![]() |
الدعوة إلى صياغة ميثاق نفسي فطري أخلاقي: إطار علاجي وطني لمعالجة الرضوض النفسية السورية وتجاوزها
🌍 السياق التاريخي والتشخيص النفسي الجمعي
إن تجربة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي أسفرت عن صدمات جماعية هائلة وتفكك للمنظومة الأخلاقية، دفعت المجتمع الدولي لإنشاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (قصر شايو، باريس). هذا الميثاق لم يكن مجرد نص قانوني، بل كان محاولة لـترميم الذات الإنسانية الجمعية بناءً على مسلمات فطرية (Innate) وقيم مطلقة، مؤكدًا على وحدة البنية النفسية البشرية الأساسية (The fundamental psychic structure) واستحقاقها للكرامة والأمان، بمعزل عن المتغيرات الثقافية أو التاريخية. وما تواجهه سوريا اليوم هو أزمة نفسية وطنية تعكس، على نطاق مصغر، ذات مستويات التدمير النفسي التي شهدتها الحروب الكبرى.
🚨 التشخيص السريري للأزمة السورية
لقد أنتج العقد ونصف من الصراع الدموي وباءً من الرضوض النفسية (Trauma Epidemic) واضطرابات ما بعد الصدمة المعقدة (Complex PTSD) التي طالت كل فرد، بغض النظر عن موقعه. إنّ التأثر النفسي تباين وفقًا لـلاستعداد البيولوجي النفسي الفطري وشدة التعرض، لكن الحصيلة العامة هي:
تفكيك مفهوم الأمان الأساسي (Basic Safety and Security) لدى الفرد.
حالة من القلق المعمم والمستمر (Generalized and Persistent Anxiety).
فقدان المعنى/الأنوميا (Anomia/Loss of Meaning) والشكوك الوجودية.
اضطراب في الإحساس بالهوية (Identity Disturbance) والارتباط الاجتماعي.
الخطر الأعمق: إحداث خلل عميق ومزمن في منظومة الحقوق الفطرية للذات، مما أدخل المجتمع في حالة من اللااستقرار النفسي المزمن والحذر المرضي تجاه "الآخر" والمستقبل.
🔬 الحاجة إلى "حراثة" النفس السورية: مقاربة علاجية جديدة
بصفتنا متخصصين في الطب النفسي وعلم النفس الاجتماعي، فإن مهمتنا العاجلة هي إعادة استكشاف "جيولوجيا" النفس السورية لمعرفة عمق الجرح وآليات النزف. لا يمكن تحقيق التعافي المستدام إلا من خلال:
أ. تنظيف الجرح النفسي العميق:
يجب وضع برامج تدخلية نفسية-اجتماعية شاملة لـمعالجة الجرح السوري قبل محاولة "تضميده" (Healing before Bandaging)، لتفادي التقيح المزمن (Chronic Suppuration) وتجذّر الاضطرابات.
ب. تشكيل لجان الحوار العلاجي:
تأسيس ورشات عمل ولجان حوار نفسي-اجتماعي واسعة، بمشاركة أطياف المجتمع وتحت إشراف خبراء سوريين ودوليين، للوصول إلى ميثاق نفسي وطني متين.
ج. تجاوز قصور النماذج السلوكية والإدراكية:
لقد أثبت الصراع السوري أن النظريات التقليدية (السلوكية، المعرفية، البيولوجية البحتة) عجزت عن تفسير مرونة وصمود (Resilience) الفرد السوري الذي تمسك بـمعانٍ وجودية متعالية تجاوزت الواقع المادي المظلم. هذا يفرض علينا إعادة تعريف الإنسان بأنه محكوم بـكليات وقوانين نفسية-أخلاقية فطرية تشكل الطبقة العميقة للذات.
🌟 الميثاق النفسي الفطري: إطار علاجي مقترح
يجب أن يستند هذا الميثاق إلى:
مفهوم الكرامة الفطرية (Innate Dignity): الكرامة هي محدد أساسي للبنية النفسية السوية، وفقدانها (خاصة في حالات الانتهاكات الجسدية والنفسية كالاغتصاب والإذلال) يسبب رضوضاً علاجها مستعصٍ.
المعالجة: لا يتم شفاء هذه الرضوض إلا بإعادة ربط الكرامة بـمنظومة مقدسة متعالية (Higher Transcendent System) تضمن للإنسان قيمته واستحقاقه، رغم ضعفه البشري. هذا يوفر غطاءً تطمينياً نفسياً (Psychological Containment) في وجه الواقع المرير واليأس.
العدالة الأخلاقية والمعنى: النفس البشرية مفطورة على طلب العدل وكره الظلم وحب الفضيلة. أي تشويه لهذه القيم يولد اضطراب اللايقين والانسحاب من المعنى.
مقاربة العلاج الجمعي (The Collective Therapy): يتطلب الأمر إعادة بناء الخارطة النفسية الاجتماعية وفق محددات واضحة تهدف إلى: استعادة الثقة البينية وإعادة وصل النسيج الاجتماعي والنفسي الممزق.
معالجة المجرمين والمنحازين نفسياً: هم بحاجة إلى تبصير ذاتي وتأهيل نفسي (Rehabilitation) لمعالجة آليات الدفاع المرضية التي يستخدمونها لتخفيف "ألم الضمير" (Guilt Pain). ليس هدفنا إصدار الأحكام القضائية، بل إعادة وصلهم بوعيهم الفطري بالحق والباطل.
الخلاصة:
إن الطريق لإنهاء النزيف السوري يبدأ بـعلاج الرضوض الجمعية، وهذا العلاج لا يتم بحبة دواء أو تغيير سلوك، بل بـتأسيس مرجعية نفسية فطرية-أخلاقية (A Fundamental Psych-Ethical Framework) تتجاوز الأيدولوجيات لترسخ الأمان والمعاني، وتحرر الإنسان من وهم الحرية السلبية (Erich Fromm) نحو الحرية ذات المعنى والاستحقاق.
د. موسى طه الزعبي بمشاركة الاستشاري د. وليد سرحان
8-12-2025
واقرأ أيضًا:
التقرير العربي النفسي الأول عن غزة / أشرف بعدم انتمائي للجمعية الأمريكية لطب النفس
