أختي الكريمة صاحبة المشاركة..
كما أثنيت على صاحبة المشكلة: على أبواب الخريف: تسقط أوراقنا الهشة لبلاغة أسلوبها وجمال تصويرها.. فاسمحي لي أن أثني عليك لروعة الأسلوب وقوة الحق التي تبدت خلال السطور.
زميل لي قرأ المشاركة وحثني على قراءتها قائلاً: إنه لم يرَ مثل هذه القسوة من قبل ولم يتصورها كرد... استفزتني كلماته لكي أقرأ.. وقرأت...
قد تبدو كلماتك في ظاهرها قاسية... شديدة اللهجة، ولكني استشعرت فيها رأفة ورحمة وإحساسًا عاليًا.. رأفة بالزوج وبالأسرة وبالمجتمع، وكرهًا للـ "الحال المايل" أيضًا.
أشكرك سيدتي على أنك بكلماتك القوية قد صقلت مرآة دقيقة ترى فيها صاحبة المشكلة صورتها.
أنا لست متحاملة عليها.. أبدًا والله، بل بالعكس فأنا أرى أن كلماتك قد تكون أول خطوة لنهاية عذاباتها.. ففي مثل هذه المرآة المخلصة نرى حقيقتنا ونفهم دواخل أنفسنا.. ومن هنا يبدأ الحل.. بعد الفهم.. إنك عملت بنصيحة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا".. فأنت نصرت أختنا في الله وهي ظالمة أو مظلومة بإهدائها مثل هذه المرآة.. فجزاك الله خيرًا، لعل كلماتك قد صنعت مرايا كثيرة بداخل كل منا.. يرى فيها مسحة من أنانيته وتمركزه حول الذات.
كلماتك القاسية الحانية.. ذكرتني بحكم الله العليم في أمر الزنا ففي الآية: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) [النور: 2]، وتفسير هذه الآية في "في ظلال القرآن" يوضح أننا إذا أردنا الرأفة بفردين أخطأ في المجتمع فإن في ذلك ظلمًا للمجتمع بأسره؛ ولذلك فإن تنفيذ الحكم في فردين هو في الحقيقة رحمة واسعة بمجتمع كامل، وكذلك كلماتك... قد تكون حكمًا قاسيًا على صاحبة المشكلة، ولكن فيها رحمة غامرة بالزوج والأبناء والأسرة.
أما أختي الكريمة صاحبة المشكلة فأنا أشعر بمشاعرها؛ لأني قد مررت بما يشبهها من قبل... وعانيت من صورة الزوج الباهتة فترة، ولكني وحمدًا لله اكتشفت أن ليست صورته هي الباهتة.. وإنما هي عدساتي.. نعم إن العيب كان في الصورة التي أراها وأرسمها وأتخيلها ثم أصدقها وأنعيها، ولكن الله عز وجل هداني لتمرين بسيط جربته وجاء بنتيجة فعَّالة، وأعاد لي السعادة والرضا... سوف أشاركك هذا التمرين لعله يعيد لك سعادتك أيضًا.
لم أكن سعيدة في حياتي فزوجي ليس فتى أحلامي.. تداعبني أحلام رومانسية ووردية.. لم يكن أمامي سوى أن أستمر أو أنفصل.. فكرت أولاً بالانفصال، وتحمست له لأني لست سعيدة مع زوجي، وبدأت أردد هذه الفكرة وأناقشها مع صديقاتي وأجدها الحل الوحيد، ولكن.. طالت الأيام وأنا أتكلم وأرغد وأزبد وأشكو دون أن أجرؤ على التنفيذ بجدية والتحرك بإجراءات الطلاق أو الخُلع.. في هذه اللحظة اكتشفت أني لن أستطيع مواجهة هذا القرار وتحمل تبعاته الآن.. إذن فحياتي الزوجية في ضوء هذا الخيار ما زالت محتملة!!
ولأني لا أحب الانهزام وضعت أمامي هدفًا.. إن لم أكن قادرة على تبديل حياتي.. إذن فتغييرها إلى الأفضل هو الحل، وكنت مدركة جيدًا أنه لا بد للتغيير من ثمن.. أدفعه لكي أهنأ به.
ففعلت الآتي:
1 - ركزت في شكاوى صديقاتي ومعارفي من الزوج فوجدت أن زوجي أهون من كل هؤلاء.. فهو مثلاً لا ينهرني أمام الآخرين مثل زوج فلانة.. ولا يدقق معي في الخروج والدخول مثل زوج علانة.. ولا يفرض عليّ تقديم فروض الولاء والطاعة لأهله، ولا يصادر رأيي ويسمع صوته فقط.. ولا.. ولا.. ولا.. فوجدت زوجي أفضل خيار لي.
2 - بدأت أفكر بالصور الجميلة التي أراها لرجال آخرين حولي... وتفكرت برهة.. فوجدت أنهم أيضًا أزواج أو سوف يكونوا أزواجًا لنساء بالتأكيد لهن شكاوى أيضًا.. ولكن الفرق الوحيد أني لم أسمع هذه الشكاوى ولم أرَ الوجه الآخر لهؤلاء الرجال كأزواج.
3 - شعرت حقًّا بالمثل القائل "it is always green on the other side" "إنها تبدو دائمًا أكثر اخضرارا في الجانب الآخر" فقررت أن أنحي الجانب الآخر من خيالي تمامًا، وإذ فعلت ذلك تبدت لي خضرة جانبي وازدهار وروده.. بعد أن كانت مقفرة وذابلة مقارنة بخضرة الجانب الآخر.
4 - وهنا... شعرت أني لكي أنعم بالسعادة والهنا... يجب أن أتعلم العطاء.. نعم.. يجب أن أقف بالساعات في المطبخ وبـ "حب" لكي أصنع أكلة زوجي المفضلة.. يجب أن أفكر فيه وفيما يسعده.. يجب أن أشاركه فكره بروحي بدلاً من أن أجلس بجواره بجسدي صامتة أفكر وأحلم أحلامًا هو ليس بها.
طاعة لله عز وجل أولاً.. وجلبًا لسعادتي أيضًا.
5 - وجدت العطاء إحساسًا جميلاً، ولأني يجب أن أعترف قد أكون أنانية بطبعي.. فقد أعطاني العطاء إحساسًا بالرضا عن ذاتي.. وبالتالي أشبع أنانيتي؛ لأنه الآن قد أصبحت صورتي أجمل.
والحمد لله الآن حياتي أفضل بكثير بعد أن أصبحت أطرد أي خيال آخر حتى لا أرى صورة غير صورة زوجي.. قد تظني سيدتي أن مشكلتك أعمق وأبعد من كلامي، وأن كلامي نظري جدًّا، ولكن الحكيم لا يحكم قبل أن يجرب.
جربي صفحة جديدة وأنت تملئين عينيك بزوجك الذي يحبك ويتمناك.. حبًّا لنفسك ولسعادتها.. وحبًّا له.. وحبًّا لأبنائك الذين يستحقون أن تسبح مشاعر العطاء والحب الدافئ فيما يستنشقونه من هواء.
أشعر أن بداخلي مشاعر كثيرة نحوك.. كثيرة جدًّا بقدر ما كنت أعاني أنا، ولكني لا أعرف كيف أصيغها كلها.. فاسمحي لي صاحبة المشكلة أن أهديك حبي وإحساسي العميق بك وبمعاناتك..
وأهديك أيضًا تمنياتي بالسعادة والرضا، ولعل لنا لقاء آخر عبر بوابتنا السحرية.
26/8/2024
رد المستشار
أنا سعيد بكل هذه المحبة والحكمة والمشاركة والتواصل بين أسرة زوار استشارات مجانين.. وإذا كانت الصفحات التي تقدم الاستشارات النفسانية والاجتماعية قد أصبحت أكثر من الوقت الذي بدأنا فيه تقديم هذه الخدمة منفردين بها تقريبًا منذ ما يربو على عقدين من الزمان، إلا أن صفحة "استشارات مجانين" صورة متميزة بفضل الله سبحانه، ثم بفضل هذه الروح العالية لكم أخواتي الفضليات ثم إخواني الأفاضل.
فها هي أخت كريمة تفتح لنا قلبها، وتنشر أمامنا خبرتها الخاصة جدًّا، وأحسب أنها خبرة مفيدة للغاية استطاعت عبر الاستبصار الذاتي، والاعتماد على الله سبحانه، ثم على العقل والإرادة أن تعبر مشكلة من أهم مشكلات الزواج في هذا العصر المسكين، وتعالوا نتأمل:
- ملايين الزوجات ترتسم في خيالهن صورة ثابتة وردية لما يسمى فتى الأحلام، وأحسب أن هذه الصورة هي عبارة عن حصاد رحلة النفس من الطفولة والمراهقة بكل المصادر التي تصنع الصور والمعاني، وهي واقعيًّا تركيبة معقدة من أساطير ومعادلات يكمن فيها الكثير من الطموح، وربما الحرمان، والتنميط، والمقارنات، والأوهام.
- صورة فتى الأحلام عند ملايين الفتيات والزوجات العربيات هي صورة وهمية أو مستحيلة والفجوة بينها وبين الواقع الممكن هائلة بدرجات تختلف من امرأة إلى أخرى.
- وأسمع في أذني الآن صوت "عبد الحليم" وهو يقول "كامل الأوصاف فتني" .. وفتنة أغلب "نسائنا تأتي من هنا: من "كامل الأوصاف"!!
- وبقدر ما تكون الصورة الذهنية عن فتى الأحلام وهمية ومستحيلة بقدر ما تكون الصدمة بعد الزواج عظيمة، والألم رهيب، وتتجه المشاعر الحيرى إلى الاكتئاب تارة، أو السعي للانفصال تارة أخرى، أو العلاقة خارج نطاق الزواج لتعويض النقص الموجود بين الصورة المنشودة، والحقيقة الموجودة، وكلها اختيارات بائسة تترنح بينها حواء العربية الآن.
وأختنا في رسالتها الرائعة تكشف هذه الخبرة الشائعة جدًّا ببساطة مذهلة جدًّا جدًّا، وأحسب أن هذا من شفقتها على أختها صاحبة: على أبواب الخريف: تسقط أوراقنا الهشة، وهي لا تكتفي بنشر اكتشافها لخطأ نظرتها فحسب، ولو فعلت هذا فقط لاستحقت الشكر الجزيل، ولكنها تستكمل في وصف بقية الخبرة في ضوء ما تبين لها من مقارنات موضوعية أظهرت لها أن زوجها ليس الأسوأ، ولكن ربما يكون من أفضل الرجال، وعلى الأقل فهو "الأنسب"، وما أروع وأدق وصفها له بأنه "أفضل خيار لي" فملايين التائهات الحالمات يمددن أعينهن إلى أزواج أو رجال لا يرين فيهم إلا ما هو مفتقد أو ضعيف في أزواجهن.. هذا لبق وزوجي صموت، هذا وسيم، وزوجي ليس كذلك، هذا رومانسي وزوجي عملي أو قاسي أو متجهم، هذا كريم.. وزوجي ممسك، بل ويمتد الأمر إلى مقارنات أكثر تفصيلا: آه من صوت فلان.. يقطر عذوبة، وآه من عيون فلان.. نظراته تقتل.. آهٍ من تعامل فلان يرفع المرأة التي أمامه لتكون أميرة متوجة.. ولا تنقطع المقارنات وتتراكم الصور" وتكون الفتنة.. فتنة كامل الأوصاف الوهمي المتخيل، فتنة الرجل المستحيل إلا في عقول نسائنا.
ولو شاءت أختي المشارِكة أن تضيف لكان طبيعيًّا أن تقول إنها أيضًا ليست المرأة المستحيلة فهناك من النساء الأجمل والأكثر جاذبية منها، وهناك الأكثر مهارة في شؤون البيت، وهناك الأنجح والأروع شكلا أو مضمونًا.. فلماذا تلهث هي وراء "الأفضل" في كل شيء، وذلك مستحيل أن يجتمع في إنسان، ولا تبحث عن الأنسب، أو "الأفضل بالنسبة لها"؟!!
وأتوقف أكثر أمام مسألة الأنسب هذه، ورسالة أختنا تسترسل بنفس البساطة الكاشفة، فهي لا تحتمل أن ينهرها زوجها أمام أحد، أو أن يدقق معها في الدخول أو الخروج، أو أن يطالبها بما تسميه فروض الولاء والطاعة لأهله، أو غير ذلك مما لا يتفق مع طباعها، وتركيبة شخصيتها، وقد يكون زوجها كذلك؛ لأن هذه هي طباعه الشخصية، وربما يفعل؛ لأنه أدرك ما يجرح زوجته، ويضايقها أو بعض ما تحتاجه وتفتقده ففعل، أفلا تحمد له هذه الحساسية في الإدراك؟!!
وتنتقل أختي إلى أفق آخر هام، وهو خداع البصر والبصيرة حين ترى المرأة -أو الإنسان عمومًا- أن ما في اليد رخيص زهيد، وما في أيدي الغير ثمين ونفيس، وهذا من الحسد وقلة الحكمة، فمن على الأرض لا يرون في القمر إلا لمعانه وبريقه وسط ظلام الليل، ومن زاروه من ساروا عليه فوجدوه باردًا وموحشًا، كئيبًا ومليئًا بالحفر، ووجدوا مشهد الأرض من فوق سطحه أروع!! وقبل أن تغادرنا أختنا تهدينا الزهرة الأهم والأجمل في باقة الورود التي نتحفكم بها: لا سعادة إلا ببذل ولا حب إلا بعطاء، وقبل أن أسأل ما الذي يفعله زوجي لي وبي؟ لا بد أن أسأل ماذا فعلت أنا به وله ومعه؟
وهكذا يعطي الإنسان من نفسه فيجده قد أعطى نفسه، فالمعروف هو إيداع في رصيد صانعه قبل أن يكون تحويلا لصالح الطرف الآخر، وقد يصل التحويل إلى رصيد المحبوب كاملا، أو يبدده فلا يدركه أو يمسك بعضه، ويعرض عن بعض، ولكن وصول المعروف والبذل والعطاء إلى الشخص المقصود هو الهدف رقم ثلاثة، وحتى إن لم يتحقق فيكفي إنجاز الهدفين الأول والثاني:
رضا الله سبحانه، ثم جلب السعادة للنفس، ومشاعر الرضا عن الذات.
ما زلنا في انتظار رسالة من أختنا صاحبة المشكلة الأصلية، ولكن وبنفس هذا المنطق الجميل ـ حسبنا أننا نحبها ونشفق عليها، ونحاول دعمها ونصرتها ظالمة أو مظلومة، اللهم اغفر لنا أجمعين.
وأرجو أن تكون هذه المشاركة بداية لتطوير خبرة نقد الذات وتطوير وإنضاج النظرة إلى الشريك، وبالتالي ترقية معاملته والتفاني في إسعاد النفس بإسعاد الشريك، ولا أحسب أن النساء وحدهن يفتقرن إلى هذه الدروس، بل الرجال أيضًا.
ويتبع>>>>>: على أبواب الخريف: من فمك أعظك.. مشاركة3