعضنا؟ من قال إنه صار يعني لي كما كان سابقا؟
بعثت له برسالة عبر الإيميل أخبرته أن ما نفعله غير صحيح، والواجب أن نفكر بعقلنا لا بقلوبنا، وبأن جملته التي قالها بالأمس هي التي حسمت الموضوع، فما كان بيننا لم يكن تبادل لمشاعر الحب بالعلن وإنما كان الحب في رسائل صامتة، وأنني اليوم أكثر نضجا وشجاعة لقول الحقيقة التي كنت أخفيها عن نفسي، بعثت تلك الرسالة وأنا ممزقة بين شعور بالاطمئنان لنهاية هذا الحب الذي لم يكن لتكتب له الولادة على أرض الواقع، وشعور بالخوف من ردة فعله لعدم قدرتي على مواجهته بالحقيقة بدلا من أرسل رسالة، انتهت علاقتي فيه دون رجعة أي منا إلى الثاني.
أعرف في داخلي بأن ما فعلته لأنهي هذه العلاقة كان غير صائب ولكن ما الحل؟ فأنا أضعف من قول الحقيقة له، وأضعف من مواجهته، كنت أعرف أنني لو كلمته سأضعف و أؤجل الموضوع لوقت لاحق، إحساس بالراحة غمرني وفاض بي، كنت لطالما تمنيت أن أقف في وجهه بالحقيقة، ولكنني كنت أضعف لمجرد رؤيته، أعرف أن طريقتي لإنهاء ذلك كانت خاطئة ولكني فضلتها لأنها ستنجز شيئا في النهاية.
انتهت الحكاية وطويت صفحتها من عقلي، أتذكره بين آن وآخر ولكني أبعد الذكرى وأشغل نفسي بأي شيء آخر، تمنيت أن أعرف ما هو إحساسه عندما لقي مني كل هذا التعقل في علاقتنا وأنا الأصغر عنه بست سنين، إحساس بالذنب ينتابني أحيانا، ولكنه أفضل من الإحساس بالمعصية، "هو" كان فصلا مشرقا في حياتي، على يده تعلمت الكثير والكثير، ثقفني، علمني، هذبني، ونصحني، كان خير معلم وكنت خير تلميذة.
اليوم فأنا لم أكن تلك الفتاة التي كانت قبل سنوات، شتان بين محطات حياتي تنقلت فيها بهوى مائج، وتحملت تبعاتها برضوخ، ولكني عايشتها واستبقيتها، في السابق كنت خير وليمة لرفقة السوء، ذلك ما أثر سلبًا علي مع أسرتي وأبي خاصة، وفجأة أرى نفسي بين يدي شاب لا أعرف عنه شيئًا خلا ما يقوله، ولا أدري إن كانت حروفه حقيقية أم مزيفة، وأرى نفسي هائمة به، وأحاول التعقل بعلاقتي به ووزن الأمور في كفتين، ولكن قرار إنهاء العلاقة رجح في الكفة الصحيحة، وما كان مني إلا الاحتفاظ بالذكرى، لست نادمة على ما حدث، أردته بملء إرادتي ولم يجبرني عليه أحدا، كنت قد أعطيت نفسي سابقا فسحة من التفكر والتدبر في مجرى الأمور.
اليوم عندما تهب رياح الماضي وتدور بالقرب مني، أختلس النظر فيها وأطيل في الذكرى، جميل أن يحمل المرء مشاعر الاحترام في ظل فقدان مشاعر المحبة، صرت أكثر تدينًا ونضجًا، بت أفكر قبل أي قرار اتخذه، صرت رفيقة قريبة من أمي، حتى أن أغلب وقتي في المنزل أقضيه معها، وخارجه أيضا معها، تبلورت أمامي أهدافي وما أريد أن أكون عليه مستقبلاً، وصرت أحلم وأحلم وأحلم، أرادت أمي أن أدرس الهندسة، وافقتها الرأي، ولكن بعد فترة بت أميل إلى التصميم الجرافيكي بشدة، احترت من إخبارها، فما أريده لست أضمنه مستقبلا، ولكن ما تريده هي فهو مضمون، اشتركت في نشاط صيفي، رأيت كل من في عمري يريد أن يكون ما يحلم به، ليس ما يحلم به أبواه، هنا واجهتها فأنا أريد أن أدرس ما أختار وليس ما يختار لي، لم تتقبل ذلك مني، وبدأت في إخبار الجميع لكي يقوموا بنصيحتي للعدول عن ذلك، ولكني قابلت ذلك بإصرار، فإذا هي ترضخ للواقع وبدأت تسأل من تعرف عن هذا المجال، وما إلى ذلك.
أنا اليوم أعيش حياة مررت فيها بالكثير وبالكثير، أب يخون زوجته، زوجة تلاحق زوجها للإصلاح من شأنه، ابن مهمل وطائش، ابنة غامضة الشخصية، ذلك محيط عائلتي، وإن كنا أحيانا سعيدين، ولكن أين السعادة في ظل معصية الله؟؟ فلا أحد يصلي في هذه العائلة خلا الفتيات وأمهم، سأحاول الإصلاح من شأنهم، لن أيأس، يا أيها السادة الكرام وضعت بين يديكم صفحات حياتي، وفضفضت حروفها لكم، أريد أن تناقشوني، تعاتبوني، أريد أن أرى الصواب والحكمة، أريد أن تفصلوا بين كل مشكلة وأخرى، فأمي أمر، وأبي آخر، وأختي أيضا أمر ما، وأخي أيضا، وأنا أتبعهم، كل منا لديه من الأمور ما يثقل كاهله، ولكن ما يجمع بيننا أننا نريد أن نحيا فقط على ظهر السفينة التي كادت تغرق، ولكننا تمسكنا بالنجاة، وحقيقة أجهل ما هو الأمل الذي نتشبث من أجله بالحياة.
الصيف الماضي كان من أجمل العطل التي قضيتها في عمري على صعيدي الشخصي أنا، شاركت في برنامج شبابي تدريبي يعتمد على الألعاب والمسابقات والمناقشات في سبيل تعليم وتلقين أسس القيادة والريادة لنا كشباب المستقبل، خضت أيام التقييم ونجحت فيها وقُبلت لدخول البرنامج، كنت أيضا مشاركة في نشاط صيفي صباحي، ففي الصباح أنا في النشاط الصيفي ومن العصر حتى المساء كنت في البرنامج الشبابي، كم جميل أن يكون الإنسان شيئا مهما في مكانٍ ما وفي زمنٍ ما، وأنا كنت كذلك، في البرنامج كنت جزءا من فريق من أحد الفرق التي وزعنا عليها شبابا وبنات، تناقشنا، تناوشنا، تمازحنا، كان جوا صافيا لا يسوده عكر أو شيء من هذا، تعلمت أن أكون واثقة بنفسي، صبورة، حكيمة في إسداء الرأي فربما هذا الرأي أحبط من عزيمة الفريق، حقا من أجمل العطل الصيفية التي قضيتها في حياتي، في نفس هذه الأيام كانت أمي قد اكتشفت للتو عن طريق محض الصدفة رسائل غرامية SMS لأبي وعدد من السيدات وليست واحدة للأسف، وقع عن طريق الصدفة في يد أمي هاتفٌ استخدمه أبي لفترة محدودة عندما كان هاتفه معطلاً، أصبحنا في دوامة وكدنا أن نغرق فيها، أمي محطمة جدًا، فمن يقرأ تلك الرسائل بالفعل يكاد يغمى عليه من وقع الصدمة، تلك الرسائل في طياتها تعبر عن شخصية أخرى ليست أبي نفسه والذي نعرفه نحن.
كل صباح توصلني أمي في طريقها إلى العمل إلى نشاطي الصيفي، وظهرا أعود معها إلى البيت نتغذى وترجع توصلني إلى البرنامج وفي المساء تعود لتقلني منه، جميع أحاديثها معي في هذه الأوقات تكون عن أبي، عن خياناته، عن "الساقطات" كما تلقبهن هي، عن إهماله لها ولنا، عن حاجاتها كامرأة، كدت في بعض الأحيان أنفجر في وجهها ولكني كنت أتمالك نفسي، إحساس بالضغط الهائل تملكني، أبي هو الفرد الوحيد على هذا الكون وهذه المعمورة؟ أروح بدوري لقلب الموجة وإخبارها عن تفاصيل يومي، ولكنها تعود للتكلم عن أبي وساقطاته، كنت أتمنى لأقاطعها يوما وأخبرها بأنني أريد الحديث أيضا معها، ومن حقي ذلك، ولكن شيئا ما أخبرني في داخلي فلتدعيها تفضفض أحاسيسها، فالكبت يسبب الانفجار.
وبسبب أن يومي ينقضي وأنا خارج المنزل ألازم أمي، قاطعني أبي حينها بدون أدنى سبب، ومن شدة غباوتي قاطعته أنا أيضا بدوري، فلم أكن ألقي عليه أي تحية عند دخولي المنزل وكأنه غير موجود، كنت في ظني أقول "تماما كما اعتبرني"، ولكن غلطة الآباء تغتفر وغلطة الأبناء لا، ولأن أمي كانت تلازم غرفتي معي في ذاك الوقت، كنت أقضي ما تبقى من يومي معها في الحديث والاستماع لفضفضة همومها، ولكني فوجئت بأبي يطردني من الصالة يوما ما ويأمرني بلزوم غرفتي ويلقبني أنا وأختي الكبرى بعصابة نشكلها وأمنا معنا، يومها بكيت، راودني إحساس فضيع بأنه متجرد من مشاعر الإنسانية، ارتكبت غلطة وأنا أعترف عندما أشركت مشكلة بين أبي وأمي بنا نحن الأبناء، ولكن أليس هناك مجال للتفاهم والأخذ في أسباب المشكلة، ألم يستطع الجلوس معي والتناقش في هذا الأمر، والتأكيد على أن الأمور التي تحدث بين أمي وأبي لا دخل لنا فيها نحن.
مرت السحابة السوداء وأخيرا بعد أسابيع من أمطارها لنا بالكثير من المشاكل، ولكن كرت السبحة، وعاد أبي وساقطاته (اعذروني على هذا اللفظ) وانفجرت إحدى القنبلات ليلا في منزلنا، بعد أن رأت أمي بعض المسجات والدلالات، حاول أبي أن يخيف أمي بإسكاتها عن طريق ضربها، ولكن أخي الكبير كان له بالمرصاد.. أوقفه من ضربها ومنعه من ذلك بوقوفه كحاجز بينها هما الاثنين، عندما رأى أبي أننا كلنا ندافع عن أمي ونحاول إبعاده عنها، بدأ يشتمنا ويهددنا بالسفر لدولته الأم وعدم الرجوع منها.
أعترف بأن أكبر خطأ عندما يتشاجر الأبوان أمام الأبناء، ذلك يولد لديهم إحساسًا بالنفور من كليهما أو أحدهما و أحيانا من المنزل نفسه، ولكن بعد سنين طويلة من تكرار هذا الموضوع أمامنا أصبح شيئا عاديا متوقعا في أغلب الأحيان، وإن كنا نكون في حالة توتر وترقب لما سيلي، ولكننا كنا قد اجتزنا جميعا مرحلة الارتعاب من صراخهم وضرب أبي لأمي وفظاعة الموقف بأكمله.
هذه النقطة أعتب عليهما كليهما ليومي هذا لأنها ولدت لدى جميع إخوتي وأخواتي بما فيهم أنا العصبية والهجوم وأحيانا الضرب، أوليس ذلك ما يفعله أبوهم؟؟!! وحتى إن حاولت الإصلاح في نفسي وأصلحت ولكن إخوتي من لهم، لا سلطة لي عليهم ولا أذن تسمع. تعبت من الجري وراءهم ابتغاء في إصلاح ذات شأنهم من مخلفات مشاكل أبي المتهم الأول في سببها وأمي تليه.
لست أضع اللوم على أمي فليس هنالك نهاية لصبرها اللامحدود "كم عظيمة هذه المرأة" ولكن كان يمكنها تجنيبنا كل ذلك الموقف، الدموع، الألم الدفين، الخوف، التوتر وكل ما تخلفه مشاكلهما هما الاثنين، ولأضع أمي في الصورة كنت كلما قرأت مشكلة في موقعكم عن الخيانة طبعتها وأعطيتها إياه، هذه الخطوة مني كانت من أجل أن أخبرها كم كان صبرها عظيما على رجل كأبي، وأنها ليست الوحيدة التي تعاني من رجل كاذب، خائن، مهمل لزوجته وأولاده معنويا لا ماديا، أيضا لتساعدها الاستشارة في اتخاذ موقف جديد من أحد المواقف الكثيرة التي اتخذتها لإصلاح طريق هذا الرجل الملتوي، ولكن يبدو أن زوجا كأبي متعب جدا حسم الموقف معه صعب! لقد تعبت وتعبنا من حمل هذا الهم، عندما أخبرها عن ذلك تقول: "أنتم لستم مجبورين لتحمل تبعات أبيكم.. عيشوا حياتكم.. أنا من سيتكفل بإصلاحه.. وانسوا أن أباكم سيء لهذه الدرجة!!.
هل النسيان نعمة جليلة لهذه الدرجة، أيمكن لنا نسيان أن أبانا رجل منحرف أخلاقيا ودينيا!! كم هو مخزٍ هذا الشعور!! أنا لا أقول أن أبي سيء لهذه الدرجة، ففي المجتمع الخارجي لا محيط عائلته وعلاقاته المنحرفة عن السلوك، هو رجل مشهور بطيبته وكرمه، الكثير يعرفه والكثير يمدحه والكثير يهديه ما غلا ثمنه من الهدايا والعطايا، آآآه هل يعرفون بحقيقة هذا الرجل، ربما إن عرفوا شيئا منها لبصقوا عليه، منذ فترة وقبل امتحاناتنا النهائية مات أبو إحدى صديقاتي وهو يصلي في المسجد فجرا ساجدا، يومها بكيت، لعائلته كل الحق في الافتخار به حتى بعد مماته، فقد كان رجلا خير الأخلاق والعشرة، ومات خير ميتة.
أما أبي فأين اسمه في قائمة الإعراب؟؟ كيف سيموت؟؟ هل سنفخر به أم سيذلنا ويهيننا بموته؟ ذلك الرجل مات بشرف، أهداه الله خير خاتمة له، وذلك دليل على أن سيرته حسنة، أما أبي فما الخاتمة التي ستكون في انتظاره؟؟ سؤال أطرحه على نفسي كثيرا.. أرسلت لعدد من أئمة مذهبنا الجعفري لسؤالهم عن واجبنا تجاهه وهو لا يصلي وخائن لزوجته، حكيت لهم قصة معاناة أمي معه، وضربه المبرح لها، فردوا جميعه علينا بتركه لحاله إن كان في محاولة إصلاحه مضرة لنا، وإن كان في عمر لا يمكن إصلاحه، فقد مضى الكثير وبقي القليل، فعلا إنه حل ولكنه مؤقت!.
غدا سنتزوج جميعنا ويخلو المنزل منا فمن سيتبقى لأمي هذه الإنسانة الرائعة التي ضحت بكل حياتها لنا، أدعوا ربي دائما لهدايته، أرى في عيون جميع إخوتي إرادة الخلاص من هذه المحنة والتي دامت عشرين سنة، وإن لم نعايشها بأكملها وإنما منذ فطن كلٌ منا لذلك، ولكنه لا زال يحتفظ بذاكرته مما عرف، "يا الله" إلى متى ستستطيع أمي الصبر عليه؟ كنا دائما نسألها هذا السؤال.
إن ما يجمع أمي وأبي في هذا الزواج هو نحن، أولادهم وبناتهم السبعة، أمي لا تستطيع طلب الطلاق لأنها لا تملك المادة الكافية لإعالتنا وإدخالنا المسار الجامعي، وأبي بسبب أن هذا المنزل وهذه العائلة هي ملجؤه وملاذه، وإن كد عمره وشقاءه هو نحن وهذا المنزل الفخم الذي نسكنه، ولكن إن وجب عليهما العيش معا فعلى الأقل يجب على أبي أن يحترم مشاعرها.
في ذاك الصيف أيضا اكتشفت أمي أنها حامل، كم كانت فرحة، ولكن أبي أمرها أن تجهض الطفل، حينها أخبرته بأنه إن كان يريد الطلاق فليكن ولكن الطفل سيحيا ويعيش، ولكن يبدو أن لعنة من أحدى ساقطات أبي تتربص بأمي، فقد حلمت وبينما هي تغفو قليلا بأن أحد الساقطات السابقات لأبي تزورها في المنزل وأمي تضربها، انتهى الكابوس، ولكن ظل إحساس بالخوف يراود أمي، ما معنى هذا الحلم وما مغزاه؟؟ في اليوم التالي في الصباح وبينما هي في العمل نزفت وسقط الطفل مع النزيف وهي في شهرها الثالث، كانت تخبرنا وهي تبكي أن في ظنها أنها كانت حاملا بتوأم، لأن كتلتين من الدم قد سقطتا منفردتين، إحساس بالسعادة رأيناه في ملامح أبي، هذا ما كان يريد، لم يحاول مواساتها ولا مؤازرتها، لامته كثيرا على جفائه وصدوده ولكن الوضع لم ينصلح... آه يا أمي المسكينة كم عانت وشقت مع هذا الرجل المتعب فعلا.. أحيانا أحس بأني لا أكن له أي مشاعر، أحس بأنه لا يعني لي شيئا، بسبب كل ما فعله بها وبنا، لقد حملنا مسئولية أخطائه بطريقة غير مباشرة، صرت اليوم في عمر وسن يسمح لي بالتفكر والتدبر والنظر في مجرى سير الأمور، ومحاولة فرض شيء جديد لم تعتد هذه العائلة عليه، ربما سيتضايقون مني، حسنا ذلك، ولكنهم سيشكرون مسعاي في ذلك يوما ما.
أعرف أنني أسهبت طويلا وطويلا... ولكن اعتبروني ابنتكم التي تفضفض لكم، اعتبروها فضفضة طويلة جدا، لا أريد أن تؤخذ رسالتي كاستشارة ولكنها كمشكلة عائلة تدمر أفرادها، اسمحوا لي على استبقائكم كثيرا في هذه الرسالة ولكني كتبتها في أسابيع طويلة، أكتب وامسح وأعيد الصياغة من جديد، تعبت فيها كثيرا، طبختها على نار هادئة، لا أبدأ الكتابة إلا حين أكون في مزاج يسمح لي بذلك، فخذوني بمهل كابنة ضاعت في مشاكل أسرتها وأسرة غارقة في مشاكل ربان سفينتها، تابعت ذات مرة إحدى حلقات الشهيرة Oprah Winfrey وكان محورها عن الاكتئاب، عرضوا مظاهره ومسبباته وحالاته، رأيت في مظاهره الكثير مما أصابني في السنة والنصف اللاتي عشتها بجحيم مع عائلتي عندما كان أبي يقاطعني، فهل كنت قد أصبت بالاكتئاب وتخطيته؟
فأنا بطبيعتي مرحة جدا، هنا بدأ الشك يساورني، هل حالاتي النفسية التي مررت بها كانت من جراء الاكتئاب؟ أنا لا أدعي أنني أصبت به لكي أكون الضحية في مشكلته، أنا أخطأت وأعترف بذلك، ولكني كنت أحتاج النصيحة بهدوء لا الصراخ ولا السب ولا اللعن كما حدث لي، إنني فقط أقول أن بعد متابعتي للحلقة تبين لي أنني ربما أصبت به في تلك الفترة، ولكن يبدو أنني تخطيته الآن، فكل مظاهره عندما أستذكرها في موقع أوبرا الإلكتروني أجد أنها لا تناسبني بتاتا، الحمد لله إن كنت تخطيته هذا إن كنت مررت به أصلا، والحمد الله أنني تخطيت كل مشاكلي التي كانت تؤرقني، وبقي القليل، وبمساعدتكم أن شاء الله سأتخطاها.
كما أني تابعت فيلمًا ذات مرة كان اسمه Dairy of mad black women حيث أصيب زوج البطلة بشلل كلي، وهو الذي احتقرها ومنعها من الذرية ولم يحسن لها وخانها أيضا، وحين أصيب بالشلل انتقمت منه، حيث ترميه بالطعام ليراه ويتحسر عليه، وترميه في حوض الاستحمام بدون أن تهتم به قط، في حين أن إحدى قريباتها أخبرتها بأنها إن حصلت على فرصة لتؤذي من آذاها فذلك يدل على أنها لم تتخط ما فعله بها، ولم تسامحه، تلك الجملة أثارت فيّ الكثير من المواجع، من آذاني من أهلي نفسهم، فكيف أتخطى ذلك؟ كيف أسامحهم وأنا أراهم أمامي في كل يوم وفي كل ساعة وكل ثانية، ذلك موجع للقلب!!.
كيف يمكن لي أن أتخطى كل تلك الإساءات والاحتقار والمهانة والذل كله؟ فهل يجب علي أن أتخطى كل ذلك لأعيش في سعادة أبدية، وكيف لي ذلك فهل أملك قلبا من حجر؟ أم أن مشاعري متبلدة لهذه الدرجة؟ لا أعرف شيئا سوى أنني لا أستطيع المغفرة فذلك يوجعني كثيرا ويهين مشاعري!!! إن ما حدث لي من مشاكل مع أسرتي، في الماضي أظهرت ما يخفيه القلب من أحقاد غطاها الزمن، في حين أنني أحب أسرتي كثيرا من كبيرهم حتى صغيرهم ولا أرضى لهم ذلا ولا هوانًا. كيف السبيل؟ وأنا متقلبة المشاعر تارة أحبهم وتارة أمقت حتى مجرد ذكرهم!!! كرت السبحة وحملت أمي مرة أخرى في بداية هذه السنة، ولكن أبي كان مصر على أمي بوجوب إجهاض الطفل، هنا أمي ثارت في وجهه فأخبرته كيف يتجرد قلبك من الإنسانية؟ كيف يهون عليك فلذة كبدك؟ ولكنه أخبرها بأنه اكتفى من الأبناء ولا يريد المزيد.. انتهى النقاش في هذا الموضوع في ظن أمي ولكن أبي كان يبحث السبل لإقناعها أو إجهاضها، هنا المصيبة وقعت.
حدث شجار بين أبي وأمي عن خياناته كالعادة، ظنت أمي أن بتهديدها له أمام أبنائه بخياناته سيخجل، لكن ردة فعله كانت عكس ذلك، فبدأ بالشجار والخناق مع أمي ونحن نحاول إبعاد أمي عنه حتى لا يضربها وهو يفعل، كنا خايفين عليها وعلى الطفل، ولكنه يبدو أن خطط لإجهاضه مهما كلف الأمر، فبدأ بضربها وضربنا لإبعادنا عنها، وفي حين أني اقتربت منه أبعده عنها، فما أرى إلا أن الموجة انقلبت علي، فبدأ يهم بضربي إلا أن أخي البكر وقف في وجهه، وهددني بأنه لا يريد أن يسمع صوتي، وأنه لن يتردد في دفني في مكاني فيما لو اقتربت منه، فصار يجب علي أن أرى وأسكت، وكان محظور علي الاقتراب مخافة على حياتي، وبدأت أمي تعلو بصوتها، وتسبه، وتلعنه، وتلعن ساقطاته، وتعايره بالفياجرا التي كان يستخدمها، وكل ذلك يحدث أمامنا جميعا، من كبيرنا حتى صغيرنا، هنا استل سكينا وأراد ذبح أمي من الوريد، بدأنا كالمجانين نبعده عنها، صرنا كالمجانين بعد رؤيتنا للسكين، يا إلهي إنها المرة الأولى التي أرى فيها في حياتي رجل يريد نحر زوجته أمام أبنائه جميعهم، كنا في حالة خوف وهلع شديدين، ونحاول إسكات أمي ولكنها أبت السكوت وأخذت تصرخ فينا لإبعادنا، وهو أخذ يركلها في بطنها لإجهاض الطفل، كان كل خوفها في ذلك الوقت على الطفل لا حياتها، فبدا لوهلة أن حياتها على قاب قوسين أو أدنى، خفنا كثيرا، بعد هذه المجزرة البشرية، ملحمة تجسدت أمامنا بكل تفاصيلها، بعد 19 يوما نزفت أمي وأخذها أخي للمستشفى وسقط الطفل، هذه المجزرة كرهتني في أبي كثيرا.
أريدكم أن تنصحوني وتخبروني بالحل، مع كل فرد رأيتم أنه يعاني من مشكلة في هذا المنزل.
وجزاكم الله خيرا.
31/3/2022
رد المستشار
الابنة العزيزة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اسمحي لي قبل الدخول في موضوع الاستشارة المطولة جدا أن أثني على قدرتك على التعبير عن نفسك وعلى قدرتك على رسم الشخصيات بتفاصيلها الدقيقة وبتناقضاتها الواقعية، وهذه ملكة ربما لو أحسنت استغلالها تجعلك كاتبة مرموقة في يوم من الأيام، وخاصة أنك –كما ذكرت– تعشقين القراءة، وقد تكون المأساة العائلية التي عشتها هي مخزونك للكتابة عن البشر وتناقضاتهم وصراعاتهم ومواقفهم.
إن أباك لديه ميول تعددية، وهذه نقطة ضعفه التي لم يستطع التحكم فيها (أو ربما لم يرغب هو أساسا بالتحكم فيها)، وهذه صفة قد يصعب تغييرها فيه خاصة في هذا السن وقد كان هذا مصدر مشكلات عديدة لكم جميعا، وقد شجعه على التمادي في هذا الأمر ضعف الوازع الديني لديه، ذلك الوازع الذي كان حريا بأن يوقف أو على الأقل يخفف من وطأة هذه الرغبة المسعورة لديه، أما الأم فقد واجهته بكثرة الإنجاب في ظن منها أنها في يوم من الأيام ستكبله بكثرة العيال، ولكن هذا لم يحدث، بل حدث عكسه، وازداد انصرافه عنها ونفوره منها وقسوته عليها، ولكن الأم لم تكن تملك أسلحة أخرى غير الإنجاب لذلك كانت مصرة عليه لآخر لحظة، وكان الوالد يحاول تجريدها من هذا السلاح، والنتيجة في النهاية حدوث إجهاض مرتين متتاليتين.
نأتي إليك أنت، فنرى أنك مررت بفترة ضياع وتيه واضطراب في بعض السلوكيات وصلت إلى شكوى إدارة المدرسة منك وهجر أسرتك وإهمالهم لك في محاولة للضغط عليك وإصلاحك، وقد يكون ما حدث منك محاولة للتمرد على الأسرة أو بحثًا عن الحب الذي تفتقدينه، ولكنك اكتشفت عدم جدوى هذا الحل، فتألمت ونضجت، وعدت إلى نفسك مرة أخرى تلملمين أشلاءها، وتفوقت في علوم الحاسوب، ولكن مرة أخرى تحاولين البحث عن الحب فتدخلين في علاقة من خلال الشات يتضح من خلالها احتياجك لمن يهتم بك وفى نفس الوقت خوفك وتشكك بالرجال، وهذا يفسر تذبذب علاقتك بالشاب الذي تعرفت عليه عن طريق الشات، وقد يشكل هذا مشكلة في المستقبل إذا جرى تعميم منك تجاه كل الرجال بأنهم خائنون مثل والدك، فاحذري هذا الأمر حين تقبلين على الزواج حتى لا ينغص عليك حياتك.
واعلمي أن في الدنيا رجال أوفياء مخلصين كما فيها أيضا رجال يخونون، واختاري من يعرف لله حقه فيتقي الله فيك وفى أبنائك، وأنت على الرغم من ما مر بك من ظروف فإنك ترفضين أن تكوني ضحية لها فلديك الكثير من عوامل التميز الدراسي والاجتماعي، وهذا مهم حتى لا تدفعي من حياتك ثمنا لأخطاء أبيك أو ظروف أمك، فأبيك سيحاسبه الله على ما أساء وضيع، وأمك جعلتها ظروفها عاجزة عن تلبية احتياجاتكم كأبناء وبنات، وقد أخطأت هي حين اعتادت أن تشكو لك من أبيك وتقص على مسامعك خطاياه ونزواته.
ليس هذا فقط بل إنك تفكرين في لعب دور مهم في محاولة ربط أواصر هذه الأسرة المضطربة، والتخفيف من وطأة ما حدث لها من مشكلات ومآس، وقد تنجحين في ذلك أو لا تنجحين، ولكن يبقى لك أجر المحاولة وشرف التجربة، وصدق النوايا. ما أصابك لم يكن اكتئابا وإنما نوع من التأزم من اضطراب جو الأسرة المستمر، وقد تكون مأساتك الأسرية دافعا لك للكتابة والدفاع عن الاستقرار الأسري، ولتوعية الآباء والأمهات بآثار سلوكياتهم على أبنائهم وبناتهم وكيف أنهم يعرضونهم لمآس كثيرة على الرغم من أنهم يحبونهم.
وعلى الرغم من قتامة الصورة التي رسمتها فإنها لم تخل من بعض الأشياء الجيدة التي يمكن استثمارها والاستفادة منها فالأب على الرغم من عيوبه فإنه مكافح من أجل رفاهية أسرته، والأم على الرغم من مشكلاتها فإنها صبرت على خيانة زوجها لتكمل وظيفتها كأم وتحافظ على الكيان الأسرى المهتز، وأنت على الرغم من معاناتك فإنك حققت نجاحات على مستويات متعددة، ولا يزال بين الإخوة والأخوات شيء من المودة على الرغم من اختلاف المشارب والتوجهات، وعلى الرغم من الغيرة والتنافس في كثير من الأحيان.
أسأل الله أن يوفقك لعمل كل ما تستطيعين للحفاظ على هذه الأسرة من أن ينفرط عقدها فهي على الرغم من كل ما فيها أفضل من أسرة انفرط عقدها، وأحذر من محاولة استفزاز الأب للدرجة التي يمسك فيها بسكين يحاول قتل الأم، ولكي نتجنب ذلك علينا أن نعرف بأنه هو الآخر محبط في علاقته الزوجية لسبب أو لآخر، وأن لديه مشاعر سلبية تجاه زوجته، وأنه لن يتغير بسهولة حين تضغط الأسرة عليه، بل قد ينفجر غضبا وعدوانا، لذلك من الأفضل تفادي تلك المواجهات الحادة معه حيث إنها لن تفيد. وهناك وسيلة فعالة للتعامل مع تلك المشكلات وهى العلاج العائلي بواسطة معالج متمرس، ولكن هذا النوع من العلاج يحتاج موافقة أفراد الأسرة وخاصة الوالدين إضافة إلى صبرهم وتعاونهم حتى يصلوا إلى حالة أفضل.