أخي الكريم، أحببت زميلتي في الجامعة وعن طريق وسيط علمت أنها تبادلني الإعجاب والتعلق؛ فتقدمت لخطبتها ووافق أهلها على مضض؛ لأني كنت خريجًا جديدًا وما زالت إمكاناتي محدودة رغم أنها كفيلة لبدء حياة معقولة ولا عوز فيها، وخلال الخطبة نما الحب بيننا بدرجة لا توصف، وكنا في تفاهم عجيب، وكل منا يريد أن يرضي الآخر بأي شكل، كنا نفهم بعضنا بنظرة العين، واستمر الحال عامًا كاملا حتى إذا اقترب العقد رأى أهلها أن يفضوا الأمر، طبعًا طوال هذا العام وأنا أتحمل سماجات كثيرة في سبيل حبي، وهي تحملت ضيق أهلي بالأمر لما يرونه من تعنت أهلها، ولكننا كنا نصبر بعضنا بالبيت الذي سيضمنا قريبًا وبعد الفسخ ضغطنا على أهلنا كي تعود الخطبة؛ فعادت وبعد أقل من شهرين فسخت لتعنت أبيها، ووصلت لمرحلة اللاعودة رغم أننا كنا نصبر بعضنا ونحلم بالخير في المستقبل، وأدخلنا وساطات شديدة، وكان الأقارب والأصدقاء متعاطفين جدا، ولكن تدخلهم وجد صدًّا من أهلها، والجو كان قد تسمم بين الأهلين.
ولما وجدت الأمل قد انقطع قلت لها: اذهبي لحالك وارضي بمن يتقدمون طالما فيهم الخير، رغم أنها أصرت على العناد مع أهلها إلى أن يرضخوا، لكنني رأيت أن تشجيعها على ذلك كان معناه أن نضيع وقتنا في سراب، وربما نتج عن اللقاءات والتليفونات ما لا يرضي الله؛ فأخذت قرارا بالفراق وأعانتني عليه، وظللت إلى أن تزوجت وارتبطت أنا بغيرها.
وسبحان الله جاءت زوجتي الحالية أفضل بكافة المقاييس الجمالية والاجتماعية والتقارب الفكري والبعد الإيماني والدعوي، ويظللنا الحب والتفاهم فما المشكلة؟ المشكلة أنني حين أتذكر الحب الأول بغضاضته وبراءته أجد أنها ما زال لها رصيد في قلبي، غصب عني والله أجدني أتذكر تعليقاتها ونكاتها وأبيات الشعر التي كانت تعلق بقلوبنا، ونجد فيها سلوانا بعض الوقت، وهذا يا أخي لا أملك فيه شيئًا، ما زال الحب الهادئ يتملكني، صحيح أنه لا يعصف بي ولا يترتب عليه عمل ترفضه أخلاقي، لكنني بالواقع أجد بعض الخيانة لزوجتي الحبيبة التي هي منحة من الله، كما أنني أشعر بالضيق من أهلها الذين فرقوا بيننا،
خاصة ـ أخي الكريم ـ أن هذه المشاعر نمت في النور أمام الجميع. أخي الحبيب، ليس لدي نية للخيانة والغدر، لكنني ما زلت أكتب خواطري حول هذا الأمر، وما زلت أستمتع بالموسيقى التي أهدتها إليّ، وما زلت أتذكرها، أخي الحبيب ربما رأيت مشكلتي ساذجة وأنني إنسان فارغ، لكن الموضوع لم يصل بي للتوهان والضياع مجرد مشاعر لا أسيطر عليها، بل أجد متعة فيها.
أخي إنها بلا مبالغة كشمس الضحى صافية وهادئة لا تحرق،
أخي أخشى أنك لا تفهمني... والسلام.
27/6/2024
رد المستشار
الأخ الكريم، لحسن حظكم، وربما لسوء حظي، أنني أفهم بفضل الله.
فالفهم عبء ومسؤولية، وخبرة وألم.. وأنا معكم كالمرتحل أجلس معك اليوم أحتسي الشاي في ضوء شمس الضحى، ثم يقفز بي آخر في جحيم رغبة حمقاء، تتقطع أنفاسي وأنا أصعد قمة جبال الطموح، وأحاول التماسك في حالة من راق له التردي في الهاوية.
تجرني إحداهن لتروي لي تقصير زوجها في الفراش، وتطالبني أخرى أن أعلمها فنون الإمتاع، ويقذفني آخرون بححم من التشوهات والشذوذ، وأنا ينبغي أن أفهم وأتماسك، لأحلل وأحل قدر الإمكان، ولا يسعفني غير مدد الله وفتحه، فلا علم هنا يكفي، ولا كهانة تفلح، لا يوجد غير الاعتماد على المولى عز وجل، وهو إن شاء يكشف ويجلي، إن شاء يحجب فلا ينفع تحليل، ولا ترى بصيرة، الفضل كله منه، والتوفيق منه والتقصير والغفلة مني.. ولولا لطفه وكرمه، ومدده وعونه لتلاشى كل شيء، ليس في هذا الباب فحسب، ولكن في الكون كله.. وأسألكم الدعاء.
نعم يا أخي أفهمك، وفي حياة كل إنسان طبيعي يوجد هذا الشيء الرائع الذي يتعلق بالذاكرة والعواطف أكثر مما يتعلق بالواقع، والمسمى بالحب الأول.
ووددت لو درست حياة أولئك الذين تزوجوا الفتاة الأولى في حياتهم، وأكاد أجزم حالهم من حيث الرضا أو السخط لا يختلف كثيراً عن غيرهم:
• لأن منطق الحب غير منطق الزواج، وقد شرحت هذا من قبل. في الحب أنت تقرأ الشعر، وقد تكتبه، وتستمتع إلى الموسيقى، وتسهر الليل تعد النجوم، وتناجي القمر، ولا ترى في الحبيب إلا كل جميل، وعين الرضا عن كل عيب كليلة، و"مرآة الحب عمياء" كما يقول المصريون.
• أما في الزواج فتنكشف لك بقية الصورة، تتوسط الشمس كبد السماء فتدفئ وتضيء وتلسع، وتتذوق طعم الأبوة الجميل، ومقابل ذلك تستيقظ أحيانًا على صراخ ليل، أو تكظم غيظًا في مواجهة خطأ طفل لو صدر عن كبير لنسفته نسفًا، وتجمع إلى روح الحبيب لحمه ودمهن وترى عيوبه أوضح، وتعيش في ظلال إيجابياته.. وهكذا.. هذا منطق وذاك منطق.
• والحب الأول - مثل كل أول - طازج وبكر، ساذج وغض، فيه متعة الاستكشاف والمعرفة مع لذة التجريب وآلامه، وهو بهذا المعنى صفحة عزيزة لا تتكرر، ولو تجمدت الحياة عندها لصارت بؤسًا وشقاء مقيمًا.
تخيل لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضي بقية عمره جاثيًا عند قبر خديجة حبه الأول والأكبر، أو تخيل أن الذاكرة حلت مكان التفكير؛ فأصبح الإنسان يعيش في التاريخ، ويعاشر الأطياف والأشباح، ويكتفي بقصور الخيال الماضي عن عمارة الأرض في الواقع.
• ولأن الحب الأول بطبيعته تغلب فيه العواطف واندفاع المشاعر على حسابات العقل، وتقديرات الواقع، ولعله من الأفضل أن يظل خيالاً يداعب أرواحنا، ونقول ليته تحقق، من أن يتجسد واقعاً فنعود نشكو كم كنا غافلين؟! ربما يكون من الأفضل أن نحتفظ بالدفء يملأ جوانحنا ، ولو كان دفء شمس الخيال ،من أن يتحقق هذا الخيال؛ فنجده مجرد ظلال من يحموم لا بارد ولا كريم!!! أقول ربما.
• ومن أسباب رسوخ الحب الأول في النفس أننا غالبًا ما نقاتل من نجهل؛ لأنه أحيانًا يكون ضد المنطق السوي الناضج، وأحيانا تعاندنا الظروف لأسباب أخرى فنقاتل، ونحن كبشر نعتز بما نقاتل من أجله، ونجاهد في سبيله، ولو كان عودًا من خشب أو ثوبًا ممزقًا من خيش.
لاحظ أنك قاتلت من أجل حبك الأول، وربما سهّل الله لك الارتباط بالثانية؛ فاختلطت عندك مشاعر النضال والهزيمة تحسبها جزءًا من الحب الأول ذاته، رغم أنها تنتمي إليك بأكثر مما ترتبط بمن انفصلت عنها.
•ثم نحن كبشر ما زلنا نمد أعيننا إلى ما فاتنا ونغض الطرف عما بين أيدينا، والقرآن ينبهنا في توجيهه لسيدنا رسول الله حين يخاطبه المولى قائلاً: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه" وحاشا للنبي أن يفعل، ولكنه القدوة، وذلك بعض ثمنها، أي أن يكون التوجيه لأمته مخاطباً له هو شخصياً. لاحظ أنك تتطلع للشمس البعيدة في السماء، وتنسى السراج المنير التي هي أجمل وأنسب وأبقى بإذن الله.
وبالجملة يا أخي - فقد أطلت عليك- لا أرى فيما أنت فيه ما يستحق الإنكار ، ولا يمكن وصفه بالخيانة من قريب أو من بعيد، إذا ظلت الأمور في حيز الذكريات، وأعتقد أن الأمر ما يلبث أن يضمر تدريجياً مع أحداث الحياة ومستجداتها، ولا يتعارض الوفاء للماضي بما يليق مع مراعاة الحاضر بواجباته ومتطلباته.
فأعط الزمان فرصة ليقوم بدوره التاريخي، وأعط نفسك فرصة لتسمع موسيقى جديدة، وتقرأ شعراً جديداً، وتعرف امرأة جديدة هي اليوم تحتك وتُسأل عنها غداً يوم الهول العظيم.
ليس معقولاً أن يكون الحب هو مجرد الليلة الأولى، ولا أن تكون النساء هي مجرد المرأة الأولي، وإلا كان الإنسان مثل عود الثقاب لا يشتعل إلا مرة.
أرجو ألا تقاوم الذكريات الجميلة، كما لا تدعها تحجب عنك روعة واقع تعيشه، فافتح لزوجتك حساباً في قلبك، وسيزيد رصيده حتما على الرصيد الآخر مع الوقت، والمعاشرة، وتبادل الود، وتكامل الوصل، ولا تكن مثل الذين قالوا لموسى عليه السلام: "لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من فومها وعدسها وبصلها".
فلم يقنعوا بطعام واحد، ولو كان المن والسلوى، فلا تستسلم لنداء الماضي على حساب الحاضر والمستقبل، ولا تعتسف الإجهاز على الذاكرة والذكريات، ولا تقم مقارنة ظالمة- وغير منعقدة أصلا- بين شمس الضحى التي هي بعيدة في السماء، والبدر الذي في بيتك فكلاهما نور، والنور لا يعاكس بعضه بعضاً..
هل تراني فهمتك؟!! أرجو ذلك، وأتركك للأخت/ سمر عبده، فهي تود أن تقول لك المزيد:
المرسل الفاضل، أحمد فيك صراحتك وصدقك مع نفسك، وأحمد فيك عقلك وإرادتك التي أعانتك على كبح زمام عاطفتك القوية، فهكذا أخي يكون الرجال.
أخي، لسنا آلات نضغط على أزرار فنتحكم في مشاعرنا وعواطفنا ونحولها كما نشاء، نمحو ما نشاء ونبقي ما نريد، بل نحن بشر نجمع بين القوة والضعف، والخير والشر، والعقل والعاطفة فهون عليك.
يا أخي، ليس كل ما يمتناه المرء يدركه، ولعل في ذلك خيرًا، فربما كان في زواجك منها ما يضيع دينك ودنياك، ولا نعلم أين الخير؟ ولكن نرضى بقضاء الله ونحمده.
وأحسبك أحسنت التصرف؛ فرزقك الله زوجه صالحة لتقرًّ بها عينك.
نعم يا أخي، يصعب التحكم في مشاعرنا أو أن نلغي فترة من حياة عشنا فيها أيامًا جميلة أوقاسية.. ولكن من نعم الله علينا النسيان مع الوقت والزمن. فأحسبك متزوجًا حديثًا، ولم يمر على زواجك فترة كبيرة، وأحسبك لم ترزق بالأولاد، فهذه الأمور: طول العشرة، وإنجاب الأولاد كافية لتشغلك عن ذكرياتك، وسيمتلئ قلبك بحب أكبر وذكريات أجمل تغنيك عما فات. نعم سيظل في قلبك مكان لذكريات جميلة لأيام جميلة، ولكن مع الأعباء لن تجد وقتًا للتفكير فيها، إلا إذا تعمدت تذكير نفسك بها.
لذا أخي أنصحك أن:
1- تبتعد عن كل ما يذكرك بها "سواء هدايا أو غيرها".
2- أن تحاول الاستغناء بزوجتك بإسقاط مشاعرك وعاطفتك عليها.
وأنصحك ألا تستسلم لخواطرك وأفكارك؛ فقد تضرك أكثر مما تنفعك، وأن تحاول أن تصنع ذاكرة جديدة، أو صفحات أخرى في دفتر ذكرياتك تكون فيها زوجتك هي الشريكة والحبيبة.
أخي، هي طبيعة البشر، إننا إذا سعينا لأي أمر ولم نحصل عليه تخيلنا أن كل الخير فيه، وحتى إذا أنعم الله علينا بخير كثير غيره لا نشعر بقيمته، ونحلم بما لم ندرك ونجمله ونزينه.
وأخشى أخي أن تشغلك خيالاتك عن الاستمتاع بحياتك، وأن تستغرق فيها فتنسى ما بين يديك من خير. فحاول يا أخي والزمن معين على النسيان، واحذر أن تستسلم لشمس الضحى، فتجلس بها طويلاً؛ لأن شمس الظهيرة قادمة لا محالة وقد تحرقك بنارها.
وكن على اتصال، وفقك الله وأعانك
واقرأ أيضًا:
الحب الأول: معلمي وأحلامي ومشاعري
الحب الأول: إكرام اليت دفنه!
فشل الحب الأول: آلام في العمق!
أوهام الحب الأول آخر الدواء الكي!
هواجس وأوهام الحب الأول