في مصر وغيرها: الواقع والأمل مشاركتان
ثم أي؟..
نعيب الحكومات والعيب فينا.. أنا لا أبرئ الحكومات، بل هي متهمة وعليها وزر عظيم.. ولكننا نحن الآخرين مسؤولون.. نبحث عن الكسب السريع لتكوين النفس والإسراع بالزواج وما إلى ذلك..
لماذا لا تكون منا فئة مستعدة للكسب البطيء بشركات تقام "تحت بير السلم" أو في "الجراجات" ليس لأن دولتنا تستحق.. وإنما لأن إسلامنا يحتاج.. ندرس في الخارج.. لا بأس.. ولكن نعمل في الخارج، وتكون صناعاتنا أسلحة تشهر في وجوه إخواننا بعد ذلك فكلا.
والله يا إخواني نحن نحب دومًا استخدام الإسقاط لكي ننفي عنا كل خطأ والتهرب من واجباتنا.
هناك الكثير من الشباب الآن ممن يعملون بأسلوب الشركات "تحت بير السلم" حتى والله لقد ظهرت نتائجهم الآن.. وإن كانت طفيفة.. وإن كان هناك بطء في الكسب.. ولكن من كانت نيته لله رزقه الله.. هذه هي الإيجابية ضد الحكومات.. ولأن لم نجد نتاج أعمالنا فمعذرة إلى ربنا.
أنا والله أدرس في آخر سنة بكلية الهندسة، وأملي كبير؛ لأن العولمة ما تركت لنا مبررًا في عدم التقدم العلمي.. الأبحاث على الشبكة تحتاج من يطلع عليها.. وحتى الدورات المتقدمة موجودة، ومن منع منها علمه من لم يمنع، ومن جاهر بالاشتراك في التيار الإسلامي ساعده من لم يجاهر.
والله كلنا نريد التغيير، ولكنا ما توجهنا مرة إلى الله بالدعاء لكي يساعدنا أن نجد من يوصينا بالصبر عليه.. الصبر الصبر.. لا تغيير إلا بنا.
ولئن سافر المتفوقون كلهم.. فيظل في بلادنا الراضخون الضائعون فتزداد الفجوة ويضعف الأمل.. هذا ما أعلم والله ورسوله أعلم.
وختامًا.. أريد أن أشكركم جدًّا على هذا الباب.. وجزاكم الله خيرًا على ما تفعلون..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
58/7/2024
رد المستشار
أخي الكريم..
بمقدار ما نكف عن إلقاء التبعة على كاهل حكوماتنا العاجزة الفاسدة المستبدة، وبمقدار ما نضع الخطط لندير شؤوننا بأنفسنا، وننهض بأمتنا بعقولنا وسواعدنا، وبمقدار ما نكدح وننظم جهودنا في هذه السبيل سيكون نجاحنا تتويجًا لإخلاصنا وحسن اختيارنا، واعتمادنا على الله تعالى ثم أنفسنا.
لن نستعيد أمجادنا بشتيمة الحكومات، ولا فائدة أبدًا، ولا وعي ينشأ، ولا تغيير نافع سينطلق إذا بدأنا بسؤال خاطئ: العيب على مَنْ؟! عرفنا وتأكدنا ويرى القريب والبعيد، والذكي والغبي، والكل يجزم بأن أوضاعنا في الحضيض، وأنظمتنا الحاكمة جزء من هذا الحضيض الذي يشدنا إلى أسفل، وعيوب تلك الأنظمة لا تخفى على أحد، ولكن ماذا بعد ذلك؟
لقد دخلت الأنظمة والحركات الإسلامية السياسية السلمية والعنيفة في صراع صفري: إما نحن أو أنتم!!
وبسبب سوء استخدام الأنظمة للسلطة صارت تلك الحركات مكونة بالرعب من السلطة، والرغبة الجامحة فيها بنفس الوقت!! وحتى من وصلوا إلى مقعد الحكم فسدوا وأفسدوا إلا قليلاً؛ لأن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، إلا أن تكون لدينا أمة يقظة، وكوابح صارمة للفساد والاستبداد، والتلاعب بمصائر الناس، وأحوال الخلق والبلاد.
آن لنا أن نتصارح ونراجع تلك الحقبة برمتها؛ لأننا لن نتجاوزها إلا باستيعابها ثم تلافي أخطائها -وهي كثيرة-، والسكوت عن هذا تحت أي مبرر هو محض تأخير للانطلاق الصحيح، ومحض تضييع وقت وجهد في لحظة لا تتسع لهذا الهزل!
ولكننا كما ينبغي أن نتوقف عن شتم الحكومات، فإنه ينبغي لنا أن نكف عن انتظار الحركات؛ لأن الطرفين وصلا إلى طريق مسدود، وبسبب الصراع والمواجهة، والإنهاك وسوء الفهم والتفاهم المتبادل وبسبب ترسانة من القوانين أو القيود، والتراكمات والبيروقراطية والذهنية، وبسبب الجمود والقعود عن التجديد والاجتهاد في الطرفين، فإن كلاًّ من الفريقين صار خارج التاريخ، ولم يَعُد مجديًا أن ننفق وقتًا أو جهدًا في توزيع الاتهامات أو بيانات المطالبة أو الشجب، مع علمنا بأن هناك وسط الجموع هنا وهناك طاقات هائلة، وعقول نيرة، ونوايا حسنة، ولكن النظام -التي هي جزء منه- هنا وهناك ليس نظام إنتاج وتطوير، ولكنه نظام تبديد وتدوير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ماذا يبقى لنا إذن؟
في الحقيقة: كل شيء تقريبًا.. بمشيئة الله، فالأصل يعود حين نتحمل مسؤوليتنا ونبدأ نحن الناس في حل مشكلاتنا الواقعية اعتمادًا على إيماننا بالله، وتفكيرنا في حلول، وتعاوننا، وإبداعنا في تنسيق جهودنا، وتوظيف مواردنا.
نعم يا أخي.. أصل الإنتاج يأتي من المشاريع الصغيرة التي نسميها في مصر أحيانًا شركات أو مصانع "بير السلم"، وأرجو أن يكون التعبير مفهومًا لبقية إخواننا العرب!! وهكذا نهضت النمور الآسيوية.
ويأتي التقدم من فكر تنموي ثوري خلاق وغير نمطي، ويأتي من بناء القدرات التقنية رويدًا رويدًا، ويأتي من استيعاب ما يناسبنا هي علوم ومنجزات التحديث الغربي، ومن هضمه وتطويره، ونحن نمارس هذا -في مصر على الأقل- منذ عقود، وما تأخرنا وتخلفنا إلا حين اعتمدنا على الجهود الرسمية فأصبحنا مثل الأطفال الأيتام العاجزين على موائد لئام لا يهتمون ولا يعتنون، ولا يعبئون ولا يحزنون لأحوالنا المتردية؛ لأن الأهم عندهم هو أحوالهم هم، ومصالحهم الشخصية والعائلية، وآن لنا أن نعود لرشدنا ونعتمد على أنفسنا، ونفطم جهودنا من التواكل على من خذلنا وسيخذلنا، وأن نكف عن انتظار الأمل فيهم، وكما ييئس الكفار من أصحاب القبور، آن لنا أن نيئس من سكان القصور.
كلنا نريد التغيير، ولكن التغيير يسعى إلى من يسعى إليه، والتغيير عمل: "إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم" من أخلاق وأحوال ونظم تشغيل وتفكير وتسيير، أما التواكل والاكتفاء بالدعاء على الظالمين أو انتظار أن يقوموا لنجلس مكانهم، أو مصارعتهم على هذا فقد أثبت التاريخ القريب أن هذا كله مضيعة للأصول والجهود والطاقات، مع احترامي للجميع، ونحتاج بدلاً من هذا الهدر والتبديد إلى بناء قدرات مجتمعاتنا استفادة من كل مورد محلي أو خارجي، والمشكلات معروفة، والمعارف متاحة، كما تفضلت، والفرص للتدريب موجودة عبر الدراسة بالخارج أو تطوير الداخل، والدنيا كلها أمامنا واسعة رحبة ومغدقة على من يسعى ويجتهد، وقلنا قبل ذلك إن نهر المعرفة قد صار يجري في غير أرضنا، وصار لزامًا علينا أن نغترف منه بأيدينا دراسة وتدريبًا أما أن ننقل أرضنا، ونستبدل بأوطاننا غيرها، فهذا لعمري نقص الوفاء والدين، ومن لا وطن له فلا إيمان ولا هدف ولا استقرار نفسيًّا.
أرضنا ها هنا، ولكننا نحتاج إلى رفع المياه من الأنهار البعيدة بالسواقي والقنوات الفرعية أو الجانبية، أو بقواعد تستوطن هناك لتفتح الفرص، وتدفع بالجهود، وتتناغم مع جهد الداخل الناشئ المتعثر فينتعش ويتنامى، وتلتقط المبدعين والواعدين لتضعهم في المحاضن المثلى لينضجوا، ويبدعوا أكثر وأعمق، ويعودوا فاتحين لخير هنا، أو يظلوا قواعد لانتشار أكبر هناك دون أن يغفل أو يغرق هؤلاء العائدون إلى هنا، أو الباقون هناك عن أنهم جزء من خطة واحدة تتوزع فيها الأدوار، وأن رسالتهم أن ينقلوا الماء ليسقي الأرض فترتوي وتنبت الكلأ والمرعى، والخير والغذاء، وألا ينسى هؤلاء أو أولئك أنفسهم فيعتقدوا أن وظيفة الجامعة هنا، أو المنزل الجديد ذو التسعة غرف، وحمام السباحة، والسيارة الأحدث، والحياة الهادئة في بلد "متحضر" هناك هي الهدف أو الغاية أو الحلم أو نجاح الخطة والأمل!!!
ليس الأهم أين نسكن أو ندرس أو نعمل، الأهم هو في أي سياق يجري هذا كله، وفي أي اتجاه، وبأية نية، ومن أية خطة ينطلق، وفي أي سبيل أو غاية؟!
قال تعالى: "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة: 249).
اللهم اكتب لنا النصر.. اللهم آمين.